الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 806/حديث إلى العرب

مجلة الرسالة/العدد 806/حديث إلى العرب

بتاريخ: 13 - 12 - 1948


للأستاذ عبد المنعم خلاف

يلقى هذا الحديث، ومؤامرة الدول الكبرى على فلسطين العربية تتكشف، ونوابا الأمم الغربية الكبيرة والصغيرة ومواقفها من الصهيونية والعرب تتضح وتفتضح، ويظهر خبيئها المستور، وقد فقد العرب جميع أصدقائهم تحت ضغط المصالح التي في أيدي الدول الكبرى، والقضية الفلسطينية تجتاز دورها النهائي، بعد أن أوشك أن يتم الاتفاق الدولي على تمزيق فلسطين وتقسيمها والاعتراف بإسرائيل دولة الإرهاب، وجميع التيارات الظاهرة والخفية في اللجنة السياسية التابعة لهيئة الأمم، كلها تتجه اتجاها واحدا في مسألتين: هما أن لليهود الحق في إقامة دولتهم، وأن تكون القدس دولية يعين عليها حاكم من قبل هيئة الأمم المتحدة، وأن تتولى لجنة توفيق معينة من قبل الهيئة تحديد تخوم تلك الدولة، ويكون الباقي للعرب. وسواء اتصل العرب بهذه اللجنة أم قاطعوها، فهي ستمضي في مهمتها على ضوء ما تسفر عنه قرارات اللجنة السياسية أو هيئة الأمم.

ولم يكن - كما ترون - لعبث اليهود المتكرر بالهدنة، ولا لتشريدهم مئات الألوف من العرب الآمنين، ولا لقتلهم وسيط هيئة الأمم، ولا لافتضاح المؤامرة بينهم وبين الشيوعيين التي ثبتت بالوقائع والدلائل القاطعة، ولا لاعتدائهم المتعمد على مقدسات المسيحية والإسلام، أي تأثير في تغيير سياسة هيئة الأمم ومجلس الأمن نحوهم، بل بالعكس كلما زادوا إمعانافي انتهاك الحرمات، وإقبالا على تحطيم كرامة الهيئة، زادتهم تأييدا وتدليلا.

أما العرب، فقد تلقوا هذه المؤامرات والمكايد بصبرهم المعهود. . . فوفودهم لا تزال تجادل وتكافح في المجال السياسي الدولي بدون جدوى، وجيوشهم لا تزال تحترم الهدنة، وشعوبهم لا تزال تنتظر ما تستقر عليه قرارات حكوماتهم بعد انكشاف المؤامرة، ولم يكن هذا النضج السياسي لدى العرب الذي أوشك أن يتحول إلى احتراق وخمود، أي تأثير في المجامع الدولية والضمير العالمي الخرب بمقدار ما كان لأفاعيل اليهود واعتناقهم مبدأ الاعتماد على الأمر الواقع والتمهيد به إلى تحقيق آمالهم والتدرج به نحوها خطوة خطوة.

ولقد أعذر العرب بصبرهم إلى العالم أجمع، وسواء كانوا محمولين على صبرهم هذا، كما يحمل على السقم السقيم، خضوعاً للضرورات، وتفاديا من الوقوع في شرك المؤامرات الدولية التي تتمنى أن يزلوا ويخطئوا لتحكم عليهم ومعها الحجة بإدانتهم، أم كان صبرهم هذا طبيعة فيهم ونضجا خلقيا وسياسيا منهم، وجنوحا للسلام حين يدعو داعيه، ولو كانت دعوته خداعا. . . سواء أكان هذا أم ذاك، فقد وضح الصبح لعيونهم ورأوا على ضوئه كرامتهم المهانة ومركزهم الدولي الممتهن، وصبرهم المتهم بالضعف والعجز والبلادة، ومثلهم العليا التي لا تقدير لها، وكميتهم المهملة التي لا وزن لها، وفشل هذا الدور منكفاحهم السياسي فشلا ذريعا لا يمكن نكرانه ولا التهوين من نتائجه.

والسؤال الآن الذي يتردد على فم الدنيا هو: ماذا يفعل العرب بعد ذلك كله؟ هل يريدون أن يحيوا أم يريدون أن يفنوا؟ هل يطيلون الصبر على هذه النظرة العالمية الظالمة إليهم، أم يردون إلى أنفسهم اعتبارها ويثبتون وجودها؟ هل يريدون أن يبقوا على عدوهم في ديارهم ليجلب عليهم بخيله ورجله، وليكون لهم عدوا وحزنا ونحسا ورهقا وخيالا، أم يقضون عليه وفي أيديهم روحه قبل أن يستفحل شره، ويستحيل ذئبه الخسيس إلى أسد شجاع؟

هل يعلمون ويعقلون أهدافه الواسعة الطامعة في بلاد العرب كلها من النيل إلى الرافدين، ومما بعدهما، وأحلامه في محو أهلها وتحويلهم إلى عبيد وحيوانات بشرية، وزرعها كلها يهودا، أم يغفلون عن هذه الأهداف ولا يدركون مداها ويحسبونها قاصرة على فلسطين الصغيرة وحدها؟!

لئن شاء العرب لحولوا سم السرطان الصهيوني الذي فرضته عليهم القوى الغشوم ترياقا يوقظ بلسعاته وموجعاته قوى الكفاح الكامنة في كيانهم المعنوي والمادي، ويثير فيهم حمى الحقد والثأر ومجازاة الشر بالشر وعزائم المقاومة التي خدروها وأناموها في عالم لا تقام فيه لقوى الشر والبغي عين!

أجل. . . إن شاء العرب، كان في هذا الشر الجديد ميلاد لقوى جيوشهم الحديثة وحرية اقتصادياتهم الوفيرة، وكان فيه دفع حثيث لهم إلى السباق الدائم بين الأمم نحو العلم المادي الذي يعتمد عليه عدونا، ويسرع إلى استغلال أسراره، يتخذ منها أسلحته وخيوط شباكه حديثا كما كان يسرع إلى استخدام السحروالجن قديما، كما ورد في آثاره. . .

وإن شاءوا كان فيه دافع عنيف إلى توحيد قلوبهم توحيدا حقيقيا، يولده الدم المتحد، والعقائد المشتركة، والمصالح المشتركة، والأخطار المشتركة، فلم يعد هذا الزمن يحتمل تفرق كلمتنا وعيشة دولتنا عيشة القبائل التي لا تجمعها وحدة متينة، وليصيبن بغداد وعمان والقاهرة وبيروت ودمشق ومكة وصنعاء وغيرها من عواصم العرب ما أصاب القدس وحيفا ويافا إذا قالت كل أمة أو حكومة فيها: نفسي. . . نفسي. . . وحسب كل جيش من جيوش العرب أن نصره أو هزيمته له وحده!

وهذا التوحيد الحق للقلوب والجهود في جميع أقطار العرب، هو السلاح الضروري الأول الفعال الذي لا جدوى لأي سلاح بدونه، وما أتى العرب ولا أصابهم ما أصابهم للآن إلا من تفريطهم في هذا السلاح. فعلى الشعوب العربية أن تدفع زعمائها وقادتها، إذا ترددوا، على هذا التوحيد دفعا لا هوادة فيه ولا تباطؤ، فإن الحرب بيننا وبين أعدائنا حرب في كل لحظة، وعلى كل ثغرة، وفي كل ميدان، ومن كل فرد، فدولة إسرائيل المزورة، إذا قامت، ستكون كلها معسكرا يعمل فيه النساء والرجال والكبار والصغار ليل نهار، ويمده بالأخبار والأسرار، وينفذ خططه طوابيره الخامسة في كل بلد عربي محيط به، والصهيونيون يعلمون مقدما ما يبيته لهم العرب وما توعدوهم به من خنق عسكري واقتصادي وسياسي، ولذلك سيعملون بنفوذهم الذي لا ينكر في العالم وفي البلاد العربية على إحباط ذلك إذا لم نتيقظ لهم، وسيكون أول عمل لهم هو إفساد ذات البين في علاقات الشعوب العربية داخلها وخارجها، وضرب طبقاتها وأحزابها بعضها ببعض عن طريق الدعوات الاقتصادية والعمالية، وإفساد عزائم الشباب وقواهم بإضرام الشهوات وشغلهم بها عن آفاق مجدهم وكرامتهم، وعما يبيت لمستقبل أوطانهم وعقائدهم. والصهيونيون لم ينالوا ما نالوه من نفوذ بالغ في العالم، ولم يصلوا إلى ما وصلوا إليه بشعورهم بجنسهم المشترك وهدفهم المشترك وتوحيد قيادتهم وتدبير خطتهم، وتوزيع رجالهم على المعسكرات العالمية المختلفة، وصدورهم كلهم في جميع أنحاء العالم عن رأي واحد وقلب واحد. ولا شك أنهم لم يكونوا لينالوا ما نالوه، لو أنهم افترقت قلوبهم وتخاذلت قواهم وشكوا في قادتهم. فإذا أراد العرب أن يخنقوا دولتهم، فلا سبيل إلى ذلك إلا بدوام إذكاء الشعور بوحدة العرب، وبإيقاظ كل فرد إلى أداء واجبه في ضرائب الدم وضرائب المال، وتضحية الصغائر والكماليات، حتى يتغلب الجسم العربي على سموم هذا السرطان! وإذا كان الصهيونيون يحاولون أن يسرقوا ويغصبوا ديارنا، لأنهم يدركون أهميتها وقيمتها المادية والمعنوية لهم، فأولى بنا، ونحن وارثوها والمالكون لها، أن يكون دفاعنا عنها أضعاف هجومهم عليها!

