مجلة الرسالة/العدد 806/الصداقة في رأي ابن المقفع
→ شاعر وعصفور | مجلة الرسالة - العدد 806 الصداقة في رأي ابن المقفع [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 13 - 12 - 1948 |
للشيخ محمد رجب البيومي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
في رأيي أن تشدد عبد الله في اختيار وصفائه قد جعلوا في جنة ورافة من إخوانه ومحبيه، فكانوا قوة عينه وبهجة فؤاده، يهيم بأحاديثهم ويهيم بأخبارهم، ولم يؤثر عنه أنه ارتاب يوما من الأيام في أحدهم فظن الظنون، وهذه مزية التحفظ الشديد، ونحن نسمع في كل مكان من يندبون الوفاء، ويبكون النبل في الحياة، زاعمين أن الصداقة سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، فكل قرين يشكو من قرينه في الكثير الأغلب، وسبب هذه الضجة المفتعلة، أننا لم نفهم الفرق الواضح بين الصداقة والصحبة، فإذا صاحب إنسان زميلا وقدم إليه بعض المعونة الأخوية، قم وجد منه نفورا لا يتفق وما أسلف إليه من نفع، قام يندد بضياع المروءة والوفاء وأولى به أن يندد بنفسه، إذ لم يختر من يجزيه الإحسان بالإحسان، بل عمد إلى طينة سنجة، فغرس فيها بره ثم تعهده بالري فمات الزرع، وجف الماء، ولو أنه غرس معروفه في تربة مختارة منتقاة، لآتت أكلها ولم تنقص منه شيئاً، ولأبصر نفسه - كابن المقفع - في جنة مورقة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ولكن فاته ذلك في حينه فهب من فوره يبكي المروءة ويندب الوفاء!!. . لا يا هؤلاء. . .
ونحن نعلم أن الأديب أو الفيلسوف أو كل ذي موهبة فنية، في حاجة ماسة إلى من يجاذبه أطراف الحديث، ويخوض معه في شتى الأبحاث، ولقد تألقت في عصر ابن المقفع كواكب لامعة في سماء الأدب، وكانت صلته بها صلة مودة وحب، فهو صديق الجميع يؤثرهم ويؤثرونه، وأنت تعجب كل العجب حين تراه يجمع بين صداقة المتناصرين والمتباغضين، فهو صديق حماد وبشار ووالبة وإبان ومطيع، ولا ريب أن عبد الله كان يلاقي كثيرا من الإرهاق والعنف بين أمزجة متباينة، ونفوس متصاولة، وكنت أسأل نفسي مرارا ألا يكون الجمع بين صداقةالأضداد مما يحدث لديهم الريبة في نفس عبد الله؟ وهل يطيب لبشار مثلا أن يبوح بسره لصاحبه وهو يعلم أنه صديق حماد؟ سؤال دقيق يتطلب إجابة دقيقة، وكأني بابن المقفع وقد أدركه تمام الإدراك، فأجاب عنه في ملاطفة هادئة حيث قال (وإذا رأيت صديقك مع عدوك فلا يغضبنك ذلك، فأنفع مواطنه لك أقربها من عدوك لشر يكفه عنك أو لعورة يسترها منك، أو غائبة يطلع لك، فأما صديقك فما أغناه أن يحضره ذو تفتك) وهذا كلام مقبول من بعض نواحيه، وإن كنا لا تميل إلى الأخذ به، لأن كل خصيم من بني الإنسان يسلق خصيمه في غيبته وحضوره بلسان حاد، وخاصة إذا كان من طراز حماد وبشار، فلو أن ابن المقفع تصدى دائما للدفاع عن أصحابه لثقل كثيرا على أعدائهم وما استطابوا ذلك منه في كثير أو قليل، وما كان أغناه عن هذا المأزق الحرج! على أنه - في الواقع - لم يثبت على رأيه الأول فقد اتضح له تطرفه الزائد فأتى بما يناقضه حين قال في موضع آخر (إن من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً، ولعدو صديقه عدواً، وليس لي بصاحب ولا صديق من لا يكون لصديقي محباً وإنه يهون علي قطيعة من كان كذلك) وإذن فقد اتفق معنا الكاتب، وتحلل من رأيه الأول، بعد أن خطأه الواقع المرير.
