الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 82/دجلة

مجلة الرسالة/العدد 82/دجلة

بتاريخ: 28 - 01 - 1935


للأديب التركي شهاب الدين

ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام

قطعة منثورة كتبها أديب كبير من أدباء الترك المعاصرين - جناب شهاب الدين الذي أحزن الأدباء نعيه العام الفائت

ولست أرى القطعة تمثل حياة البادية عامة، ولن حياة جماعة على شاطئ دجلة، ومهما يكن فقد أحسن الكاتب تصوير ما رأى حقيقة أو خيالاً، وهي نموذج من الأدب التركي الجديد جديرة بإطلاع قراء الرسالة

تجري دجلة واسعة كذكاء العرب، قوية كروح العرب، تلوح مرة لجة ترابية مائجة، ومرة شريطاً من الحرير سماوي اللون، وحيناً تتمعج كأزقة بغداد، وآخر تسير أقوم من شوارع باريس، وهنا تتحوى مضطربة، وهناك تمتد مطمئنة. . .

هذا النهر المبارك الذي يحمل في أحضانه ربيعاً من البركات يتقصى من الأبنية البشرية عند القُرنة، فينفذ في غابات النخيل فكأنه بلغ بيئته المحبوبة، فموجه أكثر حرية وأشد زخوراً وأعظم وقاراً وجرأة

يعيش النبات في البلاد المعتدلة والشمالية بمساعي الإنسان، وهنا في المناطق الحارة على العكس، يعيش الإنسان في حمي الأشجار والأعشاب، ولا سيما غابات النخيل

يزيدني النظر والتأمل إيماناً بأن سكان هذا الإقليم هي هذه الأشجار المهيبة، وما أبناء نوعنا إلا ضيوف ظلالها. ترى عيناي الآن نخلة فخوراً متفردة، فلله كيف سمقت مزهوة، وكيف نمت وانتشرت عُسُبها وخوصها في أبهة وجلال. هذه النخلة تنادي في كبرياء وعظمة أن هذه التربة لها، وأن غيرها لا يستطيع أن يكون مالكاً طبيعياً لهذه الأرض

إذا ما انتهت غابات النخل بعماراتها الخضراء انطفأت الحياة على شاطئ النهر. فلا شيء يبدل قسوة الصحراء هناك إلا كثبان الرمال الشاحبة التي تبدو في الأفق صغيرة كأنها القبور؛ وإلى الجانبين بحر من الرمل ليس له ساحل. وها نحن أولاء نشق سكوت الصحراء وسكونها. لا حجر ولا شجر، ولا حيوان ولاظل، ولكن ضياء - ضياء مطرد يزيغ البصر من كل جانب. لا حركة ولا شية من حركة إلا ملاعب الضياء. وعلى الكائنات التي حولنا ركود وصمت، وضياء محيط مسيطر، دائم لا يحول. يحسب الإنسان أن هذين الشاطئين لم يهتزا بالحياة قط، ولا دَّوى عليهما صوت قط، ولا وقع عليهما ظل قط، ولدا من الأزل بغير حياة، وذلك يذهبان إلى الأبد

انبسطت هذه الصحراء الذهبية الخالية من الأنس، والغُفل من الصناعة. ثم انبسطت حتى صارت جمالاً نائماً غير محدود

سأكتفي بتسجيل المشاهد صادقاً كالسينما محرراً من قيود البلاغة. هنا قرية فقيرة تؤلفها عدة من أكداس اللبن جاثمة على الرمل المقفر، مغبرة كالتراب، ميتة كالصحراء، أشد إقفاراً من الخرابة المهجورة، كأنما الرمال اختمرت ثم رّبت فكنت القرية. ولو لم أر نفراً من البُداة جالسين القرفصاء لظننت أن كلاب البحر أنشأت هذه القرية الحزينة. كذلك كانت في فقرها وحقارتها. . . ما أهل البادية إلا نبات بشري غريب، سيئ الجد، لا سعي دائب في الدماغ، ولا عمل عظيم في العضلات، كل قُوى حياتهم مصروفة إلى القعود والنوم والهضم والتناسل، ينمو وأحدهم كجذع نخلة فيكبر فيثمر فيجف. كذلك ترجمة كل أطفال البادية

إنما يشكو البدو أربعة أشياء: الذباب والحر والجوع والجُباة. فأما الذباب فيذبه، وأما الحر فيروحه بسعف النخيل، وأما الجوع فيدفعه بما يلتهم من الأرز الكثير، وأما الجباة فكلما ذكرهم حرق الأرم من تحت شاربيه

تتجلى روح الطفولة في بني الصحراء جميعاً، صغيرهم وكبيرهم؛ فمن كل شيء سرور وضحك، ومن أتفه الحادثات وسيلة إلى القيل والقال، والظل بل العدم ينطقهم ويضحكهم ساعات. وهم ما داموا أيقاظاً يتحدثون ويضحكون، ويضحكون ويتحدثون، والعالم عندهم لعبة كبيرة، وحادثات العالم لعب ولهو. البدوي يعمل قليلاً , يعمل في غير جد، يعمل لتكرار ما أورثه آباؤه.

