مجلة الرسالة/العدد 81/في تاريخ الأدب المصري
→ محاورات أفلاطون | مجلة الرسالة - العدد 81 في تاريخ الأدب المصري [[مؤلف:|]] |
جيرة محمودة ← |
بتاريخ: 21 - 01 - 1935 |
2 - ابن النبيه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 3 -
اتصل شاعرنا كما ذكرت بطائفة كبيرة من عظماء عصره، فمدح الخليفة الناصر، أحمد أمير المؤمنين، واتصل بالملك العادل أخي صلاح الدين، واتصل كذلك بالقاضي الفاضل والوزير صفي الدين بن شكر وغيرهم، ولكنه لم يتصل بصلاح الدين، ولعل ذلك كان ناشئاً عن حداثته في ذلك الحين، واستصغار نفسه أن يتصل به، مع أن صلاح الدين كان ممدوحاً للقاضي الفاضل وغيره من كبار رجال العصر. غير أن أوثق الاتصال كان بينه وبين الملك الأشرف الذي أصبح به مختصاً معروفاً، كما عرف المتنبي بسيف الدولة، يسجل له مفاخره، ويحصى ما يناله من الخير والنصر، ويهنئه بالعيد إذا حل العيد، ويصف له القصور إذا بنى قصراً جديداً، وإذا أعان الحجاج سجل له يده، ويظهر أنه قد نال الخير والسعادة على يد الملك الأشرف، وإن كنا نراه في بعض الأحيان يشكو إليه، ويذكر ما قد يصيب علاقتهما أحياناً من الفتور، وذلك ما لابد منه، ولا سبيل إلى التخلي عنه، فهو يقول له:
كم اصطنعت وكم أوليتني حسنا ... فليس يبلغ أقصى الشكر أدناه
دامت علينا به النعمى وأمتنا ... مما نخاف أدام الله نعماه
أرجو لقاك لآمال ومنزلة ... فأنت لي سبب، والرازق الله
فأغنني يا ابن ذي المجد العلي وكن ... لي مسعداً في الذي أرجو وأخشاه
وأحياناً كان ابن النبيه يرسل إليه يطلب حاجة يجعل شفيعها غلاماً جميلاً يستقضي تلك الحاجة، ويحفظ له التاريخ من ذلك أنه أرسل هذا الغلام وكتب معه هذا الدوبيت:
أيقنت بأن حاجتي ليس تضيع ... مذ قدمها مهفهف القد بديع
في خضرة حده ليعينيك ربيع ... ما أقبح رده وذا الحسن شفيع
وكثيراً ما كان وهو لدي ولي نعمته الملك الأشرف يشتاق مصر ويرسل إلى أهلها السلام، ثم ينتقل إلى المدح، وكأنه يذكر الممدوح بغربته وفراقه وأنه إنما تحمل ذلك من أجله هو، وفي ذل ما فيه من تكثير لمورد رزقه وإغداق النعمى والهدايا عليه، واستمع إليه يخاطب أهل مصر:
إن عينا منكمو قد ظميت ... قد سقاها الدمع حتى رويت
آه من وجد جديد لم يزل ... وعظام يا حلات بليت؛
ساكني الفسطاط لو أبصرتكم ... جليت مرآة عين صديت
إن أعاد الله شملي بكمو ... سعدت آمال نفس شقيت
إن أرضا أنتمو سكانها ... غنيت عن أن تقولوا: سعيت
فوجوه كرياض أزهرت ... ورياض كوجوه جليت
بأبي منكم غزال، مهجتي ... بظبا ألحاظه قد غزيت
بلغيه يا نسيم الريح عن ... مهجة المشتاق ماذا لقيت
ثم يقول:
إنما مدحة عيسى جنة ... عندها أوطاننا قد نسيت
