الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 807/في سبيل سياسة إيجابية للجامعة العربية

مجلة الرسالة/العدد 807/في سبيل سياسة إيجابية للجامعة العربية

مجلة الرسالة - العدد 807
في سبيل سياسة إيجابية للجامعة العربية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 12 - 1948


للأستاذ عمر حليق

من الأخطاء التي ارتكبها العالم المتمدن اعتقاده أن العلة الأساسية التي جعلت تاريخ الإنسانية في الخمسين سنة الأخيرة سلسلة من الحروب الداخلية والخارجية هي فساد المذاهب السياسية، وأن الدواء الوحيد لها هو تغيير هذه المذاهب. ومن هنا تولدت الأنظمة النازية والفاشية والشيوعية والديمقراطية المعاصرة والاشتراكية، ومن هنا كذلك تألفت عصبة الأمم المنحلة، وهيئة الأمم القائمة.

هذا الاعتقاد خاطئ لأن التجارب المريرة التي مرت بها الإنسانية في ظل هذه النظم - نازية أو ديمقراطية أو شيوعية في عصبة الأمم أو في هيئة الأمم المتحدة - كلها لم تُشف الإنسانية من علة الحروب ومن علة الشقاق الداخلي ومن علة التناطح في العلاقات الدولية.

هذا الاعتقاد خاطئ لأنه يعالج النظم قبل أن يعالج الفرد الذي يتبنى هذه النظم ويتولى تنفيذها أو يعمل على تقييد نفسه بالتزاماتها. وهو خاطئ لأنه في حماسته لتحقيق الأهداف ينسى أو يتجاهل خطورة السبل والوسائل.

فمصيبة النازية والشيوعية والديمقراطية الغربية، ومصيبة عصبة الأمم وهيئة الأمم ليست فقد في المبادئ والفلسفات التي بنيت عليها، فكلها مبادئ تتوخى - نظريا على الأقل - إسعاد المجتمع الذي تعمل فيه وتوفر له الاستقرار والرخاء.

ولكن المصيبة في الأفراد الذين تولوا ويتولون العمل لها، ومصيبة الوسائل والسبل المتخذة لتحقيقها.

وجامعة الدول العربية هي واحدة من هذه المذاهب السياسية التي شعر سكان الشرق العربي بحاجتهم إليها في هذه المنطقة الخطيرة من العالم؛ وفي هذه الفترة الدقيقة التي تمر بها المجتمعات الصغيرة المتقاربة المتشابكة التي تنطق بالضاد.

وفي هذه الأزمة النفسانية العاصفة التي تجتاح العالم العربي، وفي أعقاب هذه النكسات السياسية في هيئة الأمم العسكرية في الميدان تتناول ألسنة الرأي العام الجامعة العربية بالنقد اللطيف حينا والعنيف أحيانا. وفي هذه الأزمة تتعرض المبادئ والفلسفة التي بنيت عليها الجامعة العربية لخطر جسيم. ولعل هذا الخطر هو أو هي ما يواجه الشرق في تاريخه الحديث، وفترة فاصلة في مستقبله.

وفي هذه الأزمة النفسانية قد يقع العرب في نفس الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون حين ألمت بهم أزمات مشابهة، فهم في بلبلتهم الفكرية والعاطفية يميلون لأن يجسموا موطنا واحدا من مواطن الضعف في نظرة ضيقة، بل هم أميل إلى البحث عن لون من الحياة جديد. وتكرر المأساة من جديد وهكذا دواليك.

فليس من الغريب إذن أن يتخذ بعض الناس هذه النظرة نحو جامعة الدول العربية وفكرة الوحدة العربية إجمالا فأن هذه النزعة وليدة شعوبية متأصلة، ولكنها في أغلبها مخرج من أزمة نفسية.

ولهذا، فإن الأزمة التي تواجهها الجامعة خطيرة خطورة الفكرة التي تحملها. ولنقرر قبل كل شيء أن الفكرة والبادئ التي بنيت عليها وتدعو إليها الجامعة العربية هي مبادئ سليمة. هذه أمور أساسية مستمدة من صميم الفكر السياسي والاقتصادي المعاصر، ومن صميم المقدمات الثقافية (وهي تشمل السياسة والاقتصاد والعاطفة) التي يعيش عليها الناطقون بالضاد في الشرق الأدنى.

