مجلة الرسالة/العدد 815/السري الرفاء
→ الرجل الذي فقدناه | مجلة الرسالة - العدد 815 السري الرفاء [[مؤلف:|]] |
وحدة الوجود ← |
بتاريخ: 14 - 02 - 1949 |
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
السري بن أحمد الكندي الموصلي المعروف بالرفاء من شعراء القرن الرابع الهجري النابهين.
نشأ في الموصل رفاء يرفو الثياب، وقد ذكر هذا في شعره إذ كتب إليه صديق يسأله عن حاله فأجاب بأبيات
منها:
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري
فأصبح الرزق بها ضيقا ... كأنه من ثقبها جاري
يقول الثعالبي في يتيمة الدهر:
(ولم يزل السري في ضنك من العيش إلى إن خرج إلى حلب واتصل بسيف الدولة واستكثر من المدح له فطلع سعده بعد الأفول، وبعد سيطه بعد الخمول وحسن موقع شعره عند الأمراء من بني حمدان ورؤساء الشام والعراق ولما توفى سيف الدولة ورد السري بغداد ومدح المهلبي الوزير وغيره من الصدور فارتفق بهم وارتزق معهم وحسنت حاله، وسار شعره في الآفاق، ونضم حاشيتي الشام والعراق، وسافر كلامه إلى خراسان، وسائر البلدان).
فهذا شاعر عاش في الشام والعراق في القرن الرابع، وشهد حلبة الأدب عند الأمير العربي الجواد الأديب سيف الدولة، واتصل بالوزير الأديب المهلبي في بغداد. فهو يمثل الشعر العربي في عصر من أندر عصوره، وفي أمجد أقطاره. ففي شعره مجال للأديب واسع، وقد صرف القول في فنون الشعر المعروفة في عصره، نافس كثيرا من شعراء زمانه. ولا يتسع حديثنا للقول في تاريخ السري الرفاء وشعره، فأكتفي بموضوعين.
الأول عداؤه للأديبين الموصليين الأخوين محمد وعثمان المعروفين باسم الخالدين، وهجاؤه إياهما بسرقة شعره وشعر غيره وتصريفه القول في غارتهما على الشعر، والولوع بذكر هذا في قصائد مدحه وهجائه. وإن صح ما رواه الثعالبي عنه فقد حملته العداوة على ما لا يحمل بالأدباء. يقول الثعالبي: (ونابذ الخالدين الموصلين وناصبهما العداوة، وادعي عليهما سرقة شعره وشعر غيره وجعل يورق وينسخ ديوان شعر أبي الفتح كشاجم - وهو إذ ذاك ريحان أهل الأدب بتلك البلاد، والسري في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب - وكان يدس فيما يكتبه من شعره أحسن شعر الخالدين ليزيد من حجم ما ينسخه، وينفق سوقه ويغلي سعره، ويشنع بذلك على الخالدين ويغض منهما، ويظهر مصداق قوله في سرقتهما، فمن هذه الجهة وقعت في بعض النسخ من ديوان كشاجم زيادات ليست في الأصول المشهورة منها وقد وجدتها كلها للخالدين بخط أحدهما).
