مجلة الرسالة/العدد 809/عبقرية محمد الإنسانية
→ لطمة على خد. . . | مجلة الرسالة - العدد 809 عبقرية محمد الإنسانية [[مؤلف:|]] |
حداء الركبان ← |
بتاريخ: 03 - 01 - 1949 |
للأستاذ أنور المعداوي
إنسان عظيم. . . وذلك اصدق ما يقال فيه وغاية ما يقال.
محمد الرسول في مواقف الرسالة، ومحمد البطل في مواقف البطولة، ومحمد الصديق في مواقف الصداقة، ومحمد الوالد في مواقف الأبوة، ومحمد في كل موقف من مواقف العبقرية يحتل من نفسي مكانا لا يدانيه مكان. . . ولكن جانبا من جوانب هذا العظيم الذي يعلو أبدا فوق مستوى الأقران والنظراء، يهزني هزا عنيفا، كلما تمثلته في طوايا الخاطر أو بعثته من ثنايا الشعور؛ ذلك هو محمد الإنسان!
قد ينظر غيري إلى الجانب الإنساني في حياة الرسول من خلال المنظار الذي ألفه الناس، حيث يتخيلون الإنسانية مجموعة فضائل يجوز أن يشترك فيها العظيم وغير العظيم. . . هذا المنظار الذي ينظر من خلاله إلى إنسانية محمد ممثلة في الرحمة والمودة والألفة والإيثار والعطف، لا يهدئ لصاحبه أن يضع يده على مفتاح هذه الشخصية الفذة في حقيقتها البعيدة، هناك في اعمق الأعماق وأبعد الأغوار.
إنسانية محمد لا توزن في رأيي بذلك الميزان الذي يقام لكل رجل يمكن أن تجتمع فيه تلك الصفات، لتضع بعد ذلك في مواجهة اسمه كلمة (إنسان). . . وإنما توازن الإنسانية في هذا العظيم بميزان اللحظة النادرة من لحظات حياته، حين يقف وحده متفردا في مجال يعز فيه التفرد على كل شبيه وكل نظير. وما أكثر اللحظات النادرة في حياة محمد الإنسان!
أنا أريد أن انظر إلى عبقرية الإنسانية في شخصية الرسول من خلال منظار آخر؛ منظار يحدد الزوايا التي تفترق في المشهد الإنساني عن نظائرها فيما تعارف عليه الناس. . . إذا قلنا أن محمدا إنسان لأنه رحيم فما أكثر الرحماء، وإذا قلنا أنه إنسان لأنه وفي فما أكثر الأوفياء، وقل مثل ذلك في سماحة الطبع والمودة والألفة والإيثار والعطف؛ فما أكثر ما كان يملك أصحابه من كل هذه الفضائل والسمات. . . ولكن محمدا كان يفترق عنهم جميعا في هذا المجال؛ مجال المفاضلة بين (الإنسان) في صفاته العليا التي تقررها موازين القيم والأوضاع، وبين (الإنسان العظيم) في صفاته المثلى التي يعجز عن تقريرها موازين القيم والأوضاع! محمد الإنسان النادر لا يوزن إلا بميزان يبحث عن الندرة الخلقية التي تضعه وحده في كفة، وتضع في الكفة الأخرى ما شاء لها أن تضع من الناس. . . ولن يتهيأ للباحثين أن ينفذوا إلى أغوار حقيقته الإنسانية، إلا إذا وقفوا طويلا أمام تلك المشاهد الذي تعرض لهم نماذج من حياة ذلك القلب العظيم؛ نماذج لا تتعدد منها الصور وتتكرر الألوان.
سأنظر إلى محمد الإنسان على ضوء اللحظة النادرة من لحظات حياته؛ تلك التي قلت عنها أنه يقف فيها متفردا حين يعز التفرد على كل شبيه وكل نظير. لحظات (الضعف الإنساني) في حياة الرسول هي وحدها دون غيرها التي تهدي السالكين إلى معالم الطريق؛ طريق الوصول إلى حقيقته الإنسانية. . . وانه لضعف الأقوياء والقادرين حين يشرفون على الدنيا من أعلى قمة من قمم الأخلاق، ليخفضوا للناس جناح الضعف من الرحمة.