هي مستمدة من صميم الفكر السياسي المعاصر لأنها دعوة إلى التآلف الإقليمي والتكتل السياسي، على أساس المصلحة الحيوية المشتركة في السياسة والاقتصاد والعصبية الثقافية وجميعها دعائم ضرورية للحياة الشريفة.

والجامعة العربية هي أول محاولة جدية للتعاون الإقليمي على أحدث ما أنتجته الفلسفة السياسية المعاصرة. والتعاون الإقليمي منصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، ويحتل مكانة بارزة أشد البروز في تكوين هيئة الأمم المتحدة الداخلي وفي نشاطها ونشاط فروعها والوكالات الخاصة الملحقة بها.

فمحاولة حلفاء الغرب توحيد أوربا الغربية ومحاولة الروس في شرقي أوربا، ودول العالم الجديد في مشروع الحلف الأمريكي مسبوقة بمحاولة الجامعة العربية للتكتل على دعائم أمتن وأبعد شأوا وأرفع في مقاييس الخبر والشر في العلاقات الدولية.

ومع ذلك فإن الجامعة العربية تواجه أزمة من طراز حاد، والسبب في ذلك لا يرجع إلى مبادئها وأهدافها ولكن إلى الأفراد والسبل التي تحمل الدعوة إلى هذه المبادئ وتعمل لتحقيقها.

وقد أصبح التنديد بالزعماء والقادة من قبيل الكلام المبتذل، ولقد جسمته ألسنة الرأي العام العربي، فجعلته السبب الوحيد في هذه الأزمة التي يمر بها العرب اليوم، ومن النادر أن نرى في هذا التنديد دراسات منتقدة للسبل والوسائل وللنواحي الاجتماعي والاقتصادية والثقافية التي تتحداها هذه الأزمة.

وعلة الجامعة العربية هي في افتقارها إلى إدارة رشيدة وخطط عملية ووسائل مرضية لتحقيق الهدف والفكرة التي تعمل لها فإنك لن تستطيع بلوغ هدف قبل أن تضع للوصول إليه خططاً وبرامج عملية وجهازاً إدارياً حازماً لتنفيذها.

والجامعة العربية في حالتها الحاضرة تحتاج إليهما جميعاً.

ولقد اعتدنا في الشرق العربي أن نتناول القادة من حيث (وطنيتهم) وما إلى لك من بقايا عهد النضال ضد الحكم الأجنبي. وقل أن نتناول القادة والزعماء من حيث مقدرتهم وصلاحيتهم ومؤهلاتهم العلمية واستعداداتهم النفسية. وكل توجيه سياسي لا يتوخى دراسة القادة على مثل هذا الضوء توجيه مشوه ضعيف.

والجزء الأكبر في هذه المقدمة الحادة التي جلبتها الجامعة العربية على نفسها التي خلفتها ظروف وملابسات طارئة، هي فقدان الكفاية والمؤهلات والاستعداد العلمي والنفساني في الجهاز الإداري ومراكز التوجيه والمسئولية فيها.

فالجامعة لا تزال تنظر إلى نفسها، ولا يزال الناس ينظرون إليها على أنها رمز للوحدة العربية، بدل أن تنظر إلى نفسها كبرنامج للوحدة وكمشروع إنشائي.

والجامعة عربية (بدوية) من حيث أنها تتناول الأشياء في نظرة شاملة على حين يتجه العالم نحو التحليل والتخصص. والجامعة في نظرتها هذه لا تجاري النزعة (العلمية) التي أخذت تتمكن من العقلية العربية المثقفة.

في هذه السنوات الثلاث التي مرت على الجامعة منذ تأسيسها أحرزت تقدماً سياسياً ملحوظاً وملموساً، ولكنها قصرت تقصيراً مخجلا في الاقتصاد والمواصلات الفكرية والتعاون الثقافي والاجتماعي، وذلك لأن المشرفين عليها يبدو أنهم لا يقدرون قيمة هذه النواحي في التعاون الإقليمي الصحيح، والسياسة ليست وسيلة للتعاون الاقتصادي والفكري ولكنها نتيجة لها.

