مجلة الرسالة/العدد 817/مشروع مولوتوف
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 817 مشروع مولوتوف [[مؤلف:|]] |
الغزي الشاعر ← |
بتاريخ: 28 - 02 - 1949 |
للأستاذ عمر حليق
في الخامس والعشرين من يناير سنة 1949 أعلنت موسكو نبأ تأليف اتحاد اقتصادي للمنفعة المشتركة في منطقة النفوذ السوفيتي ليعمل علانية على مكافحة مشروع مارشال الأمريكي للإنعاش الأوربي. وقالت وكالة الأنباء الروسية الرسمية (تاس) التي أذاعت الخبر أن المشروع الروسي الجديد جاء نتيجة لمؤتمرات عدة عقدتها في موسكو الدول الحليفة لروسيا في أوائل السنة الجديد؛ وأن هذه الدول (التي رفضت الانصياع لديكتاتورية مشروع مارشال) قد أنشأت فيما بينها (مجلساً للمساعدة الاقتصادية المتبادلة لتدعيم التعاون الاقتصادي أكثر فأكثر) بين بعضها وبعض. وقالت تاس كذلك أن عمل المجلس الاقتصادي هذا سيتناول (تبادل الخبرة الفنية والاقتصادية) بين الدول المشتركة فيه، و (تقديم المعونة المتبادلة للحصول على المواد الخام والمواد الغذائية والآلات الصناعية وما إليها) وأن المجلس سيجتمع دورياً وأنه يرحب بكل من يرغب في الانضمام إليه من الدول الأوربية التي تدين بها بالمبادئ التي يدين بها مؤسسوه والمشتركون في هذا المشروع غير الروس خمس دول في منطقة النفوذ السوفيتي وهي رومانيا وبولندة وبلغاريا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا. وقد تركت يوغسلافيا - وخلافها مع موسكو قد اتسعت شقته - خارج هذا المجلس.
قبل سنة ونصف أي في منتصف عام 1947، خرج الرفيق مولوتوف وزير خارجية الاتحاد السوفيتي في اجتماع مجلس وزراء الدول الأوربية بباريس غاضباً. وكان موضوع البحث بين روسيا وفرنسا وبريطانيا في ذلك الاجتماع مشروع مارشال الأمريكي لإنعاش اقتصاديات أوربا. وقد اصدر مولوتوف عقب انسحابه تصريحاً قال فيه: أن الاتحاد السوفيتي قد رفض المشاركة في المشروع الأمريكي لأن أمريكا لا تتوخى إنعاش أوربا بل تريد تقسيمها وبث الشقاق بين دولها.
وتبع تصريح مولوتوف هذا بيان من (البوليت بيرو) القيادة العليا للسياسة السوفيتية اعترف فيه الروس بأن مشروع مارشال هو أكبر تحد يواجه الاتحاد السوفيتي.
وعلى أثر ذلك شرع الروس في اتخاذ خطوات عملية في ميادين السياسة والاقتصاد لمكافحة مشروع مارشال. وكان أبرز هذه الخطوات في مجال السياسة تأليف (الكومنفورم) وهو المركز الرئيسي الرسمي للشيوعية الدولية (وكانت روسيا قد حلته خلال الحرب) وجعلت قيادته المركزية في العاصمة البلغارية، وتلا ذلك نشاط عسكري في مناطق الثورات الشيوعية في اليونان والصين واتخذت المساعدة السوفيتية ليهود فلسطين دوراً عملياً لم يشعر العرب بخطورته إلا بعد سنة من استمراره.
ولم تقتصر روسيا في إجابتها على تحدي مشروع مارشال على هذه الخطوات السياسية والعسكرية، بل أردفتها بنشاط اقتصادي تدريجي شبك الروس فيه اقتصاديات دول شرقي أوربا بعضها ببعض ثم ربطتها جميعاً بالاقتصاد السوفيتي. وهذا في الواقع عملية ابتدأت روسيا بالعمل بها منذ أن احتلت شرقي أوربا أثر تراجع الألمان عنها 1945، وكانت وسائل موسكو لتحقيق هذه السيطرة الاقتصادية سلسلة من المعاهدات التجارية ركزت الإنتاج الصناعي والزراعي في منطقة نفوذها في بوتقة التبادل التجاري الإقليمي. وقطعت دول شرقي أوربا الجزء الأكبر من معاملاتها التجارية مع أوربا الغربية والعالم الخارجي إجمالا. ثم جعل الميزان التجاري في جميع الدول الشيوعية المتحالفة متمشياً مع رغبات الاتحاد السوفيتي الذي أصبح بحكم هذا التوجيه وبما له من سيطرة ونفوذ سياسي، العنصر السياسي في الكيان الاقتصادي في شرقي أوربا وهي جزء من العالم يضم ست دول تبلغ مساحتها حوالي عشرة ملايين ميل مربع وعدد سكانها 262 مليونا من الأنفس.