هذا (الضعف الإنساني) في حياة محمد ناتج من كونه إنسان اعظيما قبل أن يكون نبيا عظيما يحمل مشعل الهداية إلى جيل من بعده أجيال. . . أن الرحمة في موضعها أمر لا غرابة فيه؛ ولكن الرحمة في غير موضعها أمر تكتنفه الغرابة من كل نواحيه. وهكذا كان محمد: فهو في موقف الرحمة حيث تطلب الرحمة (رجل عظيم) ولكنه في موقف الرحمة حيث لا ينتظرها أحد (إنسان عظيم). وهذه هي اللحظة النادرة التي لا يشاركه أحد فيها من الناس، لحظة (الضعف الإنساني) المنبعث من غلبة الإنسانية على طبيعته وتغلغلها في كل خليقة من خلائقه! وهي التي يسميها الباحثون رحمة دون أن يفرقوا بينها وبين الرحمة التي يقدم عليها غير العظيم أو يقدم عليها العظيم وهو غير إنسان. يقول الأستاذ العقاد في معرض الحديث عن إنسانية محمد: (النبي لا يكون رجلا عظيما وكفى. بل لابد أن يكون إنسان اعظيما فيه كل خصائص الإنسانية الشاملة التي تعم الرجولة والأنوثة والأقوياء والضعفاء، وتهيؤه للفهم عن كل جانب من جوانب بني آدم. فيكون عارفا بها وان لم يكن متصفا بها، قادرا على علاجها وان لم يكن معرضا لأدوائها، شاملا لها بعطفه وان كان ينكرها بفكره وبروحه؛ لأنه أكبر من أن يلقاها لقاء الأنداد، واعذر من أن يلقاها لقاء القضاة، وأخبر بسعة آفاق الدنيا التي تتسع لكل شيء بين الأرض والسماء؛ لأنه يملك مثلها آفاقا كآفاقها، هي آفاق الروح).
هذه الكلمات التي يسوقها الأستاذ العقاد عن محمد الإنسان تنطبق كل الانطباق على (الرجل العظيم) لا على (الإنسان العظيم). . . لأن الرجل الذي يشمل الناس بعطفه، ثم يفسر هذا العطف على أنه أكبر من أن يلقى الأمور لقاء الأنداد واعذر من أن يلقاها لقاء القضاة؛ هذا الرجل إذا وضع في الميزان صاحب طبيعة خلقية تنبع فيها الرحمة من منابع الرحمة النفسية تلك التي تنظر إلى كل شيء نظرة القمم إلى السفوح أو نظرة الكبير إلى الصغير. . . وفرق بين رحمة يفرضها على صاحبها التعاظم والكبرياء، ورحمة يفرضها التواضع الموصول الروابط بالإنسانية في أوسع آفاقها، وأرفع مزاياها.
أما قول الأستاذ العقاد بأن محمدا لا بد أن يكون إنسان اعظيما لأنه نبي عظيم، فهو في رأيي لا يثبت ولا يؤكد إنسانية محمد في كثير ولا قليل، لأن محمدا كان إنسان اعظيما بأدق معاني الكلمة قبل أن يبعث رسولا إلى الناس، والدليل على ذلك من تاريخ حياته مهيأ ميسور لكل من يلتمس الدليل. . . وذلك أمر لا ريب فيه ولا جدال!
بعد هذا نعود إلى المجال الذي يجب أن يبحث في رحابه عن محمد الإنسان، مجال اللحظة النادرة من لحظات (الضعف الإنساني) في حياته! هناك حيث تبدو الرحمة في غير موضعها لترفع الغطاء عن حقيقة هذا الإنسان العظيم:
مات عبد الله بن أبي، زعيم المنافقين في عهد الرسول، ورأس الفتنة التي كانت تنشر سمومها في صفوف المسلمين، عبد الله بن أبي الذي لم يسلم محمد من كيده وشره ولسانه، عبد الله بن أبي الذي نزل فيه وفيمن على شاكلته حكم السماء: (استغفر لهم؛ أولا تستغفر لهم أن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم). . .
مات هذا المنافق فصلى عليه محمد بعد موته، ثم تخلى لأهله عن قميصه ليكفنوه فيه! ثم يقول لعمر حين يعتب عليه عتابا بلغ حد التعنيف والإنكار: (أخر عني يا عمر، لو أعلم أني أن زدت على السبعين غفر له زدت)!. . . ثم يقول لمن يسأله لم دفعت إليه بقميصك وهو كافر: (أن قميصي لن يغنى عنه من الله شيئا، وإنني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثيرا بهذا السبب)!. . . ولم يلبث محمد إلا قليلا حتى سمع رأى السماء: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره)!