ولقد كانت المجالس الأدبية - كما هي الآن - لا تخلو من نقاش حاد يتطاعن فيه الأصدقاء، وكل يؤيد رأيه بما يسعفه خاطره ويرتاح إليه ضميره، ولكن من الناس من لا يراعي حرمة الحديث ولايصون كرامة الصديق فيندفع في تنقصه اندفاعا يخرج به عن حدود الياقة والذوق، وكان عبد الله يضيق بهذا الطراز من الأصدقاء منتهى الضبق، ولقد كتب الفصول الممتعة في أدب الحوار وطريقة الحديث، فكان مرشداً حكيماً لأصدقائه ومريديه. اسمعه يقول في نصح وتوجيه (لا تلتمس غلبة صديقك والظفر عليه في كل رأي، ولا تجترئن على تقريعه بظفرك إذا استبان، وحجتك عليه إذا وضحت، فإن إخوانا قد يحملهم حب الغلبة وسفه الرأي في ذلك على أن يتعقبوا الكلمة بعد ما تنسى، فيلتمسوا فيها الحجة ثم يستطيرا بها على الأصحاب، وذلك ضعف في العقل ولؤم في الأخلاق) والناس هم الناس في كل زمان فما يشكو منه ابن المقفع أشكو منه الآن، بل ربما وجد في زماننا من يفوق من تقدمه، في مضمار التوقح والسفه، ليختلق الرأي الدنيء اختلاقا، ثم ينسبه إلى غيره مندداً مشهرا، وهناك قوم من المتناظرين لو أطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منه رعبا، فمتى يعتصم هؤلاء بحبل من الخلق القويم؟!
ويلوح لي أن الكاتب كان ملتهب الصدر من هذه الناحية - وحق له أن يلتهب - فلم يكتف بما سطره في الأدب الكبير والأدب الصغير مما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بل عقد في (كليلة ودمنة) فصلا مسهبا يدور حول هذا الموضوع، وقد جعل فيه اللسان أساس المصائب، ومفتاح النوائب، فهو يقذف بالكلمة الواحدة صغيرة ضئيلة فتبدد الشمل، وتفرق الجمع، وتوقد نار الحرب، وأمام القارئ باب (البوم والغربان) وفحواه أن معركة حامية قامت بين الفريقين بسبب غراب طائش تكلم في حق البوم بما لا يليق، وبعد أن فصل الكاتب قصته تفصيلا منطقيا يستشرف إلى النتيجة الحاسمة، عمد إلى هدفه الأصيل، فقال على لسان بوم يتوعد الغراب الأحمق، ويهدده بعاقبة لسانه، وما جره على قومه من كوارث فادحة يتفجر لها براكين العذاب.
قال الكاتب الحكيم (اعلم أن السيف يقطع به الشجر فيعود فينبت، والسيف بقطع اللحم ثم يعود فيندمل، واللسان لا يندمل جرحه ولا تؤسي مقاطعه، والنصل من السهم يغيب في اللحم ثم ينزع فيخرج، والنصل من الكلام إذا وصلت إلى القلب لم تنزع ولم تستخرج، ولكل حريق مطفئ، فللنار الماء، وللسم الدواء، وللحزن الصبر، ونار الحقد لا تخبو أبداً. وقد غرستم معاشر الغربان بيننا وبينكم شجر العداوة والبغضاء)
وأنت لو فتشت في كتب التربية والأخلاق ما وجدت توجيها أفضل من هذا التوجيه. وليت شعري من يبلغ مبلغ ابن المقفع؟ وقد رسم القاعدة أولا ثم ثنى بالدليل المسكت، وعقب أخيراً بالمثال الحكيم.