فكأنه يقول له اذكر أني مفارق لوطني فكيف أنساه إلا إذا لقيت منك ما يغنيني عن ذكره، ونحن لا نشك في أنه لاقى من الأشرف كل إعزاز وإكبار. وكان الأشرف يعتقد في شاعريته ويثق بها، فكثيراً ما كلفه نظم الشعر على البديهة في أي موضوع يراه، وكثيراً ما قام مقامه في تدبيج الرسائل بالشعر على لسانه، ولقد كانت تلك المنزلة الرفيعة التي نالها مدعاة إلى أن يقول:
أنت قربتني فأغليت قدري ... أنت خولتني فأغنيت فقري
فيجد من يشا ويبخل من شا ... فحرام عليه ذمي وشكري
بل كان جمع ديوانه قياماً منه بواجب الشكران وتسجيلاً لليد التي أسداها إليه - كما حدثك هو في صدر الديوان
- 4 -
نستطيع أن نقول إن شعر ابن النبيه يعطينا صورة واضحة لعصره، يحدثك عن طابعه وعن أهم ما ضمه من الأحداث، وإذا أنت ذهبت تنقب عن ذلك رأيت أن أهم ما يميز العصر الروح الحربية التي سرت فيه، وروح القتال الذي كان على قدم وساق
كان العصر عصر حرب مشبوبة بين الصليبين من الأوربيين وبين المسلمين وملوك المسلمين، كما كان عصر نزاع بين بني أيوب على الانفراد بالسيادة والسلطان بعد أن مات كبيرهم صلاح الدين، ومن أحل هذا كان أظهر صفة بارزة يمدح بها شاعرنا ممدوحيه شجاعتهم في الحرب واستبسالهم في المواقع، فهو يقول لمن يمدحه:
مليك إذا سار بين السيو ... ف ترى البدر بين اشتباك الكواكب
وتزأر من تحت ذاك الركا ... ب أسودها من ظباها مخالب
فتلك اللهاذم زهر النجو ... م ومعتكر النقع جنح الغياهب
ويصف جيش ممدوحه بقوله:
وأسد على جرد لها مثل فعلهم ... إذا ما تجلى الموت في الحلل الحمر
دماء أعاديهم شراب رماحهم ... وأجسامهم هذي إلى الذئب والنسر
فإذا شئت أن ترى صورة من صور النزاع بين الإفرنج الذين كانوا يبغون الاستيلاء على مصر قلب الدولة الإسلامية وبدأوا غارتهم بالاستيلاء على دمياط فاستمع إليه يقول:
وتحت غيل القنا آساد معركة ... لها ثبات وفي الهيجاء وثبات
مستشرفات بآذان موكله ... لها إلى الثغر من دمياط حاجات
الويل للروم والإفرنج من ملك ... له من النصر والتأييد عادات
أين المفر لسرب الروم من أسد ... ضار له من رماح الخط غابات
دمياط طور ونار الحرب موقدة ... وأنت موسى وهذا اليوم ميقات
ألق العصا تتلقف كلما صنعوا ... ولا تخف من حبال القوم حيات
طأهم بجيشك لا تحفل بكثرتهم ... فانهم لبغاث الطير أقوات
أصبتهم بسهام الرأي من حلب ... وللمكائد من بعد إصابات
فطهر الله ذاك الثغر من قلح ... أصابه، وانجلت تلك الثنيات
لله من ثغر دمياط وبرزخها ... فتح له تفتح السبع السموات
شرحت صدر رسول الله وانحسرت ... بنصرة الدين والدنيا غمامات
فللرماح كلاهم أو صدورهم ... وللصوارم أعناق وهامات تخلق البحر ذاك اليوم من دمهم ... والموج ترقصه تلك المسرات
عكا وصور إلى رؤياك عاطشة ... فانهض فقد أمكنت منهن خلوات
الله اكبر أن تمسي مزامرهم ... تتلى، وتنسى من القرآن آيات
