الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 819/على رسلك يا صديقي

مجلة الرسالة/العدد 819/على رسلك يا صديقي

بتاريخ: 14 - 03 - 1949


بيني وبين الشاعر الزين

للأستاذ محمد الأسمر

كتب صديقي أديبنا الفاضل الأستاذ عباس خضر كلمة عنوانها (الأسمر يسطو على شعر الزين) ذكر فيها أنني سطوت على صديقي الشاعر الكبير المغفور له الأستاذ أحمد الزين فسرقت أبياتاً، أدخلتها في قصيدتي التي رثيت بها المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا. والقصيدة المذكورة أكثر من خمسين بيتاً، أبياتها الأولى ما يأتي:

أفي كل يوم دمعة خلف غائب ... وفي كل يوم لوعة بعد غارب

رجال كأمثال النجوم، فثاقب ... مضى وهو لمَّاع على إثر ثاقب

لأوشك دمعي أن تجف شؤونه ... على كل ماض ليس يوماً بآئب

إذا ما انتهينا من رثاء لذاهب ... بدأنا رثاء بعد ذاك لذاهب

أما يستريح الشعر في كل ساعة ... رثاء لحر، أو رثاء لصاحب؟!

ثُريا رجالات تهاوتْ نجومها ... وكانت على الوادي ثريا الكواكب

وقال صديقنا الفاضل إن أبيات الزين التي أخذنا منها أبياتنا ما يأتي:

أفي كل حين وقفة إثر ذاهب ... وصوب دم أقضي به حق صاحب

أودع صحبي واحداً بعد واحدٍ ... فأفقد قلبي جانباً بعد جانب

تساقط نفسيكليومفبعضها ... بجوف الثرى، والبعضرهنالنوائب

فيا دهر دع لي من فؤادي بقية ... لوصل ودود، أو تذكر غائب

ودع لي من ماء الجفون صبابةً ... أجيب بها في البين صيحة ناعب

والقارئ لأبيات الزين رحمه الله، لا يجد كل هذا التهويل الذي أثاره الناقد الفاضل، وإيضاحاً لذلك أقول: إن قصيدة الزين رحمه الله لا علم لي بها، فهي ليست من محفوظاتي التي حفظتها في صباي، وليست من القصائد التي قرأها الزين لي أوسمعتها منه، ولا هي من المتداول المعروف بين الناس، ومن الاتفاقات التي ليست بالعجيبة أن يحزن الزين لفقد أصدقائه، وأحزن أنا لفقد أصدقاء لي، أو فقد رجالات من رجالات مصر، فيقول كلانا قصيدته من بحر وروي واحد، فيجيء بعد ذلك تشابه في بعض الألفاظ في بيت أو بيتين أوفي بعض المعاني المطروقة للجميع، وقد قلنا في مثل ذلك ندفع تهمة السرقة عن العقاد حينما كتب إلينا أديب ناشئ يقول إن العقاد سرق حينما قال:

فقبلتكفيه وقبلت ثغره ... وقبلت خدَّيه وما زلت صاديا

فقد زعم الأديب الناشئ أن العقاد سرق هذا المعنى من قول القائل:

أعانقه والنفس بعد مشوقة ... إليه وهل بعد العناق تدان؟

وألثم فاهكي تزول حرارتي ... فيشتد ما ألقى من الهيمان

كأنَّ فؤادي ليس يشفى غليله ... سوى أن يرى الروحين يمتزجان

نقول إننا قلنا لهذا الأديب الناشئ إنه لما كانت العواطف تتشابه فقد يجيء الشعر متشابهاً لأن الألفاظ وهي أداة التعبير عن العاطفة مِلكٌ لكل شاعر، فإذا كانت العواطف المتشابهة يتفق فيها الكثير من الشعراء، وإذا كانت الألفاظ التي هي أداة التعبير مِلكاً لجميع الشعراء، فإنه والحالة هذه يجدر بالناقد أن يتريث في حكمه على فلان أنه سرق من فلان.

هذا كلام قلناه قبل أن يموت دولة النقراشي باشا، وقبل أن يرثيه الراثون، ندفع به تهمة وجهت إلى شاعر، ونُبَصِّر الناشئين بالنقد السليم وصراطه المستقيم.

يقول ناقدنا الفاضل متحدثاً عني ما يأتي: (على أنني عجبت للأسمر وما هو بالعاجز عن النظم أن يكون أخذه من شعر الزين هكذا ظاهراً مكشوفاً) وأنا أقول لصديقنا الناقد إذا كنت تعلم أنني لست عاجزاً عن النظم فهلا درأت الحدود بالشبهات؟! وإذا كنت تعلم أنني لست عاجزاً النظم فهلاَّ ترفعت يا صديقي عن أن تجعل من الحبة قبة؟ وهلاَّ أرحت بالك من أن تشغله بأنني سرقت ألفاظاً هي مُلك للجميع، أو أغرت على معنى ليس من مبتكرات المعاني وإبداعاتها، قال الجرجاني:

(ولستَ تُعدُّ من جهابذة الكلام ولا من نقاد الشعر حتى تميز بين أصنافه وأقسامه وتفرق بين المشترك الذي لا يجوز ادعاء السرقة فيه، والمبتذل الذي واحد أحق به الآخر وبين المختص الذي حازه المبتدى فملكه) وقالوا (إن السرقة في البديع المخترع لا في المعاني المشتركة) وقالوا (إن صح أن الشاعر لم يسمع بقول الآخر فتلك المواردة).

