مجلة الرسالة/العدد 81/وحُي القبور
→ الحج. . . | مجلة الرسالة - العدد 81 وحُي القبور [[مؤلف:|]] |
في الجحيم البلقاني ← |
بتاريخ: 21 - 01 - 1935 |
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ذهبتُ في صُبح يوم عيد الفطر أحملُ نفسي بنفسي إلى المَقْبرة، وقد مات لي من الخواطر مَوْتَى لا مَيتٌ واحد؛ فكنتُ أمشى وفي جِنَازَةٌ بمُشَيِّعيها من فكرٍ يحملُ فكراً، وخاطرٍ يتبعُ خاطراً، ومعنى يبكي ومعنى يُبكى عليه؛ وكذلك دأْبي كلما انحدرت في هذه الطريق إلى ذلك المكان الذي تأتيه العيونُ بدموعها، وتمشى إليه النفوسُ بأحزانها، وتجيء فيه القلوبُ إلى بقاياها. تلك المقابرُ التي لا ينَادي أهلُها مِن أَهليهم بالأسماء ولا بالألقاب ولكن بهذا النداء: يا أحبابنا؛ يا أحزانَنَا
ذهبتُ أزور أمواتي الأعزاءَ وأتصلُ منهم بأطراف نفسي لأحيا معهم في الموت ساعةً أعرضُ فيها أمرَ الدنيا على أمر الآخرة، فأنسى وأذكر، ثم أنظرُ وأعتبر، ثم أتعرف وأتوسم، ثم أستبطنُ مما في بطن الأرض، وأستظهرُ مما على ظهرها؛ وجلستُ هناك أُشرِفُ من دهرٍ على دهر ومن دنيا على دنيا، وأخرجتِ الذاكرةُ أفراحها القديمة لتجعلها مادةً جديدةً لأحزانها؛ وانفتح لي الزمنُ الماضي فرأيت رَجْعَةَ الأمس، وكأن دهراً كاملاً خُلق بحوادثه وأيامه ورفع لعيني كما تُرفعَ الصورةُ المعلقةُ في إطارها
أعرف أنهم ماتوا، ولكني لم أشعر قط إلا أنهم غابوا؛ والحبيبُ الغائبُ لا يتغير عليه الزمانُ ولا المكانُ في القلب الذي يحبه مهما تَراخَتْ به الأيام؛ وهذه هي بقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى، تترك فيها ما لا يمحى لأنها هي خالدة لا تُمحى
ذهب الأمواتُ ذَهَابَهم ولم يقيموا في الدنيا؛ ومعنى ذلك أنهم مروا بالدنيا ليس غير، فهذه هي الحياة حين تعبر عنها النفسُ بلسانها لا بلسان حاجتها وحِرصها
الحياة مدةٌ عمل، وكأن هذه الدنيا بكل ما فيها من المتناقضات إن هي إلا مَصْنَعٌ يُسَوغُ كلُّ إنسانٍ جانباً منه، ثم يقال له: هذه هي الأداةُ فاصنع ما شئتَ، فضيلتك أو رذيلتك
جلستُ في المقبرة، وأطرقت أفكر في هذا الموت. يا عجباً للناس كيف لا يستشعرونه وهو يهدمُ من كل حيٍ أجزاءً تحيط به قبل أن يهدمَه هو بجملته، وما زال كلُ بُنْيانٍ من الناس به كالحائط المُسَلطِ عليه خرابُه يَتَآكل من هنا ويتناثر من هنا
يا عجباً للناس عجباً لا ينتهي، كيف يجعلون الحياةَ مدة نزاع وهي مدةُ عمل؛ وكيف تبرحُ تَنْزُو النوازي بهم في الخلاف والباطل، وهم كلما تَدَافَعوا بينهم قضيةً من النزاع فضربوا خَصْماً بخصم وردوا كَيْداً بكيد، جاء حكمُ الموت تكذيباً قاطعاً لكل من يقول لشيء هذا لي
أما والله إنه ليس أعجبُ في السخرية بهذه الدنيا من أن يُعطَى الناسُ ما يملكونه فيها لإثبات أن أحداً منهم لا يملك منها شيئاً، إذ يأتي الآتي إليها لحماً وعظماً ولا يرجع عنها الراجعُ إلا لحماً وعظماً، وبينهما سفاهةُ العظم واللحم حتى على السكين القاطعة. . . .