وكثيراً ما كان يؤكد لسيده أنه سوف يهزم عدوه وينتصر عليه ويملك بلاده، بل وسوف يؤاتيه النصر حتى يملك القسطنطينية عاصمة بلادهم، ولقد كرر ذلك مراراً، حتى أنك لتستطيع أن تفهم من هذا التكرار والتأكيدات الكثيرة بأنه سوف يفتح تلك البلاد أن هذا كان في صدر ممدوحه أملاً قوياً يتمنى أن يناله وأن يتم على يديه، حتى قال له ابن النبيه:
ستفتح قسطينة عنوة ... وما كان للروم منها بغارب
كأني بأبراجها قد هوت ... وصخر المجانيق فيها ضوارب
وقد زحف البرج زحف العرو ... س إليها يجر ذيول الكتائب
وليس الكهانة من شيمتي ... ولكن حزبك بالله غالب
وكثيراً ما مناه بهذا الأمل وأكد له أنه سيناله، كذلك في شعره صورية للنزاع كان بين بني أيوب، ولقد كان ابن النبيه يؤمن ويوقن بأن الخير كل الخير إنما هو في اجتماعهم ووحدتهم، لأن الأوربيين في ذلك الحين كانوا يهاجمون الشرق، فمن الخير أن يتحد ملوكه لدرء هذا الخطر عنه، ولقد كان المغيرون ينتهزون كل فرصة خلاف بينهم ليشبوا نار الحرب عليهم، ولذلك كان ابن النبيه صادقاً يوم قال متحدثاً عن بني أيوب أولاد شاوي:
آل شاوي شهر الصيام جلالاً ... وأبو الفتح منه ليلة قدر
معشر في وفاقهم كل خير ... مثلما في خلافهم كل شر
وكان يوقن بأن صلحهم واجتماعه يبعث القوة في نفوس الشرقيين، ويبعث الضعف والخوف في نفوس الأوربيين كما قال بعد صلحهم:
اليوم تصلى صفحات العدا ... نيران حرب حرها لافح
اليوم دار الشرك مبذولة ... يأوي لها الصائح والنائح
موسى جزاك اله عن دينه ... خيراً فما أنصفك المادح
سعيت في جمع شتات العلا ... لله هذا العمل الصالح
وشعره بعد ذلك يحدثك عما أصابه الملك الأشرف من فتوح ونصر في بلاد الشرق، هذا وإذا ذهبت تلتمس العلاقة التي كانت بين الاشرف والخليفة رأيت أن الخليفة العباسي كان يتمتع بسلطة روحية كبيرة، وإن لم يكن له من الأمر شيء في السلطة السياسية، فان الأشرف يحرص على أن تظل العلاقات بينهما قوية متينة، ويعد مراسلة الخليفة له منة وفضلا كبيرين
ولقد ورد له خطاب مرة من الخليفة، فطلب من ابن النبيه أن يجيبه فكتب إليه الرد شعراً لأن الخليفة كان أديباً شاعراً:
سيدي سيدي كتابك أحلى ... من زلال على فؤادي الصادي
خلت فيه قميص يوسف لما ... الصقته أناملي بفؤادي
كرر اللثم يا فمي، وترشف ... منه آثار فضل تلك الأيادي
نعمة سميت كتاباً مجازاً ... أنا نبت وهي السحاب الغوادي
كثرت حاسدي حتى تخيل ... ت جفوني من جملة الحساد
قالت العين وهي تخرج دراً ... فاخراً من بحار ذاك المداد
أنا افدي بياضه ببياضي ... أنا أفدي سواده بسوادي
أنا عبد الأمام أحمد خير ... لي من نسبتي إلى أجدادي
فعليه السلام ما غرد الطي ... ر وغنى شاد، ورجع حاد
وفي الحق أن الأمراء من الأتراك مهما استبدوا كانوا يقرون للخليفة بالسلطة الروحية ولا ينازعونه فيها
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي