الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 81/التصوف الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 81/التصوف الإسلامي

مجلة الرسالة - العدد 81
التصوف الإسلامي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 21 - 01 - 1935


بقلم سليمان فارس النابلسي

تتمة

ماهية الصوفية وبعض عقائدها

إذا ما رجعنا إلى المصادر الصوفية لنتفهم حقيقة هذه الطريقة استخلصنا من بين ثنايا السطور بعد إجهاد وكد أنها إنما تتم بعلم وعمل، وذلك بقطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها ورغباتها ومطامعها المادية حتى يتوصل بذلك إلى تخلية القلب من غير الله وتحليقه بذكره سبحانه

وأخص خواص هذه الطريقة لا يتوصل إليه بالتعليم والاستقراء والدرس بل يلتمس بالذوق العالي وتبدل الصفات، إذ أنهم يرون أن الفرق شاسع بين معرفة حد الشيء وبين معرفة الشيء نفسه، كأن يعرف المرء حد السكر مثلاً بأنه حانة يجلس فيها فيأخذ من الشراب إلى أن يصبح ثملاً فنشوان فسكران، وبين أن يكون سكراناً. وكذلك القياس في معرفة حقيقة التصوف من أنه عزوف النفس الكامل عن المادة، وبين أن يكون متصوفاً زاهداً

يعتقد الصوفيون أن معرفة الله لا تأتي بالمجادلات العقلية ولا بالمناظرات الفلسفية، ذلك لأن العقل الإنساني عاجز عن إدراك كُنْه الحق وتفهم صفاته وخواصه بمثل هذه الأشياء، وإنما تتكون المعرفة في الشعور بطريقة خاصة وعمل مستمر يمكن من رؤية الله تعالى بالقلب لا بالعقل

يسلك الناسك (طريقاً) خاصاً للوصول إلى هذه الغاية يكون فيها تهذيبه وتنقية روحه من عوارض الدنيا وزخارفها المادية، ثم يتدرج في هذه السبيل ويقطع (مقامات) معينة يصل في نهايتها إلى الفناء في الحق، وهذه المقامات سبعة وهي: التوبة والورع والزهد والفقر والصبر والتوكل والرضا، يكسبها لنفسه بنفسه بعد طول الجهد والتهذيب المنظم

وقد اختلف العارفون في فهم كنه هذه المقامات وتباينت آراؤهم في تفسيرها على معانيها الظاهرة أو الباطنة، فالفقر مثلاً حسب ظاهر المعنى هو ألا يملك المتصوف الزاهد شيئاً مادياً، على حين أن البعض الآخر ذهب إلى أبعد من ذلك فاعتقد بأن على المتصوف الذ بلغ (مقام) الفقر أن يجرد نفسه من الشعور بالحاجة إلى المادة ويقتلع من جوانحه التفكير في ضرورتها، وعندئذ فقط يصبح في مقام الفقير المتصوف

وهناك اختلاف آخر، فالقير الذي يتمسك بالفقر ويعتقد اعتقاداً جازماً بتفوق الفقر وماله من فضل على ضروب الغنى طمعاً في مكافأة ربانية ليس متصوفاً حقاً، ذلك لأنه يحمل مشقة الفاقة ويصدف عن المشاعر بالمسرات الدنيوية خشية خسران المبرة الربانية وأجر الصبر، وهذا لا يغني فتيلاً، بينا أن التصوف الحقيقي لا يترك ما في هذه الحياة من ملاذ ومُتَع لقاء ثوابفي الحياة الأخرى، بل هو يبتعد عنها لما يجده في سلوكه هذا وفي حالته من الجزاء الأوفى. وهكذا نرى أن الاختلاف بين واضح، الواحد يتخذ الفقر وسيلة للثواب والأجر، بينا أن الثاني يبتغي الفقر غاية وأملاً

1 - عقيدتهم في التوحيد: إن شيوخ هذه الطريقة بنوا قواعد

أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد. فمن تصفح كلامهم

وتأمل في ألفاظهم ألغى في مجموعه ما يؤكد له أن هؤلاء

القوم عرفوا صفة الخالق فوجدوه، وشهدوا بقدمه فنزهوه عن

الحدث

والتوحيد هو الحكم بأن الله واحد، وفي ذلك نفي التقسيم لذاته ونفي التشبيه عن حقه وصفاته ونفي الشريك معه في أفعاله ومخلوقاته. وينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الحق للحق، وهو علمه بأنه واحد وخبره عنه بأنه واحد، والثاني توحيد الله سبحانه للخلق وهو حكمه بأن العبد موحد، وخلقه هو توحيد العبد في قرارة نفسه، والثالث توحيد الخلق لله وهو علم العبد أن الله تعالى واحد وإخباره عنه بأنه واحد

2 - في المحبة: المحبة عُرفاً هي ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم

إيثارك إياه على نفسك ومالك وموافقتك له سراً وجهراً. وجاء

في كتبهم على لسان المولى عز وجل أنه قال: ما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال

عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، ومن أحببتُه كنت له

سمعاً وبصراً ومؤيداً ويداً

والمحبة على لسان العلماء هي (الإرادة) ولكن ليس مراد القوم بالمحبة الإرادة، فان هذه لا تتعلق بالقديم. فالمحبة الإلهية للعبد هي تخصيصه بإنعام خاص كما أن رحمته له هي إرادة الإنعام

3 - التوكل: نجد الصوفيين أكثر ما كانوا تضارباً في الآراء

واختلافاً في الفكر في هذه العقيدة وأشباهها مما يتعلق بالمادة،

فبينا نقرأ للروذبادي قوله لرجل صوفي مد يده إلى قشرة بطيخ

ليأكل: (الزم السوق فهو أولى لك وأخيراً)، وقول آخر منهم

(إذا قال الفقير بعد خمسة أيام أنا جائع، فألزموه السوق ومروه

بالكسب والعمل) نقرأ لغيره قوله (أقمت في الحرم مرة عشرة

أيام، فأحسست بضعف، فخرجت إلى الوادي لعلي أجد شيئاً

يسكن ضعفي، فلم أجد شيئاً، فرجعت وقعدت. وبينما أنا جالس

وإذا برجل أعجمي جلس بين يدي ووضع مائدة وقال هي

لك.)

هذا التغالي في التوكل انتظاراً للرزق يأتي عن طريق الرفد والإحسان هو ما يضع من شأن هذه العقيدة في نفوس الناس، إذ أن مثل هذا يورد موارد الفاقات، فلا تسمو النفس، ولا يعظم الشأن 4 - ومن معتقداتهم الفناء والبقاء. فالفناء سقوط الأوصاف

المذمومة، والبقاء قيام الصفات المحمودة. يقال فني عن

شهواته إذا بقي بنيته وأخلص في عبوديته، ومن فني عن

رغبته بقي بزهادته

وهم يعتقدون كذلك في الغيبة والحضور، فالغيبة هي للقلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق الاشتغال لحس بما ورد عليه من النفحات القدسية. أما الحضور فقد يكون حاضراً بالحق، لأنه إذا غاب عن الخلق حضر بالحق، بمعنى أنه يكون كأنه حاضر، وذلك لاستيلاء ذكر الحق على قلبه

ولو أردت أن أعدد هذه المعتقدات لطال بي المطال وكلت مني الأيدي

تطور الصوفية وطرقها الحديثة

كانت الصوفية في أول عهدها ومبتدأ حياتها صبغة من الدين بسيطة، خاصة بجماعة من الرجال المتدينيين نشروها في حلقات صغيرة من الأصدقاء ثم أخذت تدرج وتتعاظم، فكونت طبقة خاصة ذات مدرسة خاصة، بقواعد وأنظمة مقررة يتلقاها المبتدئون ممن سبقوهم في الأيمان بها. ثم ما لبثت أن قويت شوكة الرؤساء وكبار الشيوخ، فأخذوا يسيرون تلامذتهم وأتباعهم حسب مشيئتهم وأهوائهم دون أن يكون لهؤلاء رأي، وما عليهم إلا الطاعة والانقياد. حتى إذا تطاول الزمن ومرت السنون، لم يعد الصوفي الكبير في معزل عن العالم الاجتماعي حوله يعيش عيشة التقشف والزهد، يطلب الوحدة نفوراً من مرأى الناس وظلمهم وتكالبهم على الملذات والصغائر، بل أضحى شيخاً وجيهاً ذا عمة منتظمة وجبة فضفاضة، يظهر في المجتمعات العامة محاطاً بطائفة من مختلف الطبقات من بطانته وأتباعه والمعجبين به

ففي أوائل القرن الثالث عشر ظهرت فرق الدراويش العدوية والقادرية الجيلانية، اللتين أسسهما عدي الحكري وعبد القادر الجيلي، ثم تبع هاتين ظهور الشاذلية والرفاعية والمولوية، فالرفاعية تنسب إلى مؤسسها أبي العباس أحمد الرفاعي المولود في أم عبيدة إحدى قرى الفرات، وهي تحيا اليوم بفرقتين كبيرتين هما العلوانية والجيباوية، المشهورتين بحفلة (الدوسة) هاتان أشد فرق الدراويش تعصباً وأكثرهم جهلاً وخبالاً

والقادرية الجيلانية يدعون أن عبد القادر الجيلاني هو مؤسس طريقهم، وهم في أورادهم وأذكارهم لا يفعلون كما يفعل الجيباويون من تقطع الأجساد وغرزها بالإبر والأمواس، بل يذكرون الله بتؤدة وهدوء ووضوح

وأما المولوية أو (الدراويش الراقصون) فقد أسسها في العجم الشاعر الفارسي المتصوف الشهير جلال الدين الرومي مؤلف (المثنوي)

على أن المركز اللائق الذي اكتسبته الصوفية في الدين والعطف الذي تفيأت ظلاله، إنما ظهر بتأثير الغزالي الذي مال ميلاً كلياً إلى هذه العقيدة بعد أن درس الآراء والمعتقدات الأخرى. فقد أدخل الغزالي على الشريعة عنصراً جديداً بعث فيها النشاط بعد أن ظلت زمناً طويلاً في ركود من جراء الحروب الكلامية المستعرة بين الفلاسفة والدهريين والمتكلمين. ولم يقف أبو حامد عند هذا بل أدخل في الصوفية الفكرة الأساسية لما (وراء الطبيعة)، وأخذ المسميات والمصطلحات التي عمد إليها ابن سينا والفارابي من تعاليم الأفلاطونية الجديدة وأحلها مكاناً مقيداً في الدين الإسلامي. على أنه وان لم يسلك هذا الطريق إلى النهاية ولم يتقيد بسبل هذا المذهب إلا أنه اتبع التصوف العملي. فهو وإن يكن بحث في الموضوعات والآراء الخيالية النظرية إلا أن علمه وإدراكه قد اضطراه إلى أن ينحو منحى آخر، ذلك أنه جعل العبادة قسماً من الحياة اليومية يمارسها العامة والخاصة على السواء

الصوفية وتقاة المسلمين

إن محور التصوف هو التجرد عن النفس وما ترتبط به من مادة، والانصراف الكلي للحب الإلهي. وغاية ذلك أن يمتزج العنصر الإلهي الروحي في الإنسان مع (العقل الأول) الذي منه نشأ وإليه يرتقي. هذه الفكرة وإن كانت بعيدة عن تقاة المسلمين الأولين الذين أنطبع في نفوسهم خوف الله والرهبة منه لكنها ليست غريبةً بتمامها عن العقل الإسلامي

ولقد لاقت الصوفية كما لاقى غيرها من المذاهب والآراء الجديدة مقاومة كبيرة فيها عنف وفيها شدة من بعض تقاة المسلمين. وغالى بعضهم في نقمته فنعت الصوفيين بأنهم قوم جهلة يتخبطون في مهاوي الغي والفساد، لا يركنون إلى الكتاب والسنة في كل ما يفعلون، ثم أوغلوا في تهجمهم عليهم فقالوا ما التصوف إلا إسقاط الجاه وسواد الوجه في الدنيا والآخرة، وما المتصوفون إلا قوم مراؤون بئسوا من العمل ومالوا إلى الخمول والكسل فكأن شأنهم شأن من ينتظر أن تمطره السماء ذهباً وفضة

كانت هذه الحركة العدائية ترتكز على ثلاثة أسس:

أولاً: أن الصوفيين بشروا بصلاة ساكنة، وبهذا مالوا إلى إنقاص شأن الصلوات الخمس الجبرية المفروضة التي هي من أركان الإسلام الخمسة زاعمين أنها من خصائص العامة الذين لم يتعمقوا في المعرفة الروحية. أما هؤلاء الذين ارتقوا إلى أعلى درجات العلم والفلسفة فهم في غنىً عنها

ثانياً: أنهم أدخلوا (الذكر) في الدين، وهو إعادة دائمة لأسم الله تعالى بأوضاع وأشكال منوعة على نمط لم يعرفه المسلمون المتقدمون، فهو إذن بدعة (وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)

ثالثاً: أن كثيراً منهم اعتنقوا مبدأ التوكل مهملين جميع أنواع العمل وألوان التجارة وفي هذا ما فيه من إضعاف شأن الأمة اقتصادياً واجتماعياُ. ثم أنهم كانوا يرفضون المساعدات الطبية عند الحاجة ويعيشون على الصدقات يتطلبونها من المؤمنين. أنهم ليحدثون في عقول الناس معنىً خاصاً لله وللدين

لم يقف الصوفيون أمام تهجمات خصومهم مكتوفي الأيدي ولم يفقدوا رشدهم أمام هذه الحملات الشعواء المبعوثة من كافة النواحي والجماعات، بل دافعوا عن كيانهم بحجج قوية وأدلة مبعثها الكتاب والسنة وأثبتوا فضلهم وعلمهم، وقالوا إنهم قوم آثروا الله على كل شيء فاصطفاهم من دون الناس كافة لأيقاظ الناس وإطفاء شعلة التشكك والألحاد، قال الشبلي: (الصوفي منقطع عن الخلق، متصل بالحق، بدليل قوله تعالى واصطفيتك لنفسي. قطعه عن كل (غير) ثم قال لن تراني.) ومما استشهدوا به على أنهم وصُفوا في الذكر الحكيم بالصدق والخشوع والصبر والتوكل والقنوت والزهد: وهم على اعتقاد أنهم المعنيون بهذه الأوصاف.

ومن كلام النبي (ص) فيهم قوله. (رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره) كلمة ختامية

إن تعاليم الصوفية قد لاءمت العقلية الفارسية أكثر مما لاءمت العقلية العربية. ولم يكن تأثيرها في الحياة العربية والأدب العربي خاصة مضارعاً ما كان لها من أثر بين في الأدب الفارسي منذ أوائل القرن الحادي عشر حتى يومنا هذا

والواقع أن الكثرة المطلقة من شعراء الفرس المجيدين قد انصهروا في بودقة هذه التعاليم فامتزجت بتفكيرهم وخيالهم، وظهر هذا جلياً واضحاً في الاستعارات والمسميات الصوفية التي كانوا يطرزون بها أشعارهم. على حين لم يكن بين شعراء العرب المجلين من وقف وقفة ولو بسيطة عند هذه التعاليم إذا استثنينا الشاعر المبدع شرف الدين عمر بن الفارض العربي المولد والشعر مادة وروحاً. وللعرب في تاريخ الصوفية الأدبي فارس آخر هو محي الدين بن العربي الأندلسي المولد في القرن الثاني عشر الذي ألقى عصا الترحال في دمشق الفيحاء، بعد أن زار في رحلته مصر والحجاز وبغداد والموصل وآسيا الصغرى، وله مؤلفات تربو على المئتين والخمسين عدا، وأشهرها الفتوحات المكية وفصوص الحكم وبهما يعتبره البعض أعظم صوفي الإسلام

هذه صفحة موجزة في تاريخ الصوفية ونشأتها أود أن اختمها بالثناء العاطر على الأستاذ العلامة نكلسون لما بذل من مجهود في تنقيبه على أسس هذه الطريقة ومعالمها، فأضاء لنا صفحة مشرقة في تاريخ هذا المبحث الخطير الشأن. وعسى أن يقوم من بين علماء العربية من يتطوع للكتابة في هذا الأمر الجليل، فالمجال ما زال واسعاً والفائدة جزيلة عامة إن شاء الله

السلط - شرق الأردن

سليمان فارس النابلسي