وسئل أبو الطيب عن مثل ذلك فقال الشعر جادة وربما وقع الحافر على موضع الحفر!!

ألم يمرَّ صديقي الأستاذ عباس على ذلك وأمثال ذلك قبل أن يجلس على منصة حكمه بمجلة الرسالة الغراء، ثم يقول (الأسمر يسطو على شعر الزين) خصوصاً إذا كان صديقنا يقول إن الأسمر ليس بعاجز عن نظم الشعر.

ألم يقل امرؤ القيس (يقولون لا تهلك أسًى وتجمل) وقال طرفةُ (يقولون لا تهلك أسًى وتجَلّدِ) ألم يقل امرؤ القيس:

وشمائلي ما قد علمتِ وما ... نبحتْ كلابك طارقاً مثلي

وقال عنترة:

وإذا صحوتُ فما أقصرُ عن ندًى ... وكلما علمتِ شمائلي وتكرمي

ثم ألم يقل عنترة:

وخيْلٍ قد دلفتُ لها بخيْلٍ ... عليها الأسد تهتصرُ اهتصارا

وقال عمرو بن معد يكرب:

وخيٍْل قد دلفتُ لها بخيٍْل ... تحيةُ بينهم ضرب وجيع

وقالت الخنساء ترثى أخاها صخراً:

وخيلٍ قد دلفتُ لها بخيلٍ ... فدارت بين كبشها رحاها

ثم ألم يقل أبو تمام:

بمحمد؛ ومُسوَّد، ومُحسَّدٍ ... ومُكرم، ومُمدَّح، ومُنعزَّلِ

وقال البحتري:

ذاك المحمدُ والمسوَّ ... دُ والمكرَّمُوالمحسد

هذا قليل من كثير تفيض به كتب الأدب والأمثلة على ذلك كثيرة من شعر المتقدمين والمحدثين، ولولا خوف الإطالة ذكرنا ما جاء في الكتب، وذكرنا ما لحظناه نحن ولم تذكره الكتب، ونحب أن نذكر هنا مما لم تثبته الكتب قليلاً من الأمثلة:

قال امرؤ القيس متحدثاً عن نفسه في مرضه:

(ولكنها نفس تساقط أنفساً)

قال الزين رحمه الله في الأبيات التي ذكرها صديقنا وصديقه الأستاذ عباس:

تساقطنفسيكلَّيوم فبعضها ... بجوف الثرى والبعض رهنُ النوائب

وكذلك قال عبد الله بن الخياط الأندلسي يصف الليل: كأنه راهب في المسح ملتحفٌ ... شدَّ المجرُّ له وسطاً بزّنار

وقال البارودي في قصيدة عينية يصف فيها الليل بيتاً لا أذكر جميعه الآن جاء في آخره قوله: (كالراهب المتلفِّع). . . ورثى شوقي رحمه الله صديقه المغفور له إسماعيل باشا صبري بقصيدته التي قال في أولها:

أجل وإن طال الزمان مواف ... أخلي يديك من الخيل الوافي

وهي قصيدة معروفة لدى خاصة الأدباء وعامتهم، ثم جاء الجارم رحمه الله فرثى دولة النقراشي باشا من بحر هذه القصيدة ورويِّها فوقع في موافقات لفظية كثيرة استرعت أنظار الأدباء لمعرفة خاصتهم وعامتهم قصيدة شوقي ولكنها لم تسترع نظر ناقدنا الفاضل. . . ولو أردنا سرد ما نعلمه من هذه الأمثلة، ضاقت به صفحات مجلة الرسالة:

وبعد: فهذا ما رأينا أن نعلق به على بعض ما جاء بكلمة صديقنا، أما بقية النقد من هذه الألفاظ التي تخيرها لنا الصديق فليست لدينا أخواتها لنتحف بها صديقنا كما أتحفنا، ولوأنها كانت لدينا أمسكناها عنه، فقد رُضْنَا أنفسنا على أن لا نتحف بها صديقاً كالأستاذ عباس، مهما أَلحَّ وألحف وتابع ولاحق؟! ولا يفوتني أن أشكر له هذه العناية المتلاحقة بكل ما نقوله في بعض المناسبات، فتعليقه على ما نقول أياً كان لون هذا التعليق تخليد من لدنه لنا، وهوعناية على كل حال! ويا حبذا لو تفضلت الرسالة الغراء وهي سجلٌّ أدبي فنشرت قصيدة الأستاذ الزين كاملة، ثم تفضلت فنشرت قصيدتي معها. . .

رحم الله الأموات، وغفر الله للأحياء.

محمد الأسمر