الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 817/البريد الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 817/البريد الأدبي

بتاريخ: 28 - 02 - 1949


نصيب المعلم:

كان من صدى الإعلان في (الرسالة) عن كتاب عالم الذرة ثلاث رسائل لا أكثر من بعض القراء. وصاحب إحداها بفرض علي جزاء لقراءته مقالاتي في الرسالة أن أقدم إليه كتابي مع الشكر وأنا أقول له:

أنت غال وقد طلبت رخيصاً ... ينفع العلم أن تنله قنيصاً

وصاحب الرسالة الثانية يطلب الكتاب هدية لا قيمة لها جزاء تدلله في حبي. وقد حبر بهذا الكتاب أربع صفحات. وأنا أظنه من حسناء، حتى كدت أعتقد أني أخو أفروديت أو ابن فينيس، أو أني كيوبيد بعينه على الرغم من أني (بلغت من الكبر عتياً) والسنون (قد أحوجت سمعي إلى ترجمان) وما انتهيت من تلاوة الرسالة حتى رأيت نفسي أمام المرآة.

وصاحب الرسالة الثالثة قصم رقبة ضني بأن استشفع بعيد ميلاد فاروقنا المعظم لأنه كتبها في يوم العيد السعيد. وأنه أرجو من حضرات القراء الكرام أن يعلموا أني أغلقت باب الشفاعات لكيلا يستشفعوا بالنبي وبالمسيح الرحيم. وخير لهم أن يتشفعوا بالقروش العشرين إن كانوا يرون أن كتابي يساوي هذا الثمن السقيم، والحمد لله رب العالمين.

نقولا الحداد

2ش البورصة الجديدة بالقاهرة

لاوجود إلا وجود واحد:

لاشك أن آفة الشرق هي الغرب، وأن داء الشرقيين المستفحل هو إيمانهم بأن كل ما أتى به الفكر الغربي من مذاهب هو المثل الأعلى الذي ينبغي أن يحتذيه كل فكر ينشد الكمال. ونحن العرب نتخذ دائماً من المعايير الغربية مقاييس أفكارنا. فإن خالفتها فهي مبهمة غامضة، وإن سارت على منوالها فهي واضحة جلية، ولا نفكر مطلقاً في أن نعتز بنتاج الشرقيين بل ننظر إليه من خلال المذاهب الغربية التي تحول دون فهمه فهماً صادقاً، وتفسد أحكامنا عليه.

وها هو الأستاذ نقولا الحداد لم يستطيع أن يفهم مضمون حقيقة وحدة الوجود عند طاغور؛ لأن ذهنه مشبع بمذاهب الغربيين في هذه الحقيقة. ولا يدري كيف يحدد موقف طاغور بالنسبة للذين يقولون بأن أصل الوجود جوهر واحد سواء أكان روحياً أو مادياً، أو بالنسبة للذين ينادون بثنائية الوجود أو يعتقدون بجوهرين هما الروح والمادة، لأنه تعود أن ينسب كل رأي إلى فكرة غربية مماثلة لها، ويقارنها بها؛ فإن لم يجد لها نظير صعب فهمها عليه. ولذلك يجب علينا جميعاً أن نتعود فهم الأفكار الشرقية وعقولنا خالية من النظريات الغربية، فإنها تشتت أذهاننا وتبلبلها فتأسرها في مكان ضيق لا تقدر أن تدرك ما خارجه، وإن حاولت عجزت عن فهمه. وكما هال الأستاذ الحداد أن يكون منبت حقيقة وحدة الوجود هو الشرق، ولم يكن أول قائل لها هو اسبينوزا، فأخذ يستوضح عن صلتها بالدين الهندوكي وتغافل عن أفلوطين قد تأثر بأفكار الهنود في وحدة الوجود الروحية، وأتى من قبل اسبينوزا بمذهب فيها، قد تأثر به اسبينوزا نفسه كما تأثر ببعض المتصوفين الإسلاميين الذين تكاد كل نظرياتهم في التصوف مستمدة من صلب التعاليم الهندوكية.

