مجلة الرسالة/العدد 815/في التقريب بين اللغتين
→ من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم فقام كل رجل | مجلة الرسالة - العدد 815 في التقريب بين اللغتين [[مؤلف:|]] |
الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6): ← |
بتاريخ: 14 - 02 - 1949 |
للأستاذ محمود أحمد الغمراوي
قرأت في الأهرام كلمتين في التقريب بين اللغتين: أولهما لعبد الحميد عمر أفندي بمحكمة النقض، وثانيها لأحمد عبد الطيف بدر أفندي المدرس ببور سعيد؛ وقد تضمنت الأولى دعوى موجهة إلى الخاصة أن يتركوا اللغة العربية الفصحى وأن يستبدلوا بها في مخاطباتهم ومكاتباتهم ما يستعمله العامة في مخاطباتهم من الجمل والكلم، فيستعملوا مثلا جملة (حضروا الرجال) التي تجري على ألسنة العامة بدلا من (الرجال حضروا) إذ لا مانع عنده من ذلك ما دام مثل هذا الاستعمال قد ورد في التنزيل الحكيم في قوله تعالى (وأسروا النجوى الذين ظلموا) سورة الأنبياءـ وفي قوله تعالى (ثم عموا وصموا كثير منهم) في (سورة المائدة لا العنكبوت) كما قال؛ وقال أنه لا يهمه الاختلاف في أوجه الإعراب في الآيتين ما دامت العبرة في الاستعمال، وليس بعينه أن يكون (الذين ظلموا) في الآية الأولى فاعلا أو بدلا أو غير ذلك. وكذا لا يعنيه ما يقال في الآية الثانية (ثم عموا وصموا كثيرا منهم) من أوجه الأعراب.
وتضمنت الكلمة الثانية أن كاتبها: أحمد عبد اللطيف بدر أفندي يخالف الأول في رأيه لما يترتب عليه من أن يجعل فاعلين لفعل واحد كما في اللغة (أكلوني البراغيث) على زعمه يؤدي إلى تناسى القاعدة الأصلية، ويرى أن يكون التقريب بين اللغتين بإشاعة الألفاظ المحرفة وإحلالها محل الألفاظ محل الفصيحة فتستعمل كلمة (مِن) ولفظ (فين) بدل (أين) و (اشمعنه ومنين) مكان (لِمَ) و (من أين). وزعم أن ورود الآيتين الكريمتين على لغة (أكلوني البراغيث) وهي غير اللغة الفصحى إنما كان للتحدي والإعجاز والدلالة على أن القرآن من صميم لغة العرب على تباين لهجاتها، ولذلك جازت القراءات المتعددة فيه، وأول المفسرون الآيتين بما يدنيهما من اللغة الفصحى الخ.
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت:
وليت شعري كيف يكن التحدي بغير الفصيح للإعجاز أم كيف يتوهم ذو علم أن المفسرين يؤولون القرآن بما يدنيه من اللغة الفصحى وهو في أعلى طبقات البلاغة؟
لقد أخطأ الأستاذ أحمد عبد اللطيف في ظنه أن لغة (أكلوني البراغيث) أتاها الضعف م ناحية أنها تعتمد فاعلين لفعل واحد؛ فما اعتراها الضعف إلا لأنها تلحق بالفعل علامة التثنية والجمع عند إسناده إلى ظاهر مثنى أو مجموع، إذ ليس ثمة حاجة إلى هذه العلامة والواو في الجملة حرف وليس بضمير - كما ظن - حتى تكون فاعلا على هذه اللغة (شرح ابن عقيل قول ابن مالك في باب الفاعل):
وجرد الفعل إذا ما أسندا ... لاثنين أو جمع كفاز الشهدا
وأخطأ الكاتبان القصد، إذ يرى الأول أن تستبدل اللغة العامية باللغة العربية الفصحى، ومعنى ذلك إهمال اللغة العربية وإهدار قواعدها، وإفساد نظامها؛ وإذ يرى الثاني أن تترك المفردات الفصيحة ويستعاض عنها بالمحرف والدخيل، فإنه إذا ضم رأي كل منهما إلى رأي صاحبه كان منهما مزيج قاتل للغة مفسد لمفرداتها وتراكيبها، هادم لقواعدها، مود بنظامها، مقوض لبنائها المحكم الرصين. يقول عبد الحميد أفندي عمر إنه لا يرى مانعاً من أن يستعمل الخاصة ما يجري على ألسنة العامة في المخاطبات والمكاتبات بدلا من الفصيح، إذ قد ورد في التنزيل الحكيم نظير هذا الاستعمال، وإنه لا يهمه الاختلاف في أوجه الإعراب، ولا يعنيه أن تكون كلمة (الذين) وكلمة (كثير) في الآيتين فاعلا أو بدلا ما دام الاستعمال قد ورد به. ولم يدر أن الإعراب هو الذي يفتح مغاليق الكلام ويبين أغراضه ومعانيه ويكشف عن وجه الدلالة فيه فيعرف الحسن المقبول ويتميز المردود المرذول.
وإذا كان لا يدري لم يمنعون أن تستعمل جملة (حضروا الرجال) كما تستعمل كلمة (الرجال حضروا) وأن تكون مساوية لها، فليعلم أنه يمنع من المساواة بينهما أمور بعضها يرجع إلى اللفظ وبعضها يرجع إلى المعنى. فما يرجع إلى اللفظ الثقل الذي جبه حرف العلة الساكن الذي جئ به ليكون علامة على الجمع دون حاجة داعية، فإذا حذف لالتقاء الساكنين بقي الفعل مضموم اللام فيلتبس عند الوقف على الرجال بالاسم الدال على المعنى المقابل للبدء، وذلك خلل لغوي، وإذا ضم الفاعل بقي الثقل الناشئ من توالي ثلاث راءات أولها مضمومة وباقيها مكسور، وهي مع اللام الأخيرة في الرجال تخرج من اللسان، وانتقال اللسان من ضم إلى كسر ثم ضم في حروف متحدة المخرج تقريباً فيه صعوبة لا تخفى. فالجملة الأولى (حضروا الرجال) تشتمل على مخالفة القياس بضم آخر الماضي حيث ينبغي أن يفتح وفيها ثقل قد عرفته وتعقيد قد تبينته. ثم إن فيها وراء ذلك مانعاً آخر يمنع من مساواتها للجملة الفصيحة وهو أنها ليس فيها سوى إسناد واحد، ولا تقال (بعد أن تصحح) إلا لخالي الذهن. أما الجملة الثانية الفصحى فإنها مشتملة على إسنادين ويخاطب بها من يكون شاكا في أن الرجال المعهودين له قد حضروا فلكل منهما مقام يغاير مقام الأخرى. وهذا ما يتعلق بالفرق بين الجملتين.
فأما الآيتان الكريمتان فإن من المقرر أن قراءة القرآن سنة متبعة فلا يجوز القراءة بغير ما روى النبي ﷺ وإن كان مما تسوغه القواعد العربية، ذلك بأن ما روى عن النبي هو العربي الفصيح الكفيل بأداء الأغراض المقصود أداؤها من النظم. وليس كل ما جاز عربية بالذي يفي بذلك؛ فليس كل ما جاز عربية جاز قراءة. ولنسق لذلك مثالا: قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) قريء تطهرهم بالرفع صفة لصدقة، على أن الجزم سائغ عربية في جواب الأمر، لكن لم يقرأ به أحد من السبعة، ذلك أن الجزم في جواب الأمر يقتضي ترتيب التطهير على مجرد أخذ الصدقة منهم كما يترتب الجزاء على الشرط، وليس الأمر على ذلك؛ فقد يؤدي بعض الناس الصدقة وهو الشحيح بها كاره لأدائها فلا تكون صدقة مطهرة له ولا مزكية لنفسه، وإنما تطهر الصدقة معطيها وتزكيه إذا أداها طيب النفس راضياً وجاد بها آناً بعد آن ومرة بعد مرة حتى تبرأ نفسه من داء الشح ووصمة البخل؛ وهذا سر التعبير بالفعل المضارع الإتيان بالصفة جملة فعلية دون أن تكون اسما مفرداً. هذا ولنعد إلى الكلام في الآيتين فنقول:
قد جرى المفسرون على أن يوردوا عند تفسيرهم الآيات ما تحتمل من أوجه الإعراب حسبما تقتضيه الصناعة النحوية دون نظر إلى ما يكون منها مناسباً للمقام ولما تقتضيه البلاغة. بيد أن الخاصة منهم كالزمخشري ومن اقتفى أثره يقدمون الوجه المناسب على غيره في الذكر حسبما أوتوا من ذوق علمي. وقد يقتصر ما أوتوه من الذوق عن إدراك دقائق المعاني والإحساس بلطائفها فيخطئون. وفي هاتين الآيتين قدموا الوجه الإعرابي الملائم للأسلوب البليغ الأعلى على سواه، فقدموا إعراب (الذين) و (كثير) بدلا على سواه من الأوجه وأصابوا. ووجه الصواب فيه ظاهر