لا يحب التغيير، وهو غريب عن دخائل الاشياء، قد نسى الماضي، وتوهم الغد جنيناً لما تحمله أمه. وحساب ربحه وخسارته محدود بأربعة وعشرين ساعة. يسكره السرور ويتيمه اللون والرُّواء؛ مولع بالعطر والسكر، الصباح الذي يأكل فيه العسل سعيد، والمساء الذي يقاسي فيه البصل شقي، فبالعسل والبصل يتحرك ميزان سعادته. وإذا نالت يده رائحة زكية، ولقمة حلوة، وامرأة مؤنسة، حسب نفسه أسعد ملوك العالم. فراشه الرمل، ولحافه السماء؛ وأجمل أحلامه غصن من الياسمين، وقدح من الجُلاب، وليلى لها عين غزال. قلتُ إنه طفل، طفل طيب. .

كل قرية لها توابع حيوانية جديرة بالتأمل فهذه إبلٌ راغية، هادرة، رازمة، تهزأ رقابها الطويلة بما حولها من الجُدُر والحظائر. وهذا قطيع من المعز ينتف جلد الأرض الهزيل، هذه الأشواك المغبرة. وهنا كلب ينبح السفينة من الساحل، وهناك دجاجات تطير من قمامة إلى أخرى. وفي الهواء عدد من الحمائم. وهذه جاموسة مدت رأسها إلى النهر ترى قرينها المزينين في جبهتها العاطلة من الفكر، وبين الحين والحين تطأطيئ إلى الماء لتشرب جرعة كبيرة من صورة السماء

وفي الفينة بعد الفينة يبرز رأس امرأة من كوة كوخ. ينشق فمها الحائر الأبكم عن ابتسامة ميتة، وجهها كله برقع من جلد متكنع. وكل زينتها وحليتها ولباسها ثوب في لون الطين. تحسب كل واحدة منهم جسداً بغير روح قد التف في كفن أسود. كذلك حُرمنَ الحياة. وينظرن إلينا نظرات مترددات - نظر الظبي إلى صياده. وكل رجل عندهن حاكم ظالم

أطفال البداة يثيرون في القلب أبلغ رحمة: أيديهم عصى ضامرة، وعيونهم يملؤها ابتسام مضطرب. وأبدانهم الراجفة في القُمُص الزرقاء نحيلةٌ شاحبة ضعيفة هامدة؛ يطيرون وراء السفينة ساعات من أجل ثمرة واحدة. أو لقمة من الخبز. صائحين ضاحكين. ينقطون الساحل بأشباحهم السوداء

وا رحمتاه لأطفال البادية البائسين!

مهما يكن العلمَ الخافق فوق الصحراء فان لها حاكماً طبيعياً هو الشمس

الشمس توقد هنا كل موجود، وتُلهب كل شيء: كل الأشياء التي حولنا تسبح من الشروق إلى الغروب في ملاعب نورية مختلفة الألوان. وستتقلب السماء والتلال والأرض والأفق حتى ماء النهر كل يوم من الفجر إلى الشفق، في دقائق من ألوان الورد والبنفسج، والذهب والزمرد، والياقوت والفيروزج. وهنا يولد الضياء كل يوم ويتلون ويتلألأ، ويتحلل ويتجمع، ويذوب ويغيب.

ثم يستأنف الليل حياته في مطر من النجوم يتجلى في قاع النهر نشهد الآن اجمل الساعات - ساعة أفول الشمس، والنهر والآفاق مغشاة بأشعة العقيق والكهرمان. وينبعث على ظهر السفينة صوت مؤذن ينادي للصلاة - هذا النداء المرتعد في سكون العشى، هذا النداء البلوري، الذي يملؤه الوجد، وتتقسمه السكتات القصيرة، يطير فيعلو، فيصعد إلى العيون، كأنما يبلغ سدة الخالق العظيم. الله أكبر. الله أكبر. . . .