فهذا مثل ادعاء السري على هذين الشاعرين سرقة الشعر. وأما هجائه إياهما بسرقة من أشعاره خاصة فقد افتن به افتتانا وردده في كثير من شعره وقد سلط الله عليه الثعالب جزاء وفاقا فعقد هذا المؤلف الكبير فصلا في اليتيمة لسرقات السري من الشعراء وأفاض القول فيها. واكتفى هنا بمثالين من شعره في هذا الموضوع:
كتب الخالديان إلى أبي إسحاق الصابي الكاتب المعروف أنهما قادمان إلى بغداد فأنشأ السري للصابي قصيدة أولها:
قد أظلتك يا أبا اسحق ... غارة اللفظ والمعاني الدقاق
فأتخذ معقلا لشعرك تحميه ... مروق الخوارج المراق
كان سن الغارات في البلد القف ... ر فأضحى على سرير العراق
غارة لم تكن لسمر العوالي ... حين شنت ولا السيوف الرقاق
جال فرسانها علي جلوسا ... لا أضلتهم سيوف العناق
إلى أن يقول:
يالها غارة تفرق في الحو ... مة بين الحمام والأطواق
تسمي الفارس السميدع بالعا ... ر وبعض الأقوام عار باني
لو رأيت القريض يرعد منها ... بين ذاك الإرعاد والإبراق
وقلوب الكلام تخفق رعبا ... تحت ثنتي لوائها الخفاق
وسيوف الظلام تفتك فيها ... بعذارى الطروس والأوراق
والوجوه الرقاق داوية الأبش ... ار في معرك الوجوه الصفاق لتنفست رحمة للخدود الس ... مر منهن والقدود الرشاق
وله قصيدة أخرى فيها يخاطب أبا الخطاب والمفضل بن ثابت الضبي وقد سمع أن الخالدين يريدان الرجوع إلى بغداد، في عهد الوزير المهلبي يقول في مطلعها:
بكرت عليك مغيرة الأعراب ... فاحفظ ثيابك يا أبا الخطاب
ورد العراق ربيعة بن مكدم ... وعتيبة بن الحارث بن شهاب
أفعندنا شك بأنهما هما ... في الفتك لا في صحة الأنساب
جلبا إليك الشعر من أوطانه ... جلب التجار طرائف الأجلاب
فبدائع الشعراء فيما جهزا ... مقرونة بغرائب الكتاب
شننا على الآداب أقبح غارة ... جرحت قلوب محاسن الآداب
لا يسلبان أخا الثراء وإنما ... يتناهبان نتائج الألباب
إلى أن يقول:
نظرا إلى شعر يروق فتربا ... منه خدود كواعب أتراب
في غارة لم تنتظم فيها الضبا ... ضربا ولم تند القنا بخضاب
تركا غرائب منطق في غربة ... مسبية لا تهتدي بإياب
جرحى وما ضربت بحد مهند ... أسرى وما حملت على الأقتاب
ويصف شعره بهذه الأبيات وهو كثير الإعجاب بشعره، مولع بالحديث عنه.
لفظ صقلت متونه فكأنه ... في مشرقات النظم در سحاب
وكأنما أجريت في صفحاته ... حر اللجين وخالص الزرياب
أغربت في تحبيره فرواته ... في نزهة منه وفي استغراب
وقطعت فيه شبيبة لم تشتغل ... عن حسنه بصبا ولا بتصابي
وإذا ترقرق في الصحيفة ماؤه ... عبق النسيم فذاك ماء شبابي
يصغي اللبيب له فيقسم لبه ... بين التعجب منه والإعجاب
جد يطير شراره وفكاهة ... تستعطف الأحباب للأحباب
ثم يعود فيرثي لهذا الشعر الجميل الذي كتبه بماء شبيبته من قارة الخالديين فيقول:
أعزز علي بأن أرى أشلائه ... تدمى بظفر للعدو وناب أفن رماه بغارة مأفونة ... باعت ظباء الروم في الأعراب
إني أحذر من يقول قصيدة ... غراء خدني غارة ونهاب
هذا موضوع فكه طريف يستطيع الأديب أن يتناوله بالبسط والشرح ليبين عما بين السري والخالديين من عداء ويتعرف أسبابه، ويقضي فيما يدعيه السري عليهما من سرقة، وفيما أتهم الثعالبي به السري من دس لشعرهما في ديوان كشاجم، وعن الصلة بين أشعار هؤلاء الأربعة من شعراء القرن الرابع وما يتصل بهذا من قضايا أدبية خطيرة في ذلك العصر المزدهر.
ولم يقتصر إعداد السري بشعره واتهام الناس بسرقته على ما بينه وبين الخالديين، بل تناول غيرهما من الشعراء بهذه التهمة. ومن هؤلاء أبو العباس النامي الشاعر المعروف. قال السري عن النامي وادعى أنه كان جزارا:
أرى الجزار هجيني وولى ... فكاشفني وأسرع في انكشافي
ورقع شعره بعيون شعري ... فشاب الشهد بالسم الزعاف
لقد شقيت بمديتك الأضاحي ... كما شقيت بغارتك القوافي
توعر نهجها بك وهو سهل ... وكدر وردها بك وهو صافي
ويصف قصائده بأبيات يقول فيها:
جمعنا الحسنيين فمن رياح ... منعبرة وأرواح خفاف
ثم يرجع إلى ذكر إغارة النامي على الشعر فيقول:
وما عدمت مغيرا منك يرني ... رقيق طباعها بطباع جافي
معان تستعار من الدياجي ... وألفاظ تقد من الأنافي
وشر الشعر ما أبداه فكر ... تعثر بين كد واعتساف. الخ
وأما الموضوع الثاني من الكلام عن السري الرفاء فموعده المقال الآتي إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام