الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 807/القبائل والقراءات

مجلة الرسالة/العدد 807/القبائل والقراءات

بتاريخ: 20 - 12 - 1948


للأستاذ عبد الستار أحمد فراج

- 4 -

يرجع السر في أن قبيلة تميم نالت قسطا كبيراً من عناية الرواة وغلب ذكرهم لها ومعرفة الكثير مما انفردت به إلى أنها كما قدمت في مقال سابق كانت تسكن جانب نجد المجاور للعراق.

ومعلوم لنا أن التنافس العلمي والسبق فيه كان ميدانه البصرة والكوفة المواجهتين لصحراء العراق حيث يخرج منهما - وعلى الأخص البصرة - العلماء والمتأدبون إلى البادية ليأخذوا اللغة من أفواه أربابها الذين لم تفسدهم العجمة. وكان إليهما يقصد الراغبون في رواية الشعر ومأثور القول وضبط اللغة وغربيها على أعلام شيوخهما كأبي عمرو وأبي عبيدة، والأصمعي وأبي زيد، وخلف وحماد، والمفضل الضبي وابن الأعرابي، وغير هؤلاء وأولئك ممن كانت لهم في العربية وعلومها قدم راسخة فلا عجب أن كانت تميم - وبطونها كثيرة - هي أول ما يروي لها ويؤخذ عنها. يضاف إلى هذا ما قدمته في المقال الأول من أن البصرة والكوفة قد شملتا في مبدأ إنشائهما عددا كثيرا من تميم، وهذه من تكملة ما خالفت فيه غيرها وبخاصة الحجازيين:

1 - (عسى) من أفعال المقاربة تستعمل تامة بمعنى أن ما وليها يعرب فاعلا لها وذلك إذا ما جاء بعدها (أن والفعل) كقول الله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم).

وتستعمل ناقصة بمعنى أن يكون لها اسم وخبر مشبهة (كان) في العمل وذلك إذا ما جاء بعدها اسم ظاهر أو اتصل بها الضمير فيعرب اسماً لها، وبعده (أن والفعل) فيعرب خبراً لها كقول الله تعالى (عسى الله أن يأتي بالفتح). إلا أن أهل الحجاز لا يلحقون بعسى الضمائر ولا التأنيث. يقولون: هند عسى أن تقوم والمحمدان عسى أن يقوما، والمحمدون عسى أن يقوموا. . .، لذلك تعتبر عندهم في مثل هذا التركيب مكتفية بفاعلها غير محتاجة لخبر. أما التميميون فيلحقون بها التأنيث والضمائر يقولون: هند عست أن تقوم والمحمدان عسيا. . . والمحمدون عسوا. . .، فتكون في مثل تركيبهم هذا ناقصة. وإذن فتميم تستعملها ككان الناقصة دائماً، وأهل الحجاز لا يجعلونها كذلك إلا في حالة ما إذا تلاها اسم ظاهر وبعده (أن والفعل).

والقرآن الكريم في أغلب قراءاته لم تقع فيه الضمائر مع عسى إلا في موضعين (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا) و (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراُ منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) بالإضمار فيهما على لغة تميم (عسوا أن يكونوا عسين أن يكن. . .).