هذا هو محمد الإنسان متفردا في مجاله، متوحدا في فضائله وأعماله. . . لقد كان قادرا على قتل عبد الله بن أبى، ولكنه لم يفعل، وكان قادرا على أن يشيعه باللعنات ولكنه لم يفعل، لأنه إنسان. . . إنسان يتسع قلبه للدنيا بما فيها: من خير وشر، من فضيلة ورذيلة، من إيمان ونفاق، من وفاء وتنكر للوفاء. ويتسع للدنيا بمن فيها: سواء أكان فيها عمر بن الخطاب، أم عبد الله بن أبى، أكان فيها على زوج ابنته فاطمة، أم هبار بن الأسود قاتل أبنته زينب!. . . هذه هي اللحظة التي تتجلى فيها الندرة في الطبيعة الخلقية؛ (لحظة الضعف الإنساني) الذي يدفع الرسول الكريم إلى لون فذ من الصفح والرحمة؛ هناك حيث يأتي الصفح والرحمة على غير ترقب وانتظار. . . أن الرحمة كما سبق أن قلت حين تأتي في موضعها تكون سمة من سمات (الرجل العظيم)، ولكنها حين تأتي في غير موضعها كما حدث هنا تكون سمة من سمات (الإنسان العظيم)، وفي هذا النطاق تجد محمدا ولا تجد سواه! ويدفعنا ذكر هبار بن الأسود إلى أن نورد هنا شيئا من قصته، فيها لحظة أخرى من لحظات التفرد في عبقرية محمد الإنسانية. . . كانت زينب بنت الرسول في طريقها من مكة إلى المدينة، تلبي دعاء الشوق الأبوي المنبعث من قلب أبيها العظيم، وكان برفقتها نفر من أهله وصحبه ليكونوا لها ملاذا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، ولكن قطاع الطريق ممن خرجوا على طاعة الرسول وكلمة السماء قد اعترضوا طريق القافلة المؤمنة والركب الآمن، لتتندى رمال الصحراء بعد قليل بأطهر دم سال على رمال الصحراء. لقد كان دم زينب أراقته رمية رمح من يد الجارم الآثم هبار بن الأسود؛ وحين يبلغ الأمر محمدا الوالد يتلقاه كما يتلقى الآباء مصارع الأنباء؛ بالحزن العميق والأسى الدفين، واللوعة التي تهز في القلب الكبير مكامن الألم والعذاب!. . . ويهدر محمد الزعيم دم هبار بأي مكان وجد، وبأي بلد نزل، وبأي حي من أحياء العرب أو العجم حل متخفيا أو سافرا بغير قناع. وينطلق أصحاب محمد في اثر ابن الأسود لا يتركون فجا من فجاج الصحراء ولا بقعة من بقاع الأرض، ولكنهم يعودون صفر الأيدي من ذلك المعتدي الأثيم. . . ويعود الوالد المفجوع إلى حزنه وأساه!
وفي يوم من الأيام التي لا تنسى في حياة الرسول يقتحم مجلسه رجل يخفي وجهه تحت لثامه؛ رجل لا يملك عينيه من الدمع، ولا قلبه من الوجل، ولا لسانه من طلب الصفح والمغفرة وينظر الإنسان العظيم إلى هذا الذي يستجير به ويفزع إليه فيجده قاتل ابنته هبار بن الأسود، يدفع إليه برمحه ليصنع به ما صنع بزينب جزاء ما اقترفت يداه!. . . وهنا يختفي محمد الوالد المفجوع في اعز ما يملك من دنياه، ول يبقى إلا محمد (الإنسان العظيم) في أكرم ذروى من ذرى (الضعف الإنساني)؛ هناك حين يخفض لهبار جناح الضعف من الرحمة. . . وهناك حيث يخرج هبار وقد غفر له. . . وهناك حيث يقف محمد متفردا في مجال الندرة الخلقية حين يعز التفرد على كل شبيه وكل نظير!
ولحظة ثالثة وما أكثرها من لحظات. . . لحظة قد يمر بها العجالى فلا يقفون أمامها طويلا ليتأملوها تأمل المغرقين في البحث عن جوهر النفوس ومعدن القلوب، حين يصهرها وهج الرحمة في بوتقة (الضعف الإنساني)؛ ضعف الأقوياء والقادرين!
طفل يموت. . . وما أكثر ما يموت الأطفال وغير الأطفال فيتجلد الآباء أمام شبح الموت ووقع المصيبة؛ لا يترقرق في مآقيهم دمع، ولا يعصف بقلوبهم حزن، ولا يذهب بصبرهم وقدة شعور ملتاع، وقد يكون المفجوعون أناسا لا حظ لهم من مقارعة الخطوب ولقاء الشدائد ومغالبة الأهوال! ولكن موت إبراهيم يهز في نفس محمد كوامن الشجن، ويهز في عيني محمد عصى الدموع، محمد الذي لم تهزه الدنيا بكل ما ادخرته له من محن يرفض منها الصبر وتخور معها العزيمة، محمد الذي توكأت على كتفيه عوادي الزمن يسير وراء إبراهيم متوكئا على كتفي عبد الرحمن بن عوف! ومعذور ابن عوف حين يستكثر البكاء على الرسول وينكر البكاء على الرسول؛ لقد كان ينظر إلى (الرجل العظيم) الذي بكى، ناسيا أن الذي بكى هو (الإنسان العظيم)!. . . ومعذور ابن عوف إذ نظر إلى محمد فوجده يبكي على غير ترقب وانتظار؛ لقد كان عهده به جلدا أمام المصائب، قهار للخطوب، ولكنه نسي لحظات (الضعف الإنساني) التي تكشف عن صدق الإنسانية حين تنتفض من جيشان العاطفة أمام اصعب الأمور وأيسر الأمور.
لحظات (الضعف الإنساني) هي وحدها الميزان الذي توزن به إنسانية محمد دون غيره من الناس. . . وهي هنا لحظات ثلاث، وإنها لقليل من كثير، وما أكثرها على قلتها في حاب الشعور والوجدان.
أنور المعداوي