الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 813/إن جسمي من بعد خالي لخل

مجلة الرسالة/العدد 813/إن جسمي من بعد خالي لخل

مجلة الرسالة - العدد 813
إن جسمي من بعد خالي لخل
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 01 - 1949


للأديب ناصر الدين النشاشيبي

(بمناسبة ذكرى وفاة العلامة المتشاشيبي)

أبكيك اليوم يا خالي في يوم ذكراك وكأنني فقدتك في أمسي القريب، وأتوجع عليك بعد عام في مرارة القريب وآسى الحبيب فلا أدري أحدثك عن نفسك - وأنت أشد الناس عداوة للحديث عن نفسك. أم أنقل إليك أخبار وطنك وأنباء أمتك - وأنت أحرص أمة محمد على أرض الرسل ومسرى الأنبياء، وأشد الناس فخرا بخير أمة أخرجت للناس. . . فيبكيك حديثي، ويشجيك نواحي وأنيني، ويزعجك في مثواك الأخير صيحات بلدك الممزق، وأمتك المشردة، وتراثك الضائع، وأملنا المفقود!!

كيف أبكيك وما عرفتك إلا جبارا في جميع نواحي حياتك؛ إن تحدثت خرجت كلماتك كالقذائف من أعماق نفسك، وإن خطبت - ما عرفتك خطبت - إلا بكيت وأبكيت. وما سمعتك تحدثت إلا أثرت وتأثرت، وما قرأت لك إلا تمثلتك أحد الصحابة في إيمانك وصوفيتك، وما من مرة ورد ذكرك على لسان الناس إلا رجعوا بذاكرتهم إلى عصر النبي وأيام الجاحظ وأبي عبيده والمبرد وصفوة الأدب الخالد. . . يتجسرون على بحور العلم وقد مسها الجفاف، وموسوعة الأدب والعبقرية وقد احتواها - ويا أسفي - التراب!!

هذا حديثي إليك بل بكائي عليك على صفحات رسالة صاحبك إمام النثر كما كنت تدعوه. وهو يسألني عن (النقل) فلا أجده، وعن الحديث فلا أسمعه، وعن المجلس فلا نبصره، ثم نفتقدك في أيام الشتاء - أيامك في قاهرة المعز - فنجدمكانك المعتاد وقد أقفر من الصحب والخلان، وزوارك العارفين والمعترفين وقد تخلفوا عن الركب وانقطعوا عن الزيارة، وما زالوا في دهشة من أمرك، وحيلة من مصيرك، يسألون ويتساءلون: - كيف. .؟ كيف تخلفت، وكيف غبت، وكيف انقطعت يا أعز الراحلين.؟!

إن قلبي ليبكيك بلسان الكثيرين من تلاميذك وزملائك وقد عشت لهم مخلصا ومتفانيا في أدبك، وجاهدت في سبيلهم بجهادك القوى في سبيل المعرفة، ومشيت معهم نحو دنيا النور والعلم فما كلت لك عزيمة، وما وهنت لك إرادة، وما عرفت معنى للضعف وأنت تصل الليل بالنهار في دراستك وأبحاثك متنقلا بين القاهرة (موئل العرب والعربية) وبيروت (وبيروت مدينة تهذيبي) وحلب الشهباء بلد صديقك إبراهيم (سلام على إبراهيم)! وبغداد حصن السعدون (وأمة منها السعدون لن تموت)! وكنت في كل أطوار حياتك المثل الأول لمن يحيا في سبيل فكرة - فكرة محمد ولغة محمد! ولمن يجاهد في سبيل مبدأ - مبدأ العرب والعربية. وهذه الإشارات تملأ أرجاء قصرك - (يا محمد.!!) وهذه الآيات البينات تزين أسوار بيتك - (أنا عبدك ورسول الله.!) وهذه الضعف في كبرياء القوى وهذه القوة في تواضع المسلم وهذا الإخلاص للغة الكتاب (أنا عبدها. . أنا عبدها. . . أنا عبد كل عبد يسود بعبديتها) وهذه تراثك في محمد ولغته ورجاله وهذا (إسلامك الصحيح) و (بستانك) و (كلماتك) و (نقلك) و (خطبك) وكل ما كتبت ونقلت وصححت وراجعت الدليل الصادق على أنك عشت وما عشت إلا لإسلامك، وعملت وما عملت إلا للغتك ولغة نبيك!

نشأت ثائرا على الدنيا وأنت وحيد أبويك فثرت عليهما وعلى الأهل والقربى. وترعرعت بين الخير والنعيم فدفعته بيديك ورغبت عنه لتشبع نفسك بصوفية الأقدمين، وزهد المؤمنين، ومشيت في خطوات الحياة لا أنيس لك إلا الشاعر أو ديوانه، ولا جليس معك لا الكاتب أو رسالته، ولا شاغل لديك إلا البحث والدرس واستقصاء والتحقيق، فحرمت نفسك الزوج والولد بعد أن حرمت والديك لذة الحرص على صحتك والعناية بنشأتك والفوز بقوتك، وكأنك أردت لنفسك طريقا خاصا في أسلوب حياتك، ونسجت لذاتك منوالا فذا في جوانب تفكيرك، فكنت كما عرفك الناس، فريدا في أسلوب أدبك، وحيدا في تصوير خطك، ذليقا - في عفة - لسانك، ثائرا في انفعالات عواطفك وأعصابك، متوقدا في ذهنك وتفكيرك، بسيطا في ملبسك، منطويا على نفسك البريئة، وروحك العذبة وقلبك الذي ما خفق إلا بالحب والوفاء. هكذا نشأت، وهكذا ترعرعت، وفي سبيل هدفك صرفت وضحيت.

وبيتك كعبة الحجاج من أخل الفضل الفضيلة، ومجلسك قبلة الأنظار من أهل العلم والمعرفة، وأنت. . أنت الروح في كل مجلس، وأنت الحجة في كل حديث، وأنت المتمكن من كل قول، وأنت الرقة في كل سمر، وأنت الراعي لكل تراث! أين أنت؟ ولمن خلفت عزك وعزيمتك؟ ولمن تركت (رسالتك) ونقلك)؟ ومن أولى منك (يا إمام العربية) بتراث العربية؟ وأنت خادمها، وأنت عبدها، وأنت لها، وأنت المدافع في كل حين عنها، وأنت القائل منذ أربعين عاما أو يزيد:

فإني بأرض الشرق أخدم أمتي ... وأرجو لها في كل واقعة نصرا

أخوض غمار الكون بالعلم والتقى ... ولا أسأل القوم العظام لي الأجرا

يا أبا عبيده! إني عليك لمكارم، ولفقدك لحزين، وأن حرمتني الأيام منك في حياتك - وأنا في مهد الصبا، ومقعد الدراسة - ثم حرمتني منك بعد أن حرمك الموت من نعمة الحياة، فإن ذكراك ستبقى حية عندي ما حييت، وستبقى خالدة على مدى الأيام ما بقيت العربية.!

يا خالي. . .

عليك رحمة الله. . . وإلى اللقاء. .!

ناصر الدين النشاشيبي