تأتي الأيامُ وهي في الحقيقة تَفِرّ فِرارَها؛ فمن جاء من عمره عشرون سنةَ فإنما مضت هذه العشرون من عمره. ولقد كان ينبغي أن تُصَحح أعمال الحياة في الناس على هذا الأصل البين، لولا الطباعُ المدخولةُ والنفوسُ الغافلة والعقولُ الضعيفةُ والشهواتُ العارمة؛ فأنه ما دام العمرُ مُقْبِلاً مًدْبِراً في اعتبار واحد، فليس للإنسان أن يتناولَ من الدنيا إلا ما يُرضيه محسوباً له ومحسوباً عليه في وقتٍ معاً. وتكونُ الحياةُ في حقيقتها ليست شيئاً إلا أن يكون الضميرُ الإنساني هو الحي في الحي
ما هي هذه القبور؟ لقد رجعتْ عند اكثر الناس مع المَوْتَى أبنيةً ميتة؛ فما قطُّ رأوها موجودةً إلا لينسوا أنها موجودة. ولولا ذلك من أمرهم لكان للقبر معناه الحيُّ المتغلغلُ في الحياة إلى بعيد؛ فما القبرُ إلا بناءٌ قائمٌ لفكرة النهاية والانقطاع؛ وهو في الطرف الآخر رَدٌّ على البيت الذي هو بناءٌ قائم لفكرة البدء والاستمرار؛ وبين الطرفين المَعبدُ وهو بناءٌ لفكرة الضمير الذي يحيا في البيت وفي القبر، فهو على الحياة والموت كالقاضي بين خصمين يصلح بينهما صُلحاً أو يقضي
القبرُ كلمةُ الصدق مبنيةً متجسمةً، فكل ما حولها يَتَكَذبُ ويتأول، وليس فيها هي إلا معناها لا يدخله كذبٌ ولا يعتريه تأويل. وإذا ماتت في الأحياء كلمةُ الموت من غرور أو باطلٍ أو غفلةٍ أو أثرة، بقي القبرُ مذكراً بالكلمة شارحاً لها بأظهر معانيها داعياً إلى الاعتبار بمدلولها، مبنياً بما ينطوي عليه أن الأمر كله للنهاية
القبر كلمةُ الأرض لمن ينخدعُ فيرى العمر الماضي كأنه غيرُ ماضٍ، فيعملُ في إفراغ حياته من الحياة بما يملؤها من رذائله وخسائسه، فلا يزال دائباً في معاني الأرض واستجماعها والاستمتاع بها، يتلو في ذلك تِلْوَ الحيوانِ ويقتاسُ به فشريعته جَوْفُه وأعضاؤه. وترجعُ بذلك حيوانيته مع نفسه الروحانية، كالحمار الذي يملكُه ويعلفُه، لو سئل الحمارُ عن صاحبه من هو؟ لقال: هو حِماري. . . . . .
القبرُ على الأرض كلمةٌ مكتوبةٌ في الأرض إلى آخر الدنيا معناها أن الإنسان في قانون نهايته فلينظر كيف ينتهي
إذا كان الأمر كله للنهاية، وكان الاعتبارُ بها والجزاءُ عليها، فالحياةُ هي الحياةُ على طريقة السلامة لا غيرها. طريقة إكراه الحيوان الإنساني على ممارسة الأخلاقية الاجتماعية، وجعلها أصلاً في طباعه، ووزن أعماله بنتائجها التي تنتهي بها، إذ كانت روحانيته في النهايات لا في بداياتها
في الحياة الدنيا يكون الإنسان ذاتاً تعملُ أعمالها؛ فإذا انتهت الحياةُ انقلبت أعمالُ الإنسان ذاتاً يخلدُ هو فيها؛ فهو من الخير خالدُ في الخير ومن الشر هو خالد في الشر؛ فكأن الموت إنْ هو إلا ميلادٌ للروح من أعمالها؛ تولد مرتين آتيةً وراجعة
وإذا كان الأمر للنهاية فقد وجب أن تبطلَ من الحياة نهاياتٌ كثيرة فلا يترك الشُّر يمضي إلى نهايته بل يُحسم في بدئه ويقتل في أول أنفاسه؛ وكذلك الشأن في كل ما لا يحسن أن يبدأ، فانه لا يجوز أن يمتد كالعدواة والبغضاء، والبخل والأثرة، والكبرياء والغرور، والخداع والكذب؛ وما شابَكَ هذه أو شابهها، فإنها كلها انبعاثٌ من الوجود الحيواني وانفجارٌ من طبيعته؛ ويجب أن يكون لكل منها في الإرادة قبرٌ كي تسلم للنفس الطيبة إنسانيتها إلى النهاية
يا من لهم في القبور أموات!
إن رؤية القبر زيادة في الشعور بقيمة الحياة، فيجب أن يكون معنى القبر من معاني السلام العقلي في هذه الدنيا
القبر فمٌ ينادي: أسرعوا أسرعوا فهي مدة لو صُرفت كلها في الخير ما وَفَتْ به؛ فكيف يضيع منها ضَياعٌ في الشر أو الإثم؟ ولو وُلد الإنسان ومشى وأيفَعَ وشبَّ واكتهل وهرم في يوم واحد، فما عساه كان يُضيع من هذا اليوم الواحد؟ إن أطول الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة موته إلا أقصر من يوم
ينادي القبر: أصلحوا عيوبَكم، وعليكم وقتٌ لإصلاحها. فإنها إن جاءت إلى هنا كما هي بقيت كما هي إلى الأبد، وتركها الوقت وهرب.
هنا قبر، وهناك قبر، وهنالك القبر أيضاً. فليس ينظر في هذا عاقلٌ إلا كان نظره كأنه حكُم محكمةٍ على هذه الحياة كيف تنبغي وكيف تكون.
في القبر معنى إلغاء الزمان، فمن يفهم هذا استطاع أن ينتصر على أيامه وأن يُسقط منها أوقات الشر والإثم، وأن يُميتَ في نفسه خواطر السوء؛ فمن معاني القبر ينشأ لإرادة عقلُها القويُّ الثابت؛ وكل الأيام المكروهة لا تجد لها مكاناً في زمن هذا العقل كما لا يجد الليل محلاً في ساعات الشمس
ثلاثةُ أرواح لا تصلح روحُ الإنسان في الأرض إلا بها:
روحُ الطبيعة في جمالها، وروحُ المعبد في طهارته، وروحُ القبر في موعظته.
طنطا
مصطفى صادق الرافعي