الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 813/مسابقة الفلسفة لطلاب التوجيهية: (4)

مجلة الرسالة/العدد 813/مسابقة الفلسفة لطلاب التوجيهية: (4)

مجلة الرسالة - العدد 813
مسابقة الفلسفة لطلاب التوجيهية: (4)
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 01 - 1949


(1) النفس أبن سينا (4)

للأستاذ كمال دسوقي

لا يفوتني قبل أن أتقدم بكم إلى موضوعنا اليوم أن أنبهكم إلى هذه الصلة الوثيقة بين العقل بقسميه النظري والعملي عند أبن سينا وبين تصنيفه للعلوم العقلية. ولما كنت أخشى ألا يتيسر لكم الوقوف على هذا التصنيف في كتابه الشفاء، أو في مقدمة منطق المشرقيين أو في رسالته في أقسام العلوم العقلية، فإني مجمل لكم الحديث عن لوحة تقسيمه للعلوم هذه التي ينبغي أن تقفوا عليها وأن تربطوها بأقسام العقل النظري والعملي التي حدثتكم عنها في المقال السابق.

ذلكم أن العلوم تنقسم عند أبن سينا كذلك إلى نظرية وعملية. فالنظري منها ما كانت غايته حصول الاعتقاد اليقيني بحال الموجودات التي لا يتعلق وجودها بفعل الإنسان، كالله والكواكب، والأرض، والأعداد. . . الخ اعتقادا غايته الوصول إلى الحق والبحث عن الحقيقة أما العملي فيتجاوز حصول الاعتقاد إلى حصول رأي هملي فيما هو من تدبير الإنسان وكسبه؛ حصولا من شأنه أن يؤدي بنا إلى الخير أو فهنا تفرقة الأشياء من حيث وجودها بإرادتنا أو بغير إرادتنا وكيفية علمنا بها على هذا الأساس.

والعلوم النظرية عنده ثلاثة: العلم الأدنى (الطبيعيات)؛ وموضوعه هذه الأمور التي حددوها ووجودها يتعلقان بالمادة والحركة، كأجسام الأفلاك التي تحدثنا عنها، والعناصر الأربعة وكل ما هو جسمي على الإطلاق. مما يتغير عليه الحركة والسكون والكون والفساد والتغير والاستحالة ولهذا العلم مبادئ أصلية نظرية هي التي ذكرناها حين كنا نتحدث عن موضع النفس من مذهب أبن سينا، وتطبيقات فرعية كالطب والتنجيم والفراسة والكيمياء مما يقوم على المبادئ الأصلية السابقة. ثم العلم الأوسط (الرياضيات) وموضوعه أمور يتعلق وجودها بالمادة وأن تجردت حدودها منها، كعلم العدد (الحساب) والهندسة (علم السطوح والأشكال والمقادير) وعلم الهيئة (الأفلاك وأوضاعها وحركتها) والموسيقى (علم النغم والإيقاع واللحن والنفاق. . .) هذه مبادئه الأصلية، وله كذلك فروع تطبيقية كالمساحة والحيل (الميكانيكا) وعلم المناظر والمرايا وجر الأثقال ونقل المياه. . . الخ. وأخيرا الع الأعلى (الإلهيات) التي ليست أمورها ذات تعلق بمادة أو حركة والتي تبحث في ذات الواحد الحق وصفاته من هوية ووحدة وعليه. . الخ. وله هو الآخر أصول وفروع لا داعي للإحاطة بها.

أما العلوم العملية فهي التي موضوعها الأفعال التي تشترك مع غيرنا أفرادا وجماعات - وهذه بطبيعة الحال أمور من محض فعلنا وإرادتنا. فان كانت لتدبير يختص بشخص واحد بما يحقق له السعادة فهي علم الأخلاق، وإن كانت تبحث في تدبير الإنسان لأسرته وروجه وولده ومملوكة (خادمه) بما يحقق سعادتهم أيضا فذلك تدبير المنزل، وإن كانت هذه الأمور تتناول صنوف الرياسات والسياسات المجتمعات والمدن الفاضلة فذلك هو علم السياسة. . . هذه هي العلوم العملية عند أبن سينا، وهذه تصنيفه العلوم كلها وتصنيفه الفارابي قبله. والمنطق هنا يجعله أبن سينا مقدمة وآلة للعلوم فحسب، وإن كان في تقسيم كتبه فعلا يجعله القسم الأول منها، ثم يتبعه بالطبيعيات فالإلهيات - على نحو ما بينت لكم من قبل - ونكتفي بهذا التقسيم لأبن سينا؛ لأنه أرستطالي من جهة، ولأنه أدنى إلى موضوعنا في تقسيم النفس إلى نظرية وعملية، من جهة أخرى. وإلا فان له تقسيما آخر مختلفا بعض الشيء (في مقدمة منطق المشرقين) لا داعي لذكره.

ويهمني - ويهم أبن سينا كذلك - أن تميزوا بين أنواع الإدراك المختلفة التي تحصلها كل ملكة من ملكات العقل؛ فان له هنا نظرية في المعرفة جديرة بالاعتبار، ونظرا في طبيعة الإدراك من حيث علاقته بالشيء المدرك. فإذا كان الإدراك هو أخذ صورة المدرك مجردة عن المادة أي نحو من التجريد؛ فإن الحس يدرك الأشياء مع لواصقها المادية، كالتكثر، والانقسام، والكم (العدد) والكيف (الخصائص والصفات) والابن (المكان) والوضع. . . الخ. والخيال يجرد صورة الشيء المدرك من المادة تجريدا تاما تقريباً، يستوي معه وجود الأصل أو عدمه ولكنه لا يجردها من العلائق، بل تظل ملابسة لها في الخيال، أما الوهم فأنه يدرك المعاني التي قد توجد في مادة ولكنها ليست في ذاتها مادية كالخير والشر والملائم وغير الملائم، إدراكا جزئيا لا يبرا من لواحق المادة والحس والخيال. وأما العقل - أو الحاكم العقلي كما يسميه - فيدرك الصور مجردة عن المادة من كل وجه وعن علائقها ولواحقها من أي نوع.

ولا يخفى عليكم أن أبن سينا يمهد للدخول في إثبات وجود النفس بوصفها جوهراً مفارقاً للبدن، فيقيم لكم التناقض واضحاً جلياً من مادة الشيء المدرك - حتى في غيبته عن الحس - وجوهرية العقل المدرك؛ بين تعلق هذا الأول بالمادة والمكان والجهة، وتجرد ذلك الثاني منها. يريد أن يخلص من ذلك إلى أنه لا شيء مما يدرك الجزيئات المادية إلا وهو مادي، وإن لا شيء أيضاً مما يدرك الكليات العقلية إلا وهو مجرد، وأن يدلل على أن الإدراك الحسي والخيالي والوهمي - نظراً لتعقلها جميعا بصور جزئية خيالية على نحو ما أسلف القول - فهي إنما تقع بالآلة الجسمانية التي ليست مجردة من المادة ولا مقارقة للوضع الجسمي.

أما الجوهر الذي هو محل المعقولات المجردة فمجرد كذلك من المادية والجسمية فهو ليس جسماً ولا حالا في جسم بوصفه صورة أو قوة له. وحجته هنا تقوم على إنكار ما أثبته في الفصل السابق للقوى الإدراكية الجزئية على القوى المدركة العقلية - أعني الانقسام المادي في القوى الحاملة أو القابلة للإدراك، نتيجة لانقسام المدرك ذاته. فلما كانت المدركات الحسية مقسمة ومتجزئة بدليل أنك تدرك الشيء الواحد - كالإنسان مثلا - متفاوتاً في الكبر أو الصغر، وأن هذا التفاوت لا بد أن يكون من جانب المدرك أو المدرك، فقد كانت القوى الدراكة الجزئية منقسمة كذلك. وإذن فهي في مكان ووضع وجهة، وبالتالي فهي مادية كمدركاتها، متصلة بها غير مفارقة.

