الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 811/حج غير مبرور

مجلة الرسالة/العدد 811/حج غير مبرور

مجلة الرسالة - العدد 811
حج غير مبرور
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 01 - 1949


رد جلسائي التحية إلى رجل ألقاها عليهم وهو يدخل القهوة في زي أنيق ورؤاء حسن؛ ثم أتبعوه النظر حتى جلس في جماعة من ذوي الهيئات قابلوه بنشاط وصافحوه بقوة؛ ثم عادوا بأبصارهم وأفكارهم إلى تشقيق الحديث، فقال أحدهم لجاره: أشهدت الحفلة التي أقامها بعد عودته من الحج في الأسبوع الماضي لمستقبليه ومهنئيه؟ فأجابه جاره: أوه! نعم شهدتها. ولقد بلغت هذا العام من ضخامة المادة وفخامة المظهر مبلغاً صغر سوابقها في أعين الناس على كثرة ما كان يجمع لها وينفق فيها!

فقال جاري: إن العجيب من أمر هذا الرجل أنه يحرص كل الحرص على أداء الحج في كل سنة، وهو لا يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة، ولا يصوم رمضان، ولا يكاد يتشهد! فكيف يقوم دينه على ركن واحد والإسلام كما نعلم إنما يقوم على أركانه الخمسة، وكلما تهدم منها ركن تقوض من بنيته بناء؟ فرد عليه شيخ مستنير الفكر بأنه اغتر على ما يظهر بقول المتزيدين من جهلة الشيوخ: إن الحج وحده يمحص الذنوب ويمحو الخطايا حتى ليذهب الرجل إلى مكة وهو موقر النفس بالحرائر، مثقل الضمير بالكبائر، فيعود منها وهو نقي الصحيفة كيوم ولدته أمه! وإن كثيراً من مطففي الكيل وقطاع الطرق ورواد الفحش يبسطون لأنفسهم العنان في المنكر اتكالاً على حجة يغتسلون بها فيعودون بزعمهم أبراراً كالأطفال وأطهاراً كالملائكة! ولكن الأعجب في أمر هذا الحاج أنه تاجر وليس له متجر نراه، وغنى وليس له مورد نعرفه. يقضي عامه من الحجة إلى الحجة وهو فارغ البال من هموم العيش، مستريح البدن من مؤونة العمل، يتنقل بالنهار في المدن وبين الناس، ويتقلب بالليل في المواخير وبين الندامى، حتى إذا اقترب ميقات الحج، وهفت النفوس المؤمنة إلى مشرق الدين ومهبط الوحي، فطم نفسه عن رضاع الكأس، وأصم إذنه عن نداء المنكر، وأخذ يعد الجواز والجهاز لأداء هذه الفريضة. وقد لاحظ مخالطوه أن موسم الفيضان في رزقه يبدأ بعد رجوعه من الحجاز، فيبسط أنامله العشر بأوراق النقد، يولم بها الولائم، ويقدم منها الهدايا، ويدرك عليها اللذائذ؛ والمعروف أن الزكاة هي التي تبارك المال وتنميه لا الحج، وأن العمل هو الذي يجلب الرزق ويبقيه لا التبطر؛ ولكن هذا الرجل لغز لا يحل، وسر لا يدرك! فابتسم أحد الحضور وقال: وماذا عندك لي إذا كشفت المخبوء وشرحت الغامض؟ فقال له الشيخ: ثمن القهوة وأزيدك طلباً آخر. فقال الرجل إن حال الحاج إبراهيم كحال كثير من خاصة الحجاج، يذهبون إلى مكة محرمين، ويعودون منها مجرمين! ألم تلاحظ وأنت من جيرة هذا الحاج إنه يجلب من الحجاز مقادير كبيرة من التمر والحلوى على خلاف ما جرت به العادة؟ قال الشيخ: بلى، وما السر في ذلك؟ قال: السر إنك إذا شققت تمرة من يابس التمر، أو فتحت علبة من علب الحلوى، وجدت فيها الكنز الذي ينفق منه طول العام. وهذا الكنز قبل أن تسألني عنه نوع من الحشيش المزمزم المبارك مما يجلبه أتقياء الحجاج من منابت آسية العجيبة، إلى أرض الحجاز المقدسة الحبيبة! فصحنا جميعاً دهشين: والجمرك؟ فعرض الرجل ابتسامة وقال: صلوا على النبي يا جماعة! والله لو كان على حدودنا تفتيش، لما دخل مصر أفيون ولا حشيش!