لمن ألم بقواعد البلاغة وتذوق أساليب البيان؛ فالآية (وأسروا النجوى الذين ظلموا. . .) جاءت عقب الحديث عن الناس والتعجب مما هم فيه من غفلة عن العاقبة وإعراض عن ذكرها وعن التفكير في أمرها مع اقتراب حسابهم ودنو وقت جزائهم وعقابهم على ما فرطوا في جنب الله، وإذا أتاهم ذكر من ربهم استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى استخفافاً واستهزاء بمن يذكرهم مستنكرين أن يكون أهلا لأن يخصه الله بأن ينزل عليه الذكر من بين قائلين (هل هذا إلا بشر مثلكم) فالضمائر كلها جارية على جماعة الناس، ولما كان الخاصة من الزعماء والقادة هم الذين يقاومون الداعي إلى الحق والمذكر به ويتناجون فيما بينه بما يتناجون به من الكيد له والاستهزاء به والعامة تبع لهم فيما يكيدون ويدبرون أسند الأسرار إلى الضمير العائد إلى الناس إشعاراً بأن العامة كفلا من أوزار الخاصة لمتابعتهم لهم. ثم أبدل الاسم الموصول من الضمير لبيان من يصدر عنهم الأسرار بالنجوى وقول الزور على الحقيقة وهم أولئك الزعماء الذين ظلموا أنفسهم بالإعراض عن الحق استكباراً وظلموا الناس بإظلالهم وصرفهم عنه وصدهم عن سبيله استبقاء لنفوذهم وحفظاً لسلطانهم؛ ولم يقل وأسر النجوى الذين ظلموا يؤذن بانقضاء الحديث عن الناس عند (لاهية قلوبهم) وابتداء الحديث عن أناس ظالمين يسرون النجوى في أمر الرسول واتهامه بأنه ساحر الخ فينقطع حبل الكلام ويختل نظمه ولا يتأدى الذي تأدى بإسناد الفعل إلى ضمير ثم إبدال الاسم الموصول منه. هذا إلى أن البدل مؤذن بفعل مماثل للفعل المذكور، لان البدل عندهم على نية تكرار العامل فيفيدنا تأكيد حصول الإسرار بالنجوى من الذين ظلموا. وعلى هذا النحو يسهل على العارف أن يتبين ما في آية المائدة: (أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا وفريقاً يقتلون. وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم، ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) فيعرف ما فيها من أسرار البلاغة. هذا.
أما بعد غشيت العرب والمسلمين غاشية ليس لها من دون الله واقية، وأزفت الآزفة حتى غدت أبصارهم لها كاشفة، فهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون؛ بل غدوا على حرد قادرين ولأنفسهم ظالمين، وعن دينهم معرضين، ولشريعة الله هادمين، ولكتاب الله ولغة العرب محاربين. يعبث بلغة القرآن صبيانهم، ويجرؤ على الطعن في كتاب الله والقول فيه بغير علم جهلاؤهم وكبراؤهم، ويطفئون نور العلم في معاهده ويأتون بناء الدين واللغة من قواعده، حتى عمت الطامة. واستحكمت الغمة، وحقت الكلمة. فهل في المسلمين لدين الله من صديق، وهل للغة العرب بين أبناء العرب من شفيق أو رفيق! أم هل فيهم من مفيق، وهل يعتبرون بهذه الأحداث، التي ستقذف - إذا لم يفيقوا - إلى بطون الأحداث؟
اللهم احفظ دينك واحم كتابك، وابعث في نفوس العرب والمسلمين روحاً منك تحي به دينهم وتحمي لغتهم وأوطانهم وتدفع عنهم كيد الكائدين وعبث العابثين المفسدين إنك نعم المجيب.
محمود أحمد الغمراوي
من علماء الأزهر