الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 821/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 821/تعقيبات

بتاريخ: 28 - 03 - 1949


للأستاذ أنور المعداوي

رأي في ترجمة (آلام فرتر):

سيدي:

لقد فرغت من قراءة ترجمتكم العربية الرائعة لقصة آلام فرتر، ومن القيام بمقارنة دقيقة بينها وبين الأصل المقابل في الألمانية. بعد هذا أرجو أن تأذن لي بأن أقدم إليك أصدق التهنئة على هذا العمل الباهر. وإنه ليعد في رأيي خير ما عرفته اللغة العربية في بابه.

أنا واثق من أن الجمهور القارئ في مصر، سيجد في ترجمتكم ما ينشد من متعة بعيدة المدى وكسب لا يحد. إن الدقة في هذا الأسلوب التصويري الوثاب، أسلوب جيتة، لتجد أداءها الصادق في لغتكم، هذه اللغة التي تصبح تحت سنان قلمكم مرنة طيعة لمشاعر المؤلف ومعانيه.

ولقد قمت بمقارنة أخرى دقيقة بين المصدر الذي نقلتم عنه وبين النسخة الأصلية التي ظهرت عام 1787، وأستطيع أن أقرر بأن الترجمة الفرنسية التي نقلتم عنها، قد بلغت من الأمانة حداً يتعذر معه أي اختلاف إذا ما ترجمت القصة عن الألمانية. إن كتابكم ليفوح منه أرج الإلهام الذي يعبق في قصة الشاعر الألماني، وإنني لأرجو أن تتاح لي الفرصة للاطلاع على كثير من أعمالكم الأدبية.

مرة أخرى أعبر عن شكري لما لقيت من متعة خالصة في ترجمتكم لآلام فرتر، آملاً أن أظل.

صديقكم المخلص

بروفيسور دكتور جولياس جرمانوس

هذه هي الرسالة التي بعث بها المستشرق الألماني إلى الأستاذ الزيات، والتي شاء تواضعه أن يحتفظ بها أكثر من عشر سنين دون أن يلحقها بأية طبعة من طبعات كتابه أو يشير إليها من قريب أو من بعيد. . . ولولا أنني طلبت إليه أن أقوم بنقلها إلى العربية لبقيت إلى الأبد لا تقع عليها عين ولا تسمع بها أذن! اقرءوا هذه الكلمات التي تضع الحق في مكانه، ثم وازنوا بينها وبين كلمات أخرى يجترئ صاحبها على الحق حين يعلن أن الزيات قد ألف آلام فرتر. . . إن الفارق بين الرأيين هو الفارق بين دكتور جرمانوس وسلامة موسى!

من الأعماق ولوعة الذكرى:

أيها الأديب الصديق، لماذا بعثت بكلماتك من طوايا حلم دفنته، أشلاء ماض جريج؟. . .

وأنت يا من جرعتني الظمأ من كؤوس حرمانك، ترى هل رفت (من الأعماق) رفيف الزهر في رحابك، وتضوع منها عطر الأسى في ثراك؟ إن الماضي الذي تنهد يوماً في سحيق عظامي، يعود لتناديك أطيافه وتناجيك رؤاه!

أتذكر يوم غمست القلم في دماء القلب وكتبت قصة هواك؟ هواك الذي شيعته بالدمع إلى ظلام القبر، وذقت من بعده غربة الروح في مأتم الأحلام؟ ترى هل ذقت يا شقيق الروح غربة الروح. . هناك حيث ترق الكلمات فتستحيل إلى أنات، تهتك ستار الصبر والجلد، وتترك مكانها من حنايا الضلوع وشغاف القلب، وتخرج إلى الناس تروي لهم فعلت الأيام؟ هناك حيث تعبر النجوى عالم الأسى والأنين، مرتاعه ملتاعة، تنشد الري فلا تجد إلا الظمأ، وتترقب النشوة فلا تحس إلا الألم، ولا تعود من عالمها هذا إلا بأشتات المنى تحتضر؟!

إن فكري ليقطع المدى وثباً ليفرش طريقك بورود حبي. ترى هل يعبق في أفقك أرج فكري؟ إن روحي لترفرف فوق مكانك بجناح طوته على الجراح عوادي الزمن. . ترى هل تسمع رفرفة روحي؟ تعال نهتف في موكب الأيام هتاف الحبيب في كأس فاضت بخمر نواك. تعال نردد في محارب الشجن صلاة تنشج الحسرة فيها ويعول الأنين. تعال. . . تعال من هناك، من وراء الأبد، من وراء الصمت، من وراء الوحشة المطبقة، من وراء السكون العميق. تعال فقد تقطعت من بعدك أوتار النغم فما استمع الحيارى لنشيد. . تعال فقد جف من بعدك أوتار النغم فما سعد الندامى بحبيب!. . تعال وأحمل إلى السماء نفحة من عبقرية الألم في الأرض، وقل لها إننا نعيش من بعدك كما يعيش الشوق الراهب في دير الذكريات!