أحمد حسن الزيات

الميثاق العالي لحماية حقوق الإنسان

للأستاذ عمر حليق

تعتقد لايك سكسس ومعها بعض ألسنة الرأي العام الدولي أن أبرز عمل قامت به الجمعية العمومية لهيئة الأمم في اجتماع باريس هو موافقتها على الميثاق العالمي لحماية حقوق الإنسان.

ولو أننا تناسينا مؤقتاً فقدان السلطة العملية التي ما فتئت هيئة الأمم المتحدة تسعى لتحقيقها، واتخذنا الناحية النظرية مقياساً لهذا الميثاق - لتبين لنا خطورة هذه الخطوة التاريخية التي سجلت فيها الأمم المتحدة - نظرياً على الأقل - حمايتها للفرد أيان كان وضد أي كان - ضد الدولة الغاشمة، وضد الأنظمة الظالمة، وضد النظرة القومية الضيقة التي تحاول أن تنال من حقوق الفرد باسم الصالح القومي فإذا هي تعصف بأهم دعائم القومية الحقة وهي حرية الفرد وحقوقه.

ولا غرابة إذن أن ينفرد بالتصويت ضد هذا الميثاق ممثلو دول أوربا الشرقية الذين يفرضون أنفسهم على الشعب بقوة الحديد والنار؛ ودولة اتحاد جنوب أفريقيا حيث تحول القومية العنصرية الضيقة دون المساواة في الحقوق بين السكان الأوربيين وهم قلة، والسكان الوطنيين الأفريقيين وهم كثرة. وقد صوتت كذلك ضد الميثاق المملكة السعودية لعدة أسباب كلها مستمدة من طبيعة النظام المحافظ الذي يعيش عليه المجتمع السعودي.

وقد احتاط واضعو الميثاق خلال نقاش دام عامين ونصف العام لتدعيم الميثاق بدعائم عملية فأوصوا بإنشاء محكمة دولية للنظر في شكاوى الأفراد ضد الذين يعتدون على حقوقهم سواء كان المعتدون الدول التي يعيشون في ظلها أم دول أجنبية كما هو الحال في المستعمرات والمحميات. وفي الميثاق - ميثاق حقوق الإنسان - نص صريح يعطي الأفراد في المستعمرات والمحميات والمنتدبات في سائر أنحاء المعمورة دون تفرقة في اللون أو العنصر أو المذهب، الحق في رفع مظالمهم إلى المحكمة الدولية إذا وجدوا أن الدول الحاكمة جائرة على حقوقهم الشخصية منتهكة لأسسها ظاهراً أو باطناً. والواقع أن الميثاق الجديد يكرر كثيراً الحقوق التي نصت عليها الدساتير الحرة القديمة والمعاصرة، ولكن في هذا الميثاق العالمي ناحية مستحدثة مستمدة من التطور الذي ألم بالتفكير المعاصر، هذه الناحية هي حماية حقوق الفرد الاقتصادية بالإضافة إلى حماية حقوقه السياسية.

هذه الحقوق الاقتصادية تقر بأن الإنسان خلق حراً له من الحقوق ما لجميع إخوانه في الإنسانية لا يحول بينه وبين هذه المساواة لون أو عنصر أو محتد أو مذهب أو عقيدة فكرية، وأن له مساواة مطلقة في الإمكانيات الاقتصادية يرعاها له القانون ويثبتها له بمجرد كونه إنساناً يعيش. والميثاق الجديد لا يحاول أن يتخذ من الفرد مادة ليصنع منها دولة قوية أو حكومة مطلقة السيادة حرة التصرف في شؤونه سواء كان التصرف متمشياً مع حرية الفرد غير ماس بحقوقه أم كان مخالفا لها كما هو الحال في الدول الدكتاتورية.