ثم إن عسى فيها لغتان: (أ) أن تكون على وزن سمى، (ب) أن تكون على وزن لقي. غير أن الثاني منهما هجر استعماله على إطلاقه واقتصر فيه على اتصاله بتاء الفاعل أو نون النسوة أو (نا). ومن العجب أن أبا حيان في البحر نقل عن أبي بكر الأذفوي وغيره قولهم: إن هذا الكسر لغة الحجازيين. وقد رأينا أن ذلك لا يكون إلا حين الاتصال بالضمائر السابقة وأن الحجازيين لا يلحقونها فإذا صح ما نقله أبو حيان عن الأذفوي يكون إلحاقهم الضمائر بعسى منتقلا إليهم من تميم إذ الأصل في الاستعمال ما قدمته نقلا عن تفسير أبي حيان نفسه وعن الأشموني وليس استعمال قبيلة للغة قبيلة أخرى بالأمر البعيد وعلى الأخص الحجازيين الذين خالطوا كل القبائل واقتبسوا من لغاتهم ما راق لهم. ومواسم الحج وأسواق العرب المشهورة لها أكبر الأثر في تقارب اللغات وتفهم الألفاظ والتراكيب المنتشرة بين القبائل المختلفة. قال أحمد بن فارس بعد أن تكلم في كتابة الصاحبي على اختلاف لغات العرب ما يأتي: (وهي وإن كانت لقوم دون قوم فإنها لما انتشرت تعاورها كل).

هذا وقد قرأ نافع المدني (عسيتم) في موضعيها السابقين بكسر السين وقرأ الباقون بفتحها.

2 - في اسم الإشارة المفرد للمذكر لا تلحق به تميم اللام في حالة البعد بل تلحق به كاف الخطاب فحسب. لكن الحجازيين يلحقون به اللام مع الكاف. فعند تميم (ذاك وتيك) للبعيد وعند الحجازيين (ذلك وتلك) ومن هذا يتبين لنا أن بعض النحاة حين يقولون. هذا للقريب، وذاك للمتوسط وذلك للبعيد، فيه خلط بين لغات القبائل إذ وجدوا صيغا ثلاثا فعللوا لها وفرقوا بينها. ونحن إذا لاحظنا مثلا كلمة (ذاك) في إشارتنا نجدها أوضح في البعد من (ذلك) لما فيها من إطالة لحرف المد وافية بالغرض. وما تزال المهملة في الإشارة البعيدة للمذكر، و (ديك) للمؤنثة البعيدة. والواقع أن الشيء إما قريب منك حسا أو معنى، أو بعيد منك كذلك. وفي اللغة الإنجليزي وفي الفرنسية

ومما يلحق بهذا أيضاً (هناك وهنالك)، فالحجازيون هم الذين يلحقون اللام وتميم لا تلحقها جريا على قاعدتها من أنها لا تلحق اللام. وكذلك أولاء يمدها الحجازيون غير أنهم يلحقون بها الكاف فقط في حالة الإشارة إلى البعيد، وتميم تقصرها وتلحق بها الكاف أما قبائل قيس وأسد وربيعة فإنها تقصر أولاء كتميم لكنها تلحق بها اللام مع الكاف، وقد ورد على لغتهم:

أولا لك قومي لم يكونوا أشابة ... وهل يعظ الضليل إلا أولا لكا

ومما يلحق بهذا أيضاً أن تميما لا تقول (هذه) في وصل الكلام وإنما تقول (هذي) فاذا وقفوا قالوا (هذه)، أما الحجازيون وقيس فيقولون (هذه) في الوقف والوصل. ولم يرد في القرآن الكريم استعمال (هذي ولا ذاك، ولا تيك ولا هناك، ولا أولا لك ولا أولاك) بل كل ما جاء فيه على لغة الحجازيين (إن هذه تذكرة)، (وذلك هو الفوز العظيم)، (الك الرسل)، (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)، (هناك الولاية لله الحق).

ويضاف إلى ما تقدم أن قبيلتي تميم وقيس تقولان (ها هِنَّا) بكسر الهاء وتشديد النون وغيرهما بضم ففتح بدون تشديد.

3 - (إما) التي للتفصيل تنطقها قبائل تميم وأسد وقيس بفتح الهمزة، ففي مثل (أنت كريم وإما بخيل) يفتحون همزتيهما وبعض منهم يقلب ميمها الأولى مع ذلك ياء. وقد روي لرجل من عبد القيس يقال له سعد وكان عاقا لأمه:

يا ليتما أمنا شالت نعامتها ... أما إلى جنة أما إلى نار

وروي أيضا (أيما إلى جنة أيما إلى نار).

فاذا استعملت تميم (أما) الشرطية المفتوحة الهمزة قلبت ميمها المدغمة الأولى ياء. ويبدو أن الشعراء في صدر الإسلام كانوا - تظرفا منهم أو لانتشار اللغات - يقحمون لغة قبائل أخرى ليسوا منها لشهرتها بين العرب ومعرفتهم لها، لذا نجد عمر بن أبي ربيعة وهو حجازي يروي بيته الآتي على لغة تميم:

رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأيما بالعشي فيخصر 4 - ما فتئ وما يفتأ فلان يعمل كذا - من أخوات كان - تقولهما تميم ما أفتأ فلان وما يفتئ فتجعله رباعيا. ولم يرد في كتاب الله إلا قوله تعالى (تا لله تفتأ تذكر يوسف) ولم يقرأ بها أحد على لغة تميم.

5 - لعل - من أخوات إن - تنطقها تميم لغن بالغين المعجمة والنون قال الفرزدق:

قفا يا صاحبي بنا لغنا ... نرى العرصات أو أثر الخيام

وليس في القراءات الصحيحة هذا الاستعمال

6 - (الههة): تأثرت بعض بطون تميم بالفرس، كما تأثرت بذلك قبيلة لخم وما جاورها، فبنو سعد بن زيد مناة من تميم ولخم ومن قاربها يبدلون الحاء هاء قال النعمان بن المنذر لرجل ذكر عنده رجلا: أردت أن تذمه فمدهته. وقال رؤبة بن العجاج وهو من بني سعد بن زيد مناة:

لما رأتني خلق المموه ... راق أصلاد الجبين الأجله

بعد غداني الشباب الأبله

ومنها: لله در الغانيات المدة. أراد: الأجلح والمدح.

وقد وردت ألفاظ كثيرة في كتب اللغة مترادفة وليس من فرق بينها إلا أن هذه بالحاء وتلك بالهاء مع أن الوزن والترتيب واحد. فكل ما ورد من ذلك، إنما هو نطق القبائل المتأثرين بالفرس. وفي رأيي أن جميع الألفاظ التي أبدلت حاؤها هاء يجب أن تحفظ كأثر أدبي تاريخي ولا ينبغي أن نستعملها في أساليبنا. ولذلك يجدر أن يلاحظ هذا من يقومون بوضع المعاجم فينخلوها ويضموها إلى أصولها المتفرعة منها، مشيرين إلى عدم جواز استعمالها ولا ينبغي أن يضعوها في مواد مستقلة. وأعتقد أنه لا يجوز لنا أن نقول فلان مليه حينما نريد أنه مليح. ومدهت فلاناً حينما أقصد أنني مدحته ولا معنى لأن نجعل ملح أو مدح في باب الحاء فصل الميم ومله أو مده في باب الهاء فصل الميم في معاجم اللغة وأذكر أنني كتبت في هذا الشأن بحثاً واسعاً نشر أغلبه وفيه قواعد وضوابط يمكن الاسترشاد بها لمن شاء.

7 - العنعنة: تحرص القبائل النجدية على أن توضح الهمزة وبخاصة في أول الكلمة أو آخرها خشية أن يجور عليها بدء النطق أو الوقف فيقوون الهمزة إلى أن تكاد تقارب العين وفي بعض الأحيان ينطقونها عيناً، وهذا ما يسمى حينئذ عنعنة وقد نسب إلى تميم وقيس أنهما تقولان في أن عن وفي أسلم عسلم وقد جاء من ذلك:

فما أبن حتى قلن يا ليت (عننا) ... تراب و (عن) الأرض بالناس تخسف

ويبدو أن تميماً تقلب الهمزة الأخيرة في بعض الأحيان عيناً فقد ورد أن قبيلة تميم تقول في الخباء خباع.