أقرأ معي هذه الكلمات: (عندما يستحيل الحلم إلى جنون، ينتصب تمثال أسو داخل الروح، وتبرز فجأة شطئان بلورية تطوف بها جماجم الأحياء، وتمتد تحتها في انحدار عنيف بحار متسعة من الجليد، وتستيقظ العطور والضحكات، وتتفتح الكهوف الخرافية بعدما تكون الكنوز قد ضاعت فتزدحم الغابات بنهود من نحاس، وتتصلب الشفاه وهي تبتسم، وتسمع أصوت الفيل آتية خلال النعاس، ويقف ظل أمام ظل، وتغادر الفلول الميدان، ويسمع في السراديب السحرية قرع الطبول، وتبدأ المعركة بين الأشلاء، من أجل الحصول على ذراع أو ساق!

ويحترق الهمس في الهدير، وتنداح دوائر في المياه، من مكان غير معروف، قاصدة في سفرها المرتعش المعتوه التقاء اللانهاية بالعدم).

هل تستطيع أن تفهم هذه الكلمات؟ إنها لأديب مصري اسمه يوسف الشاروني، دأب على أن يتحف بمثلها في كل شهر زميلتنا مجلة (الأديب) اللبنانية. . ويوسف الشاروني هذا واحد من فئة أعرف بعض أفرادها من لقائي لهم بين الطور والكلمات، هذا اللقاء الذي لا يخرج منه أي إنسان عاقل إلا بما حرجت به زوجة الشاعر الإنجليزي روبرت بروننج، حين قدم إليها الشاعر قصيدة نظمها في وصف البحيرة فقالت له: إنني لا أدري إذا كنت تتحدث في قصيدتك عن بحيرة حقاً أم تتحدث عن كلبنا الصغير!

وأنا والله لا أدري عن أي شيء يتحدث الأستاذ الشاروني. ولا أدري كيف اتسعت صفحات الزميلة اللبنانية لهذه البضاعة التي تصدر إليها من مصر، بعد أن أقفلت في وجهها جميع أسواق الأدب في عاصمة المعز! أباسم الأدب والفن يكتب هذا الكلام؟ إن الأدب والفن ما خلقا إلا لتثقيف الناس وهديهم إلى معاني الحق والخير والجمال، فأين من يدلني على لمحة واحدة من لمحات الأدب والفن في كلمات السيد يوسف الشاروني؟. . قد يقول قائل إنها (سمبولزم)، وقد يقول آخر إنها (سير ريالزم)، أما أنا فأحيي الأستاذ عباس محمود العقاد وأقول معه: إنها (تهجيص)!.

لحظات مع الأستاذ العقاد:

حييته هناك ولا بأس من أن أختلف معه هنا، ومهما اختلفت مع العقاد والناقد في نظرته وموازينه فستبقى حقيقة أعترف بها بيني وبين نفسي وبيني وبين الناس، وهي أنني أحترم ثقافة هذا الرجل. إنه يقرأ كثيراً؛ يقرأ في كل شيء، يقرأ قراءة فهم وهضم واستيعاب، في بلد فيه عدد المثقفين وغمرت أسواقه أمية المتعلمين!

إن ذوق العقاد لا يرضيني بعض الأحيان، وكذلك موازينه؛ ولكن ثقافته ورحابة أفقه وسعة اطلاعه تدفعني إلى تقديره والإعجاب به. هذه كلمات يمليها عليَّ الضمير الأدبي، وإذا كنت قد هاجمت كثيراً من آرائه فإنني لا أبيح لقلمي أن يهاجم ثقافته!

لو أنك مقدم على رحلة عاجلة، فأي سبعة كتب تصطحب؟ هذا هو السؤال الذي وجهته إلى الأستاذ العقاد مجلة (الاثنين) في عددها الأخير فأجاب عنه بأنه يصطحب معه هذه الكتب السبعة: ديوان ابن الرومي، اللزوميات لأبي العلاء، تهافت الفلاسفة للغزالي، تراجم بلوتارك، مجموعة شكسبير، تاريخ الفلسفة لبرتراند رسل، خوالج الحيوان لداروين. ولقد تحدث الأستاذ العقاد عن هذه الكتب حديث ناقد يزن قيمها الفنية مشفوعة بأسباب التفضيل والإيثار.

أما ابن الرومي فأنا أعلم أن الأستاذ العقاد يتفانى في حبه وتقديره والتعصب له، ولكن حين يبلغ التعصب حد القول بأن ابن الرومي في مجال الشعر الوجداني لا يضارعه شاعر في العالم كله فهذا هو الانحراف الذي أضيق به ترى أيبلغ ابن الرومي في وصف الخوالج النفسية ما بلغه جيته وهابني في الأدب الألماني، وبودلير وفرلين في الأدب الفرنسي؟ لا أظن! لقد كنت أود أن يقتصر الأستاذ العقاد على القول بأن ابن الرومي في مجال الوصف التصويري لا يفوقه شاعر في العالم كله، فهذا ما لا أختلف معه فيه.