الميثاق الجديد إذن لا يتخذ الإنسان مادة تبنى بها الدولة، بل يعترف للفرد بحرية الرأي والتفكير والتعبير تحت أي نظام وفي وجه أي سلطة. والميثاق يتخطى حدود الدولة إلى مرجع دولي أعلى، أحكامه وقراراته تقيد الأمم المتحدة بالتزامات قانونية وأدبية وترغمها على رفع الضيم وإزالة المظلمة. وتدرس لايك سكسس الآن الخطوات العملية لإنشاء هذه المحكمة العليا بعد أن تقر برلمانات الدول المشتركة في هيئة الأمم حقوق الإنسان هذا ليصبح فرعاً من القانون الدولي له سلطة راسخة في أسس النظام العالمي. قلت أن الأمم المتحدة في الجمعية العمومية بباريس وافقت على هذا الميثاق باستثناء روسيا وحلفائها من دول أوربا الشرقية، وباستثناء اتحاد جنوب أفريقيا والمملكة السعودية العربية التي قال مندوبها السيد جميل البارودي أن التقاليد ونظام الحكم القائم في نجد والحجاز يخالف بعض المواد التي نص عليها ميثاق حقوق الإنسان هذا فيما يتعلق بسلطة الحكومة وبعض السلطات المذهبية والأنظمة الاجتماعية.

أما معارضة السوفيات وحلفائهم فكانت تستند إلى نقطتين في الفلسفة الماركسية.

فالميثاق العالمي الجديد يعترف للفرد بالحرية الاقتصادية بمعنى أن لكل إنسان الحق في امتلاك أسباب الرزق ووسائله والسعي لتنميتها بشتى الطرق المشروعة دون أن يتقيد بالتزامات الاقتصاد الموجه الذي تدعو وتعمل له الشيوعية عملاً بالمبدأ الماركسي القائل (من كل حسب طاقته، إلى كل حسب حاجته). ولذلك فأن روسيا السوفيتية وحلفاءها الشيوعيين وجدوا في هذه الحرية الاقتصادية التي نص عليها الميثاق مخالفة للمبدأ الشيوعي فرفضوا الأخذ بها.

ونقطة المعارضة السوفيتية الثانية هي نص الميثاق على أن للفرد الحق في رفع مظالمه ضد الدولة حين تعتدي على حقوقه وتنتهكها إلى محكمة عالمية ستنشأ لهذه الغاية كما أسلفت. وقد احتج الروس بأن في هذا التخطي - تخطي الفرد سلطة الدولة إلى سلطة عالمية - تعدياً على سيادة الدولة، وهذا ما لا يرضى به الروس والغريب في منطق السوفيات هذا إنه يخالف الهدف الرئيسي للعقيدة الماركسية الذي يسعى لإزالة الدولة كنظام اجتماعي بعد أن نتحقق سلطة الطبقات العاملة (البروليتارية

وقد رد مندوب الفليبين الجنرال رومولو على هذه المعارضة الروسية قائلاً أن الميثاق ينص في مقدمته على إنه ميزان العدالة لجميع الشعوب في جميع الأمصار، فإذا أخطرت دولة في مؤتنف الزمن إنها تتنازل عن بعض اوجه سيادتها لتحقق نظاماً عالمياً جديداً يدين بمبادئ إنسانية راسخة لصالح الإنسانية جمعاء، فلا بأس من هذا التنازل. وألا فلماذا تحاول الأمم أن تحل مشاكلها ومشاكل السلم والحرب والرخاء عن طريق التعاون والتكالف الدولي؟

هذا الميثاق الجديد الذي نحن بصدده هو وليد مناقشات - بعضها بلغ منتهى الحدة - استمرت عامين ونصف العام لعب فيها الدكتور شارل مالك مندوب لبنان في هيئة الأمم ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي دوراً رئيسياً اعترف به وقدره مندوبو الأمم المتحدة في عبارات التقريظ التي أعقبت مرور الميثاق في الجمعية العمومية في جلساتها الختامية بقصر شايو بباريس. فقد كان الدكتور مالك مقرراً للجنة التي وضعت الميثاق، وقد صاغ كثيراً من مواده في بلاغة وحكمة استدعت الفخر والإعجاب. لأن الدور الذي قام به المندوب العربي دل على الكفاية الكامنة في الشعوب الصغيرة إذا أعطيت الفرصة وتوفرت لها الرعاية قامت بخدمات فريدة.

وبعد. إنه ميثاق حقوق الإنسان لا يزال حبراً على ورق. ترى هل يقدر له أن يلعب الدور الذي لعبه في تطور الحرية الفردية (الماجناكارتا) وتعاليم الثورة الفرنسية؟

الجواب في مدى التعاون الذي سيسود العلاقات الدولية في السنين القادمة، ومدى رسوخ الاستقرار في عالم مضطرب.

(نيويورك)

عمر حليق