وأستمر نشاط الروس في منطقة نفوذهم لتدعيم النظام الشيوعي ومكافحة الغرب الانجلوسكسوني في ميادينه الاقتصادية والسياسية والفكرية، وظل العالم الخارجي لا يعلم إلا قليلا عن مدى اتساع هذا النشاط ومبلغ نجاحه بسبب الرقابة السوفياتية الشديدة. ولكن المتتبعين للشؤون الروسية قدروا بأن جواب موسكو على مشروع مارشال الذي أحرز قسطاً من النجاح للغاية التي وضع من أجلها - جواب روسيا سيكون من نوع التحدي. وقال الخبراء بأحوال منطقة النفوذ السوفيتي أن هناك خططا اقتصادية منسقة يعمل لها السوفيت بالتعاون مع الحكومات الشيوعية القائمة هناك. وكان هؤلاء الخبراء يطلقون اسم (مشروع مولوتوف) على النشاط السوفيتي. وفي الأشهر الأخيرة كاد العالم أن ينسى أن هناك شيئاً اسمه مشروع مولوتوف، لندرة ما تتناوله الألسن، على عكس الدعاية الواسعة التي يلقاها مشروع مارشال في الصحافة العالمية - أو صحافة الحلف الغربي على الأقل. إلى أن نقلت وكالة تاس نبأ تأليف المجلس الاقتصادي الجديد.
هذا المشروع السوفيتي الجديد، مجاله منطقة جغرافية غنية بالمواد الخام من الفحم والحديد والزيت لا يزال معظمها في باطن الأرض إذ لا تتوفر لدى دول شرقي أوربا الوسائل الآلية الحديثة ولا رأس المال ولا الخبرة الفنية لاستخراجها. فالخبرة في الإنتاج والتعدين، ومدى التصنيع في شرقي أوربا إجمالا قاصر عن اللحاق بالحضارة المادية المتفوقة التي عرفت بها دول أوربا الغربية والعالم الجديد. ولذلك فإن الخبراء في العالم الإنجلوسكسوني يعتقدون بأن هذا المشروع الروسي الجديد سيقتصر على تنسيق المعاهدات التجارية بين الدول الشيوعية، وأنه لن يسعى لتنفيذ برامج اقتصادية ضخمة تتناول التصنيع وتدعيم التبادل النقدي وغير ذلك من أوجه الاقتصاد التطبيقي على النحو الذي يعمل له مشروع مارشال في غربي أوربا وشمالها وجنوبها.
ويضيف إلى ذلك هؤلاء الخبراء - إن العقبة الكبرى التي تقف في وجه المشروع الروسي الجديد، حتى ولو اقتصر على تنسيق التبادل التجاري، هي أن منطقة النفوذ السوفيتي لا تشكل كتلة طبيعية تستطيع موازنة التبادل التجاري. فليس في الكتلة السلافية سوى تشيكوسلوفاكيا من يستطيع أن يؤمن تبادلا تجارياً سليماً؛ ففي تشيكوسلوفاكيا صناعات ثقيلة تستطيع أن تتبادلها مع حاصلات روسيا الزراعية أو حاصلات الدول الشيوعية الأخرى ومعظمها زراعي كذلك.
وكانت هذه الدول قبل أن تنصهر الكتلة السلافية تتبادل النسبة الكبرى من محاصيلها الزراعية مع ألمانيا ودول أوربا الغربية المعروفة بوفرة الإنتاج الصناعي.
وليس للدول الشيوعية في منطقة النفوذ السوفيتي الآن سوى روسيا لتتبادل معها الإنتاج الزراعي بإنتاج صناعي يسد حاجتها. ويعتقد الخبراء إنجلوسكسون أنه ليس لدى الاتحاد السوفيتي وفرة الإنتاج الصناعي ما تسد حاجيات حلفائه في شرق أوربا بسبب مشروعات الخمس سنوات الإنشائية التي تحدد طاقة الإنتاج الروسي وتوزعه على مطالب الشعب الروسي قبل كل شيء. وفوق ذلك وفرة الإنتاج الزراعي في روسيا نفسها من القمح الأوكراني والمواد الغذائية الأخرى يجعل شراءها للمنتجات الزراعية من الدول الخاضعة لنفوذها نوعا من الإحسان لا يستند إلى دعائم اقتصادية سليمة.
وهنا تتدخل لايك سكسس فيقول خبراؤها أن الدول التابعة لمشروع مولوتوف الروسي، والدول المنظمة لمشروع مارشال الأمريكي، سيرغمان في نهاية الأمر على تبادل التعاون. فإن الكيان الاقتصادي الذي تحاول موسكو تدعيمه في شرقي أوربا هو كيان زراعي؛ وإن الإنعاش الذي يحاول الإنجلوسكسون تحقيقه في باقي أوربا هو كيان صناعي؛ وإن تشابك السياسة والاقتصاد في الحياة الأوربية والدولية إجمالا ليس من السهل القضاء عليه. ولذلك فإن خبراء لايك سكسن يعتقدون بأن التبادل التجاري بين منطقة النفوذ السوفيتي ومنطقة الحلفاء لن ينقطع ما دام أن كلا المعسكرين ليس في صراع مسلح، وهذا الاتصال التجاري أحد السدود التي تقف في وجه اندلاع لهيب جديد.
(نيويورك)
عمر حليق
معهد الشؤون العربية الأمريكية