الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 820/روسيا والسلم

مجلة الرسالة/العدد 820/روسيا والسلم

بتاريخ: 21 - 03 - 1949


للأستاذ عمر حليق

هناك تعليلان في رأي (ماكس بيلوف) للأسباب التي دعت موسكو مؤخراً لأن تحمل غصن الزيتون وتواجه خصومها حلفاء الغرب أمام الرأي العام العالمي بأنها دعاة حرب لا يرضون الدخول في مفاوضات مباشرة لتدعيم السِّلْم في هذا الجو الذي ازداد توتراً.

أما التعليل الأول فيقول بأن روسيا جادة في حملتها السليمة الأخيرة، وأن التحطيم الذي أصاب المدن والعساكر الروسية في الحرب المنصرمة هو تحطيم طاحن لا يزال هوله يسيطر على مخيلة الشعب الروسي فهو يخشى الحرب حقاً ويبغي السلم، وأن حالته النفسانية هي كحالة معظم سكان أوربا الذين نالتهم المجزرة الأخيرة بوبلاتها. ولذلك فإن هذا التعليل يجد من يؤمن به من الأوربيين خصوصاً أتباع الأحزاب اليسارية التي تميل إلى مسايرة السوفيات. ويقول أنصار هذا التعليل كذلك أن العقلية الروسية ليست عقلية عسكرية كعقلية الشعوب الجرمانية، وذلك فإن حرباً طاحنة كالحرب المنصرمة كانت كافية لأن تزيل غشاوة العنف والغطرسة العسكرية عن أعين الروس فتجعل رغبتهم في السلم حقيقية.

أما التعليل الثاني فيقول إن مراكز التوجيه في قيادة روسيا السوفيتية اليوم في يد جماعة من المتهوسين وهم مسؤولون عن مسلك موسكو الحالي في العلاقات الدولية، وأن ستالين هو أسير هذه الجماعة التي منها مولوتوف وزير الخارجية وكبار قادة الجيش السوفيتي. وأنه لو تسنى لأحد أن يخترق هذا الحصار المضروب على ستالين - كما فعل عدد من الصحفيين الأجانب في موسكو مؤخراً - لوجد أن لديه استعداداً حقيقياً للسلم. ويبدو لي أن المستر ترومان ومتشاوريه الخصوصيين في البيت الأبيضمن أنصار هذا الرأي. فهم يعتقدون خطأ أو صواباً بأن ستالين رجل (طيب القلب) على حد تعبير ترومان يرغب في السلم لو تخلص من أسر (البوليت بيرو) المكتب السياسي الأعلى للاتحاد السوفيتي.

هذان هما التعليلان اللذان يقومان لتفسير حملة السلم التي صدرت عن القيادة الشيوعية الدولية في الأسابيع الأخيرة. ولنا أن نتساءل أولاً: هل الروس راغبون في السلم حقاً؟ وإذا اقتنع حلفاء الغرب بهذه الرغبة، فلماذا لا يمدون يدهم للروس لتدعيم السلام في نية صادقة؟

والجواب على هذا التساؤل صعب. فإن تاريخ السوفيات في روسيا يشير إلى سرعة التقلب في سياسة روسيا الخارجية عندما تتطلب منها الظروف ذلك. وخير مثل على ذلك اتفاق روسيا وألمانيا النازية في مطلع الحرب العالمية الثانية بالرغم مما في المذهبين (الشيوعي والنازي) من التناقض والمعاداة والتنافس. ومن أبرز الأمثلة على التقلب موقف الشيوعية السوفيتية من الصهيونية التي وصفها ستالين في كتاب (الماركسية ومشاكل الأقليات والاستعمار) الذي صدر سنة 1920 بأنها (حركة رجعية انتهازية، وأنها وليدة الاستعمار الغربي). وقد كانت الصهيونية محرمة في روسيا ومضطهدة إلى ما قبل بضع سنوات (عام 1943)، وكانت تحارب في السر والعلانية. قارن هذا الموقف الروسي بحاضر العلاقات بين موسكو ويهود فلسطين والتحالف السوفيتي الصهيوني تر عنصر هذا التقليد الانتهازي في سياسة السوفيات الخارجية. وهو في الواقع تقلب لا تخلو الدبلوماسية الدولية إجمالاً منه وإن كان يبدو عادياً في سلك السوفيات.