بقيت مسالة دقيقة تجول في خاطر كل صديق، وهي تحديد العلاقة بين الصداقة والمنفعة، ونحن نرى كثيرا من الكاتبين يلقون القول على عواهنه فيحكمون أن الصداقة تتعارض مع المنفعة تعارضا تاما، وأن الذي يصادق ليقطف ثمرة، أو يحصد ذرعا فهو نفعي وصولي، مع أن هناك ناحية لا يجب أن يغفل عنها غافل، وهي أن المنفعة والصداقة صنوان متلازمان لا يفترقان، وأن الخلاف لا ينبغي أن يتجه إلى المفاضلة بينهما كعضوين منفصلين، إذ ما من صديق إلا وينتفع به صديقه إن ماديا وإن أدبيا؛ فهو على الأقل يرفه عنه همومه، ويتحمل جانبا من سره، ويزيل ما بنفسه من كبت داخلي قتال، وكل أولئك منافع غالية لا تقدر بمال أو عتاد، ولكن ينبغي أن يتجه الخلاف إلى ناحية أخرى تأتي بعد التسليم بحدوث المنفعة من الصداقة؛ ولعلها تنحصر في السؤال الآتي: هل تكون الصداقة وليدة المنفعة؛ أو تكون المنفعة وليدة الصداقة؟! فإذا كانت الصداقة وليدة المنفعة فهي الصداقة الوصولية المادية التي يحتقرها المثاليون، ويزدريها الأخلاقيين، والتي ندد بها ابن المقفع أشد تنديد في مواضع عدة من كاتباته. وقال عن أصحابها في تبرم واضح (ومن كان يصنع المعروف لبعض منافع الدنيا فإنما مثله فيما يبذل ويعطي كمثل الصياد وإلقائه الحب للطير، لا يريد بذلك نفع الطير، وإنما يريد بذلك نفع نفسه؛ فتعاطى ذات النفس أفضل من تعاطي ذات اليد).
أما إذا كانت المنفعة وليدة الصداقة فهي بلا ريب مودة مثالية فاضلة ينشدها عشاق الفضيلة وأرباب المروءة، إذ أن الإنسان مهما عظم جبروته وطغى سلطانه، في حاجة قوية، إلى من يطلع على خبيئة سره، ويستكشف ذات صدره، فيشاركه الرأي ويقاسمه التفكير، وهذه هي الصداقةبمعناها الصحيح، وقد حبذها ابن المقفع بكل قواه، وله فيها حكم بينة، كأن يقول (أعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، وهم زينة في الرخاء، وعدة في الشدة، ومعونة على خير المعاش والمعاد، فإذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول بلية، فأعلم أنك قد ابتليت معه إما بالمؤاساة فتشاركه في البلية، وإما في الخذلان فتحتمل العار، وأن أول أهل الدنيا بشدة السرور من لا يزال ربعه من إخوانه وأصدقائه من الصالحين معموراً، ولا يزال عنده منهم جماعة يسرهم ويسرونه ويكون من وراء حاجاتهم وأمورهم بالمرصاد، فإن الكريم إذا عثر لا يأخذ بيده إلا الكرام، كالفيل إذا وحل لا تخرجه إلا الفيلة).
وباب الحماسة المظوقة في كتاب (كليلة ودمنة) يدور حول المنفعة المتولدة من الصداقة، بل أن ابن المقفع جعل مزية الصداقة الوحيدة هي ما يعقبها من معونة الأصدقاء، ومساعدة الإخوان، فالحمامة لم تنج من الشرك إلا بفضل صديقها الفأر، والظبي لم يفلت من الصياد إلا بمعونة صديقه الغراب، والسلحفاة لم تتمتع بالحياة إلا بمساعدة الجرذ، وهكذا يضرب الحكيم النابغة أمثاله للناس (وما يعقلها إلا العالمون).
وإذا كان الرجل قد أجادفي الحديث عن الصداقة إجادة محمودة، فإنه أبدع في الكلام عن العداوة إبداعا يستدعي الانتباه، ويقيني أنه لم يلح في إكبار الصداقة إلا بعد أن حيكت له الدسائس، وذاق من الأعداء صنوفا أثيمة من الكيد والختل، وليس بغريب على نابغة كابن المقفع أن يكثر حساده ومبغضوه، وهل يحسد من الناس غير المبجل في عشيرته، العظيم في دولته؟ وهل يتعرض الشانئون لغير من يبزهم في المنزلة، ويرتفع عنهم في المكانة، ألم يطعنوا على الرجل في دينه وخلقه وتقواه!! محن مظلمة غشيت النابغة العظيم كقطع الليل فعلمته كيف يجيد الحديثعن الوشاة والأعداء، بل إن أعظم فصل في كليلة ودمنة وهو باب الأسد والثور يدور حول الأفاكين من الوشاة، وكيف يبذرون بذور الشقاق بين الأحبة والأصفياء، وقد اصطبغ فيه حديث الكاتب بصبغة شاحبة مشجية حتى لتتصور كلماته أنيناً يتردد في قنوط وحرمان!!