هذه الأصوات الناشزة التي تصدر هنا وهناك وهذا الركود السياسي البادي في المملكة السعودية واليمن هي وليدة قصور الوسائل في الجهاز الإداري للجامعة العربية.

وهذا القصور لا يرجع إلى الصخور الشماء التي تقف في سبيل برامج الدوائر الثقافية والاقتصادية في الجامعة. ولكنه يرجع إلى فقدان هذه البرامج.

لقد عجز مثلا الإدارة الاقتصادية في الجامعة عن أن تضع لها إصبعاً رفيعاً في هذه الثورة الصناعية التي تجتاح نجداً والكويت وتكاد تفصل شرقي العالم الغربي عن غربة وأواسطه، اقتصادياً واجتماعياً. فلا غرابة إذن أن سياسة البترول (وهي سلاح خطير في العلاقات الدولية) في الجامعة العربية مقيدة باعتبارات سياسية محلية.

إن طائفة من الدراسات وسلسلة من المؤثرات وثغرات الخبراء تفيد الجامعة في هذه الثورة الصناعية الخطيرة في طهران والبحرين والكويت فوائد جسيمة للتعاون السياسي والاقتصادي ولمستقبل الوحدة العربية إجمالاً.

فهو أولا: محاولة لتعريب آبار الزيت تدريجياً فتوفر العمل والانتفاع المادي والمهني لألوف السعوديين والسوريين والمصريين وغيرهم من العرب في هذه المنشآت التي يمتص بها الأمر الأمريكان ذهب الصحراء، ولربط قلب الجزيرة بالهلال الخصيب ووادي الكنانة من طريق استيطان هؤلاء العمال. وأي خطر على المستقبل الاجتماعي والثقافي - ولا نقول السياسي - للوحدة العربية وللتعاون الإقليمي جاثم في هذه الألوف من العمال الأمريكان والطليان وغيرهم الذين أنشئوا في قلب نجد والكويت قطعة من أمريكا ومستعمرات إيطالية و (جوالي) أجنبية الثقافة والولاء لا تبدو خطورتها إلا حيث ترسخ جذورها هنا وهناك كما رسخت في الإسكندرية وفلسطين.

وهي ثانياً: تحيط البيت السعودي بمجموعة عربية مستنيرة تعرف ما يفعله الاستغلاليون الأمريكان في ذهب الصحراء وترقبهم في ذكاء العالم الخبير بدل أن تترك البترول والبيت السعودي المالك والمجتمع السعودي إجمالا والتعاون الاقتصادي العربي فريسة في يد الاستغلاليين العالميين ومعهم حفنة من المرتزقة العرب الذين ضربوا نطاقاً حديدياً على البلاد السعودية وأثار هذه العزلة الاقتصادية في البلاد السعودية علاوة على أضرارها السياسية الوخيمة (كما تشهد قضية فلسطين) كونها نقطة أمريكية استراتيجية فإن لها خسائر اقتصادية جسيمة على باقي أقطار العالم العربي؛ هذه الخسائر لا يقدرها إلا الذين أتيح لهم الاطلاع على فخامة التبادل التجاري الذي تمتص به عشرات الشركات التجارية في نيويورك الدخل القومي للملكة السعودية في جميع أوجه التبادل التجاري وبعملة صعبة كالدولار الأمريكي الذي يحتاج إليه الاقتصاد العربي في سوريا ومصر والعراق ولبنان وفلسطين حاجة ماسة. والقصور في هذا التعاون الاقتصادي ملموس في أكثر من ناحية، وليست سبب موانع سياسية فقط. ولكنه في أساسه قصور في التعريف بفوائد ودراسة لفوائده المادية والعلمية دراسة علمية وتعميمها بنباهة وعلى نطاق واسع. هو قصور في الوسائل والسبل. والواقع أن الجامعة العربية قد أهملت استعمال أمضى الأسلحة لتدعيم كيانها والأهداف التي تدعوا إليها، وهي دعائم الرخاء والاستقرار في هذا الجزء الهام في العالم.