وطريقة أبن سينا في إثبات تجرد جوهر العقل من المادة أن يبرهن على أن هذا الجسم الذي سيحل فيه المدرك العقلي أن كان جسما - فهو إما غير منقسم (جزء لا يتجزأ كالذرة - باعتبار ما مضى - وكالجوهر الفرد أو النقطة الرياضية) أو مقدار منقسم فعلاً. فإن كان الأول فهو غير معقول؛ لأن النقطة وهي منفردة لا تقبل شيئا من الأشياء وإلا أصبحت ذات وجهات (حجم) ولم تعد نقطة. ولأنها وهي طرف من خط هي نهايته فلا بد أن يكون لجزء من هذا الخط نصيب مما تقبله؛ وحينئذ يكون للنقطة وجهان أحدهما غير الأخر ومخالف له. فالوجه الذي هو نهاية الخط غير الوجه الملاصق له من الناحية الأخرى. وإلا كانت النقطة منفصلة عن الخط ولم تكن هي نهايته، وهذا خلف مع ما أفترضه من قبل، ومع أبطاله في مواضع أخرى للجوهر الفرد فثبت إذن فساد القول بأن جوهر العقل شيء غير منقسم.

ويتضح كذلك فساد أن يكون شيئاً منقسماً تبعاً لانقسام الصورة العقلية التي يدركها مثلا. إذ لو كانت الصورة العقلية منقسمة لم يأت من مجموعها شبيه بها إلا بالزيادة والكم والمقدار مما سبق إن قلنا أنه خاص بالصور الخيالية - كما أن أحد أجزائها لن يدل على معنى الكل وإلا كان هو الكل ولميكن ثمة انقسام. هذا إذا كان القسمان متشابهين؛ إما إذا كان غير متشابهين فإنه يترتب على ذلك أن حد الصورة العقلية (الذي هو الجنس والفصل كما درستم في بابي الكليات الخمس والتعريف) يكون منقسما. وهو عند أبن سينا محال لأنه يبين هنا - وفي قسم المنطق من قبل - أن الأجناس والفصول متناهية وغير منقسمة، كذلك لا تنقسم الصورة العقلية إلى جنس من ناحية وفصل من ناحية أخرى؛ كل على حدة (بعد أن ثبت فساد انقسام كل على نفسه) وإلا كان نصف الصورة العقلية يحتوى نصف الجنس ونصف الفصل، وفي هذا خلف مع ما سبق إثباته؛ أو إذن لحل الجنس والفصل كل موضع الآخر وهو محال. فالصورة العقلية هي إذن مبادئ بسيطة قابلة لتركيب معقولات أكبر، دون أن يكون لها أجناس أو فصول، ودون أن تنقسم في الكم إلى أجزاء متشابهة أو غير متشابهة؛ وبالتالي فهي لا تحل في مقدار، والقابل لهذه المعقولات المجردة فينا هو جوهر غير جسمي أو مادي.

ولأبن سينا هنا حجة أخرى على تجرد الجوهر العقلي من المادة. . . مؤداها أن تجريد الصورة العقلية عن المكان والوضع والكم والأين وسائر المقولات فهو باعتبار وجودها الذهني وتصورها العقلي لا في الواقعي الخارجي، ومثل هذه الصورة العقلية المفارقة لمادتها لا يمكن أن تكون في جسم، وإلا فلو أن هذه الصورة العقلية المجردة قد انطبقت في جسم ذي جهات وأقسام لنتج محال وخلف لما فرضناه في البدء. وخلاصة القول أن محل المعقولات والجوهر القابل للصورة المجردة هو مثلها مجرد - ولا يمكن أن يكون جسماً أو في جسم بحال، على عكس الصورة المنطبقة في المادة والتي هي أشباح لأمور جزئية منقسمة لكل قسم منها نسبة بالقوة أو بالفعل لجزء من الشيء المادي أو لكله.