ومرة أخرى تتخلى الدقة عن ميزان الأستاذ العقاد حين يقرر أن (بلوتارك) هو سيد كتاب السير والتراجم في جميع العصور. . . أؤكد للأستاذ العقاد أنه لو قرأ كتاب الفيلسوف الفرنسي جان يول سارتر عن (بودلير) لعدل عن رأيه في بلوتارك؛ إن هذا الكتاب كما سبق أن قلت في (الرسالة) ليعد في رأى الفن خير كتاب أخرج في موضوعه، منذ أن احتل أدب التراجم مكانه إلى جانب الفنون الأدبية الأخرى!

بعد هذا لا أرى كيف يطيق الأستاذ العقاد أن يصطحب معه اللزوميات في رحلة ينشد فيها المرء متعة الذوق والفكر والخيال؟. . . معذرة يا سيدي إذا قلت لك إِن هذا الاختيار لا يرضيني! إن رحلة تخطر فيها اللزوميات لرحلة تصيب الرأس بالصداع وحركة الذهن بالجمود. . . لقد كنت أود أن تصطحب بخلاء الجاحظ بدلاً من لزوميات أبي العلاء!

أدب القصة وأدب المعقب:

تحت هذا العنوان قرأت في عدد الرسالة الماضي كلمة خصني بها الأستاذ نصري عطا الله. . . صدقني إنني لم أكن أنتظر أن أن يفقد الأستاذ أعصابه في بداية كلمته ثم يعود في نهايتها ليفقد ذاكرته! وصدقني إنني شعرت نحوه بشيء من العطف الممزوج بالدعاء. . الدعاء له بأن يحفظ الله أعصابه من الأوجاع وذاكرته من الضياع!

لقد رماني الأستاذ عطا الله بجموح النفس وتمكن شهوة التهكم والتجريح من نفسي. . . يبدو أنه قد نسى أن في الحياة الأدبية في مصر أناساً يستحون التهكم ويستأهلون التجريح ويرغمون الناس على الجموح!!

ينكر الأستاذ أنه كان يعنيني بمقاله. . . لمن إذن كان يوجه نصائحه بأنه لا يصح أن يحكم القارئ الشرقي على شخصية موباسان. لأن ما نقل من أدبه إلى العربية أقل من القليل؟ لي بالطبع؛ لأنني أنا الذي كنت أتحدث عن موباسان! ولمن إذن كان يبعث بتوجيهاته حين يقول (. . . وليس هناك (حيز محدود) أو (اقتضاب ملموس) أو (حد من حرية الكاتب)؟ لي بالطبع لأنني أنا الذي كنت أنادي بـ (الحيز المحدود) في القصة القصيرة

ومن العجيب أنه يؤكد لقارئيه بأنه لم يقارن مطلقاً بين القصة الطويلة والقصة القصيرة. . . ترى من الذي كتب في هذه المقارنة اثني عشر سطراً تبدأ بهذه الكلمات: (تختلف القصة القصيرة عن القصة الطويلة لا في الكم وحده بل في الكيف أيضاً)؟

بعد هذا خرج الأستاذعن موضوع المناقشة ليذكر أنني أضع نفسي دائماً في بؤرة الضوء، وأقول للناس إن الكتاب يرسلون إلي كتبهم راجين أن انقدها مفترضاً أنني الناقد المثالي الأول، حين أعلن في زهو وصرامة أنني وجدت أكثرها لا يستحق العناء!

أقسم للأستاذ عطا الله أنني ما أهملت هذه الكتب إلا لتفاهتها. . . وكذلك الأمر فيما يتعلق بإهمالي لكلمته الخارجة عن موضع المناقشة!!

أروع ما قرأت عن كذبة أبريل:

لا يصل هذا العدد إلى أيدي القراء إلا ويكون (أول إبريل) قد أوشك أن يحل ضيفاً على هواة الكذب الطريف. . . الكذب الذي يلجأ إليه الناس رغبة في اللهو البريء، وشغفاً بالدعابة التي تجني في الغالب على الذين لا يعدون العدة لهذا اليوم الخالد في حساب الظرفاء والكذابين!

ومن طريف ما يذكر في هذا المجال أن إحدى الصحف الفرنسية قد كتبت في اليوم الحادي والثلاثين من شهر مارس سنة 1948 ما يلي: (تقيم الحكومة الفرنسية في صباح الغد معرضاً ممتازاً للحمير بميدان الكونكورد، ومن المنتظر أن يهرع الكثيرون من سكان العاصمة لمشاهدة هذا العرض الذي تقيمه الحكومة لأول مرة، وتحشد فيه نماذج مختلفة من الحمير التي لم يرها الفرنسيون من قبل). ولم يقبل صباح أول إبريل إلا وكان ميدان الكونكورد يموج بالألوف ممن صدقوا خبر الصحيفة ولم يقبل المساء حتى صدرت الصحيفة حاملة إلى قرائها هذا التعليق الرائع: (كان للخبر الذي نشرناه أمس عن معرض الحمير أثره البعيد في نفوس القراء، حتى لقد أقبل الألوف منهم على مشاهدة المعرض. . . ويقول مندوبنا إنه شاهد في ميدان الكونكورد ما لا يقل عن عشرين ألف حمار)!!.