وقد يبدو لمن يطالع ابن المقفع في باب العداوة والكيد أنه عفو صفوح يتبع السيئة الحسنة، لأن له من العبارات ما ينطق بالتسامح والحنو كأن يقول (ابذل لصديقك دمك ومالك، ولعدوك عدلك وإنصافك، وللعامة بشرك وتحننك) ولكن من يتعقبه تعقبا جديا يدرك مقدار يقظته وانتباهه، وما أحب أن أحلل أقواله تحليلا يتشعب معه القول في فجاج شاسعة بل أنقل إلى القارئ بعض ما أثر عنه في مؤاخذة الأعداء، قال ابن المقفع
1 - إن كنت مكافئا بالعداوة والضر فإياك أن تكافئ عداوة السر بعداوة العلانية، وعداوة الخاصة بعداوة العامة؛ فإن ذلك هو الظلم. ومن الحيلة في أمرك مع عدوك أن تصادق أصدقاءه، وتؤاخي إخوانه، فتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق والتلاعن حتى ينتهي ذلك بهم إلى القطيعة والعداوة له.
2 - قارب عدوك بعض المقاربة لتنال حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك، ويضعف جندك وتذل نفسك ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس إذا أملتها قليلا زاد ظلها، وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظل.
3 - الحازم لا يأمن عدوه على كل حال فإن كان بعيدا لم يأمن سطوته، وإن كان مكثبا لم يأمن وثبته، وإن كان وحيدا لم يأمن مكره. . . وإن صرعة اللين والرفق أسرع وأشد استئصالا للعدو من صرعة المكابرة، فإن النار لا تزيد بحدتها وحرارتها إذا أصابت الشجرة أن تحرق ما فوقها، والماء ببرده ولينه يستأصل ما تحت الأرض منها.
وقد يوجد من يؤاخذ ابن المقفع على اختراع هذه الأسلحة الفتاكة في حرب العدو، وربما ظن الظنون بنابه الأزرق، وشك في دخيلة نفسه ونحن لا نتردد في تبرئة الكاتب مما قد يعلق ببعض الأذهان حيث لا نرى جناحا في الكيد لمن يسوء، بل أن على الرجل الذي يحترم رجولته أن يضرب أعداءه ضربة قاصمة حتى لا يسمح للعقارب المؤذية أن تنفث سمومها في الظلام!
لقد اجتهد عبد الله في تحديد قوانين الصداقة والسمو بها إلى أفق ملائكي تهب فيه النسمات العاطرة، ولكنه اصطدم بغرائز دنيئة تدعو إلى الهبوط في وهدات مظلمة منتنة، فلم يجد بداً من محاربتها محاربة صارمة حتى يهيئ لمثله العليا أن ترفرف في جوها الرفيع، ولقد مات الكاتب وترك من أقواله في الصداقة ظلا وارفا يفيء إليه المخلصون، فيأكلون من ثمره الحلو، ويستنشقون نسيمه المنعش في لذة وارتياح.
حسب ابن المقفع وفاء أن تتقطع أحشاؤه شوقا إلى أصدقائه، وأن يأرق في حنادس الظلام ليسائل البرق الخاطف عن أصفيائه الأعزة، ثم يعمد إلى قلمه الرشيق فتسجل عواطفه الجياشة الموارة، في سطور عبقة يتضوع أريجها مدى الأحقاب المتتاليات!
أي نابغة الفرس العظيم، لقد دعوت إلى مكارم الأخلاق في دنيا وضيعة دنيئة، وناديت بالوفاء في معشر جبلوا على الخيانة والغدر، فهنيئا لك كفاحك المرير في حومة الشرف، وجهادك الشاق في ساحة النبل والوفاء.
فقل للذي يبغي مداه منافساً ... طمعت لعمر الله في غير مطمعِ
(جزيرة الروضة)
محمد رجب البيومي