وإذ برهن أبن سينا بهذين الدليلين على تجرد الجوهر العقلي من المادة والجسمية أنتقل إلى النتيجة المنطقية التي تلزم هذا البرهان بالضرورة، وهي أن تعقل القوى العقلية المذكورة ليس يحدث بالآلة الجسمية. وله في ذلك حجج ثلاث: أولاها أنه لو كان تعقل هذه الصور بآلة جسدية لم تستطع أن تعقل ذاتها وتشعر أنها تعقل (كالحس مثلا أو الخيال والوهم التي تحس أو تتخيل وتتوهم أشياء خارجة عنها - دون أن تشعر بفاعليتها هذه) - إما العقل - فإنه يعقل الصورة الكلية. ويعقل أنه يعقلها - مما يدل على أنه ليس بينه وبين ذاته آلة أخرى وسيطة وبالتالي أنه يعقل بذاته - وحجة أخرى هي أن الحواس وما من شانه أدراك الصورة الحسية الجزئية يوهنها دوام العمل، ويصيبها بالعجز والكلال (وأمثلته هنا كثيرة واضحة) بينما القوة العقلية لا يزيدها التعقل إلا جلاء وجدة، وصفاء وقوة ودربة؛ ما لم يفسد الخيال والحس هذه الملكة. والحجة الثالثة على أن القوة العقلية ليست جسمية أنها ليست خاضعة للضعف أو الشيخوخة شأن سائر القوى البدنية في سن معينة. بل لا تزال قوية فتية بعد هذه السن بكثير ما لم يطرأ عليها طارئ مرضي أو نحوه. فإن صح أن النفس يتعطلفعلها عند مرض البدن كما يتوهم - أو عند الشيخوخة، فما ذلك إلا لأن النفس - كما بينا من قبل - لها فعل بالقياس إلى البدن (أدارته وسياسته) وفعل بالقياس لذاتها (التعقل والتفكير) فبابهما اشتغلت انصرفت عن الأخر لا تجمع بين الاثنين مطلقاً، بل نسبياً؛ كما لا يتم فعلها إلا بالبدن فهو عالة على النفس، وشر لا بد منه.

وآية احتياج هذه القوة العقلية إلى معونة القوى الحسية الحيوانية أنه لا يتم لها معرفة ولا تعقل إلا إذا أمدنها هذه البدنية بمادة المعرفة الغفل (الخام فعندئذ تبدأ النفس عملها على أنحاء أربعة:

(1) التجريد والتعميم وانتزاع الكلي من الجزيئات، واستخلاص التصور الذهني

(2) ومن هذه التصورات الذهنية المجردة تقوم أحكام وقضايا سالبة وموجبة هي التي نسميها في المنطق التصديقات - التصورات تقوم في الحس المشترك والتصديقات في الخيال والوهم.

(3) ثم إن المتقدمات الكلية التي تستقيم عليها الأقيسة والبراهين والعقلية لا بد أن تكون من واقع الحياة والتجربة، وأن يكون سبيلها الملاحظة والمشاهدة والتعميم الذي يؤدي إليه الاستقراء والحواس هي وسيلة الاستقراء الأولى.

(4) وكذلك الخبرة والمسلمات والبديهيات التي نحصلها وتصدق بها لشيوعها وتواترها وجلاء الحق فيها، أي نحصلها بالسماع كما يقول العرب، أو - كما يقول الفرنسيون؛ هذه إنما تكتسبها بالسمع أو التعليم والتلقين أو التقليد وقد لا نصدق بها بعد.

وبهذا يكون أبن سينا قد أقام الدليل واضحًا قوياً على أن النفس الناطقة ليست في ذاتها جسما، وأنها لا تحل في جسم، لأن صورها المعقولة التي هي محلها ليست جسمية. وثبت إذن أن النفس الإنسانية جوهرها روحاني مفارق

كمال الدسوقي