8 - الكشكشة والكسكسة: وكما تحرص القبائل النجدية على توضيح الهمزة تحرص كذلك على إبراز الحركة الأخيرة إذا كان في الوقوف عليها لبس وذلك في كاف المخاطبة إذ أن الوقف عليها بالسكون يجعلها تلتبس بكاف المخاطب فللفرق بينهما قلبوا كاف المؤنثة شيناً ثم توسعوا في ذلك فقلبوها في حالة الوصل أيضاً، وهذا ما يسمى كشكشة، وقد روي لقيس أبن الملوح:

فعيناش عيناها وجيدش جيدها=سوى عن عظم الساق منش دقيق

وأصله عيناك وجيدك ومنك. وفي البيت شاهد آخر وهو همزة أن التي أبدلت عينا. ومن كشكشتهم ما يكون بالحاق شين ساكنة بكاف المخاطبة حين الوقف عليها (رأيتكش). وهه الكشكشة وتلك في قبائل تيم وقيس وأسد وربيعة. وبعض بطون هذه القبائل يجعلون بعد كاف المخاطبة أو بدلها سينا وذلك ما يسمى الكسكسة.

قال الزبيدي في مقدمة شرح القاموس: الكشكشة في ربيعة ومضر والكسكسة فيهم أيضاً. وقال الأشموني: الكشكشة في لغة تميم والكسكة في لغة بكر من ربيعة. وفي شرح الرضي على كافية ابن الحاجب: ناس كثير من تميم وأسد يجعلون مكان كاف المؤنث شينا.

غير أننا نجد صاحب القاموس - وشارحه الزبيدي أيضاً - تارة يقول الكشكشة لتميم والكسكسة لبكر. ومرة يقول الكسكسة لغة تميم لا بكر وقيل الكسكسة لهوازن وهي من قيس، ومرة يقول: كشكشة أسد وكسكسة ربيعة ويوافق في ذلك أحمد بن فارس في كتابه الصاحبي. ومرة يقول الكشكشة في بني أسد أو في ربيعة. ومرة يقول إن إبدال الكاف التي للخطاب شينا لغة بني عمرو من تميم. وعلى كل حال فإن بطون تميم جمعت بين النوعين ما ذلك إلا لمجاورتها كما سبق أن قدمته في مقال سابق - لمختلف هذه القبائل من أسد وقيس وربيعة.

لكن أهل اليمن يجعلون الكاف شينا مطلقا وسمى ذلك شارح القاموس (الوتم) وسماه الأستاذ هاشم عطية في كتابه الأدب العربي نقلا عن بعض المصادر (الشنشنة) والقلقشندي في صبح الأعشى، قصر أهل اليمن على حمير، وقصر الكاف على التي للخطاب. هذا ولم تقع في القراءات الصحيحة تلك الأنواع من قلب الكافات شينا أو سينا أو إلحاق شين أو سين. وقد سمع في قراءة شاذة: قد جعل ربش تحتش سريا

9 - العجعجة: اشهر عن قضاعة وهي يمينة من قبائل حمير أنها تقلب الياء المشددة الأخيرة جيما وذلك لضعف الياء فقلبوها حرفا قويا وهو الجيم لكن (فقيما) من دارم من تميم كثيراً ما نقلب الياء وسطا أو آخر مشددة أو مخففة جيما تقول في أيِّل المشدد أجل وفي أزيم المخفف أزجم وفي غلامي غلامج وفي تميمي تميمج ما ذلك إلا حرصاً على إبانة الحروف، وقد سمع في المشدد:

خالي غويف وأبو (علج)، المطعمان اللحم (بالمشج)

وسمع في المخفف:

لا هم إن كنت قبلت (حجتج) ... فلا يزال شاحج يأتيك (بج)

ولم ترد هذه اللهجات المستكرهة في قراءة صحيحة لكتاب الله الكريم.

(للبحث بقية)

عبد الستار أحمد فرج

محرر بالمجمع اللغوي