فقد تكون إذن حملة السلام الروسية الجديدة خطوة انتهازية جديدة يتطلبها الموقف الدولي، دفع إليها حمل الشعوب في المعسكر الغربي على الحد من برامج التسلح الهائلة التي تندفع الآن دول الحلف الغربي في تنفيذها. والضرب على وتر السلام الحساس في البلدان الديمقراطية خصوصاً في الولايات المتحدة يجد صداه في مجتمع يشكو من ارتفاع الضرائب التي تتطلبها هذه الالتزامات الضخمة التي تفرضها مشاريع مارشال وشريعة ترومان والبرنامج الجديد لتوسيع هذا النوع من الحرب الاقتصادية في بلدان الشرق والقارة الأفريقية وأمريكا اللاتينية.

هذا بالإضافة إلى أن حدة الموقف الدولي تفرض تعاوناً وثيقاً بين بريطانيا وأمريكا، فإذا خفت هذه الحدة وشاعت الرغبة في السلام التي تذكيها حملات ماهرة كحملات الشيوعية الدولية فإن هذا التعاون الإنجلوسكسوني سيفتر بينما تمضي روسيا قدماً في برامجها المنظمة التي تتقيد - في ظل الاقتصاد الماركسي الموجه - بتحالف ثنائي في مجال الاقتصاد والاستعداد العسكري في القارة الروسية على الأقل.

فمن خبراء الشؤون الروسية إذن من يقول بأن هذه الخطوة الروسية السليمة ليست إلا تكتيكاً لا يستر حقيقة المقاصد والغايات. ويؤكدون بأن رسوخ النظام السوفيتي في روسيا اليوم ورسوخ العقيدة الماركسية في أدمغة حملتها تجعل التقلب في التصريحات والمسلك الخارجي أمراً سهلاً يستطيع الروس اللجوء إليه دون أن يبدلوا حقيقة سياستهم من خصومهم من برامجهم الواقعية لبلشفة العالم. ولنا في الصهيونية مثل على هذه الحقيقة. فكلنا يعلم كيف أن الأحزاب والجماعات اليهودية في فلسطين والعالم إجمالاً كانت ولا تزال تتوفى هدفاً واحداً هو السيطرة على نقطة التركز في الشرق الأوسط، وأن السياسة الصهيونية كانت ولا تزال تتقلب تبع الظروف الطارئة، فمرة وطن قومي، ومرة حكم ثنائي، ومرة تقسيم محدود بدون شرقي الأردن، وبعد ذلك - حين تواتي الظروف - أرض الميعاد بحدودها الطبيعية وهي تشمل أجزاء من مصر وسوريا والعراق ولبنان. فوابزمان كستالين كان ولا يزال يتلاعب بتصريحات تتلاءم مع الظروف الحالية. والمتتبعون لتطور المسلك الصهيوني يدركون ذلك تمام الإدراك.

فالتقلب في سياسة روسيا الخارجية، يعود إلى ثقة صناع السياسة في الاتحاد السوفيتي من رسوخ النظام الذي يسومونه خصوصاً وأن وسائل المواصلات الفكرية بين الشعب الروسي والعالم الخارجي خاضعة لمراقبة توجيهية دقيقة يتولاها خبراء مهرة مما يجعل للتصريحات الروسية الرسمية طابعين: طابعاً للاستهلاك الخارجي، وآخر للداخلي. وليس من الضروري أن يتناسق الطابعان. وهذا في الواقع مسلك تقليدي في الدبلوماسية الدولية، ولكنه لا يتخذ طابع الاتقان الذي يتخذه في ظل الحكم السوفياتي المطلق.

وعلى أساس هذا الاستقرار في النظام الشيوعي في روسيا كان خبراء الانجلوسكسون يعتقدون بأن برامج (البوليت بيرو) (والكومنفورم) الشيوعية الدولية لبلشفة العالم كهدف أساسي جوهري لتدعيم الشيوعية في روسيا والدول الشيوعية الأخرى - هذا البرنامج لا يزال موضوع العمل عند السوفيات، وعلى هذا الأساس، فلا صحة لادعاء الماركسيين الأخير بأن الشيوعية والرأسمالية والنظم الأخرى تستطيع أن تعيش بسلام في عالم واحد.

والحقيقة التي يشير إليها هؤلاء الخبراء (ومنهم بوهلن مستشار وزارة الخارجية الأمريكية) هي أن جوهر الفلسفة الماركسية يصر على أن لا حياة للدول والشعوب الشيوعية المبدأ والنظام في عالم فيه شعوب ودول لا تدين بهذا المبدأ. وهذا الإصرار الماركسي يستند إلى نظريات في الاقتصاد وعلم الاجتماع تحللها العقيدة الماركسية على طريقتها الدياليكتكية الجدلية، وليس المجال هنا لبحثها.