أما كيف عرف الهنود تلك الوحدة فيرجع ذلك إلى عهد يبعد في القدم إلى أكثر من خمسة وعشرين قرناً، يوم كانوا يؤمنون بآلهة كثيرة تمثل مختلف قوى الطبيعة وشتى مظاهر الكون. ويوضح (الفيدا) وهو كتاب هندي مقدس لا يعرف واضعه أو واضعوه - ماهية كل إله. ويذكر الأدعية التي ترفع له، ويعين القرابين التي تبذل من أجله ولا يشير كتاب الفيدا إطلاقاً إلى حقيقة وحدة الوجود التي جاء بها (اليوبانيشاد) من بعده وهو كتاب هندي ديني آخر مجهول مؤلفه أو مؤلفوه. يضع فلسفة الهنود الهندوكية في وحدة الوجود، ويضم كافة الآلهة الهندية في إله واحد يشملها جميعاً ويحل فيها، وهو براهما الذي يستمدون وجودهم من وجوده، ولا يبعدهم الهنود إلا لأنهم آلهة يتجلى منها الإله الأكبر (براهما) الذي يكمن في كل شيء في الكون. وإن مظاهر عبادة الحيوان وتحريم قتله، وتقديس الأشجار ومنع قطعها، والتبرك بمياه الأنهار، يبين لنا كيف يعبد الهنود الظاهرات الطبيعية التي يستقر فيها يراهما.

وتناول طاغور هذه الحقيقة بتفكيره الشاعري وعرضها بخيال الفنان الملهم في أسلوب روحي يفيض عذوبة وحلاوة. فإن اعترى أفكاره عند تأملها عقلياً الإبهام، فلا يجب أن نلومه لأنه شاعر قبل أن يكون فيلسوفاً، وما أراد لنفسه أن يكون في يوم من الأيام فيلسوفاً، وإن ارتضى أن يكون شاعراً حكيماً. فهو ليس صاحب مذهب محكم التصميم يستند في تفسيره على منهج عقلي منظم. ولم يخط كتباً فلسفية قط. وإن حاولت أن أستخرج من كتابه أصول فلسفة أعالج فيها المشاكل الميتافيزيقية والأخلاقية والفنية التي اشتغل بها طاغور بطريقة لا تمت لطرق الفلسفة بصلة، فإنما ذلك رغبة مني في أن أعرض أفكار حكيم في أسلوب فلسفي لا غير.

لقد زعم طاغور أنه لا يوجد إلا حقيقة واحدة لا تحتمل التفرقة بين خالق ومخلوق، وجودها روحي، وأن ما يبدو في الكون من مادة فهي مظهر خادع يخفي براهما المستقر داخلها؛ لأن براهما حين امتلأ بالسرور - ذلك السرور الذي لم يبين لنا طاغور كنهه، أو يذكر سبب نموه في براهما حتى امتلأ به - فصدرت عنه الخليقة لم يفصل بينه وبينها فصلا تاماً، وإنما كمن فيها وأعطى للإنسان فرصة للعودة إلى منبعه الذي انبثق منه، بمنحه حرية التصرف في شئون دنياه، وتقييده بقانونه الأخلاقي ومن يقطع الصلة بين براهما والمخلوقات يقع في (المايا) أي الباطل الذي إليه أن الباطل مستقل عن المخلوقات بينما براهما يتجلى في الكون في صور القوانين التي يتقيد بها هذه المخلوقات فتخضع روح الإنسان للقوانين الأخلاقية ويخضع جسده وجميع محتويات الطبيعة الأخرى للقوانين الكونية. ومعرفة هذه القوانين معرفة لله المتحد بكل شيء، إلا أنه لا يكفي للإنسان أن يعرف هذه الوحدة ليصل إلى الكمال الروحي وإنما يجب عليه أن يعرفها ويحياها معاً ويحس ببراهما الذي يوجد في كل جزء من أجزاء الكون إحساساً حياً، تنطق به كل حركاته من أفعال وأقوال ويدمج شعوره بفرديته فيها جميعاً بحيث لا يستطيع أن يميز بين وجوده وبين سائر الموجودات.

وإذا أراد الأستاذ نقولا أن يعرف المزيد وكيف يفوز الإنسان بهذه الحياة فإني أرجعه إلى ما سبق أن نشرته في مجلة الرسالة عن طاغور وما سأنشره قريباً إن شاء الله عن فلسفة طاغور الأخلاقية والفنية.

عبد العزيز محمد الزكي