أجل. . . أولى بصاحب الدار أن يقاتل أضعاف قتال اللص، فلا يكون اللص أعرف منه وأكثر تقديرا لممتلكاته وأشد حرصا على افتدائها. وإذا كان هذا المعقول والواجب في الدفاع عن دار ومتاع خاص، فإنه أكثر وجوبا في الدفاع عن الأوطان والمقدسات والحرمات. واليهود يدفعون دمائهم وأموالهم وجهودهم راضين مغتبطين، لأنهم يشترون بها وطنا وأملا وتاريخا مزورا مفقودا، منذ ألفي سنة، فأولى بنا ونحن نملك الوطن والأمل والتاريخ ألا نضيعه، وإلا كنا غير جديرين به ولا بالحياة. ومعاذ العرب أن يرضوا لأنفسهم وأمجادهم أن تفنى، ولكرامتهم أن تهان على هذه الصورة وعلى رؤوس الأشهاد في أشد قضايا التاريخ ظلما وبهتانا!

وإن الجامعة العربية لتهيب بالشعوب العربية وتنادي كل فرد عربي أن يجند نفسه ويثير جميع قوى الكفاح التي ترسب خمائرها في دمه للدفاع عن مثله العليا وأوطانه وكرامته، وهو الذي لا ينام على ثأر ولا يرضى بضيم، فما بالهين على العربي أن يرضى لكرامة شعوبه ودوله السبع أن تداس في مجتمع الدول لإرضاء طغمة من الإرهابيين أعداء البشر بإقامة دولة ملفقة لهم في أعز بقاعه عليه وفي مهد المسيح الذي عبد قلوب البشر للسلام، وكانت دعوته وروحانيته وحياته كلها ردا على مثل اليهود وأخلاق اليهود ومادية اليهود، الذين يريدون أن يقيموا دولتهم على أرض مهده، بعد أن طردت روحه منها (رأس الأفعى اليهودية) وشردتها.

وإن لدى العرب الآن من قوى معنوية ومادية راهنة، تتزايد على مر الأيام، لكفيلة إذا صمم العرب وتيقظوا وعملوا، أن تحطم هذه الأفعى، مهما تألبت لنصرتها قوى الشر والظلم، وإن أصوات شعوب العرب وساستهم ورجال حكوماتهم قد أصبحت كلها تتنادى في كل قطر بوجوب استئناف الكفاح في الميادين كلها وتعبئة القوى جميعها. وقد تساوى رأي المتطرفين والمعتدلين في البلاد العربية في وجوب أخذ الأمر باليقظة والعمل الدائم والكفاح المستمر، بعد أن تكشفت الرغوة عن الصريح في سياسة الأمم المتحدة! دعونا من حديث الماضيومسئولياته، فإنه حديث يبلبلنا ويفرقنا، ولننظر شعوبا وحكومات إلى الحاضر والمستقبل بروح السخط والاحتقار لروح الغرب وضميره ومنظماته التي سمحت لنفسها أن تمكن السارق في دار المسروق، مما لم يحدث له مثيل في التاريخ، ولنتفاءل ونأمل ولا نيأس من روح الله، ولكن تفاؤلا غير غافل ولا آبه في هذا الصراع الذي ربما يطول، ولنحذر حرب الإشاعات الكاذبة التي هي من أسلحة عدونا، وليكن شعارنا: هو الإيمان بحقنا، والإصرار عليه، والعمل على نواله بكل قوانا المادية والمعنوية!

عبد المنعم خلاف