إذن فإن دعوة للسلم تأتي من جانب السوفيات هي في الواقع اكتساب للوقت، وعرقلة برامج التسلح، وإثارة الوقيعة بين خصوم حلفاء الغرب وهذه جميعها - ككل خطوة من خطوات السوفيات - تستند إلى تحليلات علمية - علمية لأنها مستمدة من السياسة الروسية المنظمة - وهي كالاقتصاد الموجه ومشاريع الخمس سنوات الاقتصادية تلتزم الدقة وتؤمن بالنتائج على أساس هذه الدقة.

وعلى أسس هذه السياسة الموجهة فإن السوفيات يعتقدون بأن، كل مجتمع لا يدين بالشيوعية ولا يسير بموجب الاقتصاد الماركسي الموجه مآله إلى التفكك، فهناك مشاكل التضخم المالي وبلبة التوزان التجاري وصراع العمال وأصحاب العمل مما يخلق مشاكل اقتصادية واجتماعية تؤدي إلى الثورة العمالية وتطرح بالنظم الرأسمالية في المراحل النهائية.

ولما كانت روسيا غير مستعدة الآن للحرب استعداد خصومها فمن الخير إطالة مدة الاستعداد وإيهام الدول الرأسمالية والرأي العام الدولي بالرغبة الصادقة في السلم، وفي ذلك مكسب مزدوج؛ فهو يحقق النبوءة الماركسية في تفكك المجتمع الرأسمالي - كما تشير علانية إلى ذلك الدراسات السوفيتية للاقتصاد الأمريكي المعاصر - وهو يعطي روسيا متسعاً من الوقت للاستعداد.

والماركسية فوق ذلك تعتقد بأن، طبيعة التجمعات الرأسمالية متنافسة تسعى لالتهام بعضها البعض - وهذا التنافس أصيل مبعثه طبيعة النظم الاقتصادية على ظل الرأسمالية (والاشتراكية الغربية كبريطانيا ليست ماركسية حقة عند السوفيات) ولذلك فإذا نجحت روسيا في تخفيف حدة الموقف الدولي استطاعت أن تسبب فتوراً في شدة التحالف الأمريكي البريطاني وتترك النظم الرأسمالية تكتسب طبيعتها المتنافسية فيقوض بعضها البعض بدل الاتحاد. على تفويض الروس بأي ثمن.

ويستنتج من هذا كله - والاستنتاج نظري في أكثره - أن روسيا تعلم بأنها عاجزة الآن عن الكفاح المسلح لتعميم المذهب الشيوعي في كل مكان على أنقاض النظم والمجتمعات التي لا تؤمن بالماركسية - وهذا العجز قصور عن مجاراة المستوى الصناعي والقوة والدعامة المالية المتوفرة في المعسكر الغربي في الآونة الحالية على الأقل - وأنها تنهج سياسة عاجلة مؤقتة لتحقيق الحدة في معسكر الخصم عن طريق التلويح بغضن الزيتون.

وفوق ذلك فقد تكون تجربة المارشال تيتو في يوغسلافيا حيث مازج بين القومية المحلية الضيقة وبين النظام الماركسي، وما يشاع من أن الشيوعيين الصينيين ينوون الاقتداء بتيتو - هذه التجربة جعلت موسكو ترى أن المجتمعات الشيوعية خارج الاتحاد السوفيتي قد لا تقبل الرضوخ مباشرة للكومنفورم والبوليت بيرو وإن كانتا تشبهاتها في الاتحاد الفكري والأهداف. فإن النظام السوفيتي في روسيا قد جعلت من القيصرية الروسية الصارمة مجتمعاً روسياً يستسلم بسهولة للحكم المركزي المطلق. وهذه حالة فريدة قد لا تنطبق على كثير من المجتمعات الأخرى خصوصاً في أواسط أوروبا وشرقيها حيث تكثر الأقليات العنصرية والطائفية وعداؤها للحكم المركزي تقليدي. والواقع أن لينين وستالين قد أوليا مشكلة الأقليات دراسة وافية.

وهذه - كما نرى - حالات تصعب معالجتها على يد موسكو في جو دولي متوتر، ولذلك فإن مراكز التوجيه في معسكر حلفاء الغرب تنظر إلى غصن الزيتون الذي حملته موسكو في الآونة الأخيرة على أنه مناورة بارعة في الصراع الدولي لا يلاقي رد فعل إيجابي لدى حلفاء الغرب.

وهذا يعني أن مشاكل السلم الحقيقية لا تزال على ما هي عليه من الخطورة السريعة الانفجار.

(نيويورك)

عمر حليق

معهد الشؤون العربية الأمريكية في نيويورك