هذه الذئاب التي تجثم على أطراف الشرق العربي لتنهش منه وتعيش على خيراته ما الذي يدفعها إلى ذلك؟ ما سر تنافس الروس والأمريكان والبريطانيين على هذا الشرق؟ وهذه الثعالب الراقدة بين ظهرانينا تستثمر الملايين في الشركات (المصرية) وفي مشاريع اليهود في فلسطين، أليست وليدة المعرفة بالإمكانيات المغرية الكامنة في الشرق العربي؟ كم يعلم المواطن العربي عن هذه الإمكانيات؟ لمحات خاطفة في الصحف السيارة لا تشفي الغليل ولا توقظ في النفس وعياً اقتصادياً صحيحاً. الفائدة التي تجنبها الجامعة العربية والفكرة التي تعمل لها عظيمة لو أن الدوائر المختصة في الجامعة جمعت أو كلفت من يدرس هذه الإمكانيات في إسهاب ودقة لتعممها على أوسع نطاق؛ ولم تترك ألسنة الرأي العام العربي والمثقفين العرب في معلوماتهم عن الوضع الاقتصادي في الأقطار العربية فريسة للمعلومات المشوهة المغرضة التي تصدرها المصادر اليهودية والشركات الأجنبية في عشرات البحوث والنشرات. ولماذا يكون المواطن العربي أجهل الناس بوضع بلاده وخطورتها في الاقتصاد الدولي؟ قد لا تلام الجامعة العربية وحدها على هذا التقصير. فالخبرة الفنية متوفرة في معاهد العلم والدوائر الحكومية والحكومات والأوساط العلمية العربية والمثقفون الخبيرون يشاركون الجامعة وزر هذا الإهمال الضار.

وخذ مهزلة التعاون الثقافي. كأن الثقافة صرف ونحو وترجمة. ليس للجامعة العربية نشرة واحدة محترمة تحمل رمز هذا التعاون ورسم المناهج له، وليس لها وسيلة واحدة في وسائل المواصلات الفكرية لتنقل إلى بيروت وبغداد أنباء البحث ونجد والكويت، والصحف العربية لا تزال فريسة الدعاية الأجنبية الخبيثة عن طرق وكالات الأنباء الأجنبية حتى فيما يتعلق بالشؤون العربية الصرفة. وكم من بلبلة أوجدتها هذه الوكالات في الحياة العربية الداخلية بوسائلها الخبيثة. وشكراً لمصر التي تكاد تحتكر الإنتاج الفكري والصحفي فتؤلف نوعاً مشوهاً من الوحدة في الاتجاهات الفكرية والعاطفية، مشوهاً لأنه يفقد عناصر التوجيه القومي المنظم الذي يجب أن يقع عبثه على الدوائر المختصة في الجامعة العربية. وفي نشاط جامعة الحلف الأمريكي (الولايات المتحدة وجاراتها اللاتينية الجنوبية) في هذا المضمار دروس وخبرة تصلح للاقتباس والقدوة المفيدة. وبعد، فهذه وغيرها من أوجه العجز لا تنفي مطلقا متانة المبادئ التي تدفع العرب إلى الوحدة والتعاون الإقليمي إلى أبعد حدود التعاون. ولكنها ألوان في القصور مرجعها فقدان الاستعداد لدى القائمين على شئون هذه المنظمة الإقليمية التي تحتل اليوم على الرغم من كل ذلك مكانة خطيرة في الأوساط الدولية. والذين أتيح لهم الاتصال عن كثب بهيئة الأمم والوكالات الفنية العالمية يقدرون هذه الخطورة حق التقدير. هو قصور في الاستعداد وضعف في الوسائل والسبل لتحقيق هذا التعاون.

وإذا كان التحدي سبيل إلى الرقي والتقدم، فإن هذا القصور - الذي هو جزء من الأزمة التي تواجه الجامعة ومعها العرب في مختلف أقطارهم - هو نوع من التحدي. والأزمات في جملتها أنواع من التحدي. وتاريخ التمدن كما قال المؤرخ توينبي تحد وإجابة

نيويورك

عمر حليق