الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 805/موقعة نصيبين

مجلة الرسالة/العدد 805/موقعة نصيبين

بتاريخ: 06 - 12 - 1948


24 يونيه سنة 1839

للأستاذ السيد كمال درويش

أجمع المؤرخون على أن موقعة نصيبين هي بلا جدال اكبر انتصار أحرزه البطل الفاتح إبراهيم باشا في حروبه ضد الدولة العثمانية.

حدثت هذه الموقعة في اليوم الرابع والعشرين من شهر يونيه سنة 1839 وبدأت في الساعة الثالثة بعد الظهر ولم تدم سوى ساعتين، انجلى بعدهما الميدان عن انتصار ساحق للمصريين وهزيمة شنيعة للجيش العثماني، ذلك الجيش الذي لاذ أفراده بأذيال الفرار بعد أن تركوا أربعة آلاف قتيل في الميدان وما يتراوح بين أثنى عشر ألف وخمسة عشر ألف أسير. أما الذخيرة التي استولى عليها الجيش المصري فقد قدرت بما يقرب من عشرين ألف بندقية وأربعة وسبعين مدفعاً. ومع ذلك فلم تكن هذه الغنائم على كثرتها شيئاً يذكر بجانب العثور على خزانة الجيش العثماني التي لم يتمكن العثمانيون في فرارهم من أخذها؛ وكان بها من النقد ما قيمته ستة ملايين فرنك؛ وأخيراً الاستيلاء على خيمة حافظ باشا قائد الجيش بما كان فيها من الأرائك التركية المطعمة بالصدف والأوراق الرسمية وحتى الأوسمة التي كان يتحلى بها ذلك القائد وقعت هي الأخرى في يد إبراهيم.

ولئن دلت هذه الغنائم على مدى أهمية ذلك الانتصار من الناحية الحربية والعسكرية البحتة، فقد كان لتلك الموقعة الحاسمة من النتائج السياسية ما أدى إلى أن أصبح محمد علي قاب قوسين أو أدنى من الجلوس على عرش السلطنة العثمانية بعد أن فقدت سلطانها الذي مات قبل أن تصل إليه أخبار الهزيمة، وجيشها الذي انهار في نصيبين وأسطولها الذي انضم بقائده إلى محمد علي؛ لولا التدخل الأوربي وتطور المسألة الشرقية نتيجة لهذا التدخل.

هذه لمحة سريعة عن أهمية هذه الموقعة التي كان بطلها إبراهيم. وهنا يحق لنا أن نتساءل عن خطورة ذلك الدور الذي قام به إبراهيم خلال تلك الموقعة حتى أحرز ذلك النصر الحاسم. ولكي يتبين لنا أهمية ما قام به إبراهيم يكفي أن نعلم أن السلطان العثماني كان قد استعد لهذه الموقعة استعداداً كبيراً بولاية مصر إذا تم له الانتصار. وكان الجيش العثما هو البادئ بالتحدي وباجتياز الحدود المتفق عليها. وكان السلطان قد استعان بمجموعة من الضباط البروسيين لتنظيم الخطط الحربية للجيش العثماني وإقامة تحصيناته وإعداد وسائل دفاعه وهجومه على أحدث النظم الأوربية. وهكذا أخذ الجيش العثماني يواصل استعداداته وبناء استحكاماته في نصيبين حتى إذا انتهى من ذلك بدأ قائده يدس الدسائس ضد إبراهيم تمهيداً للاشتباك في موقعة فاصلة حاسمة.

وأدرك إبراهيم حقيقة الموقف فلم يأل جهداً في الاحتياط وفي تنسيق خطته هو الآخر؛ حتى إذا أشار عليه محمد علي بتأديب العدو وتعقبه كتب إلى حافظ باشا يقول: (إذا كنتم قد تلقيتم الأمر باستئناف القتال فما بالكم تدسون الدسائس؟ هلموا إلى ميدان القتال بصراحة وخوضوا غمرات الحرب كما يجب أن تخاض).

كان جيش العثمانيين يبلغ حوالي أربعين ألف مقاتل وكذلك كان جيش إبراهيم. وكان يقود الجيش العثماني حافظ باشا ويعاونه أركان حربه من كبار الضباط البروسيين وكان من بينهم هلموت فون ملكته (الذي قاد فيما بعد الجيش الألماني فهزم به فرنسا أثناء الحرب السبعينية المشهورة وخلد ذكره في موقعة سيدان) وكان من بينهم فون ملباخ. وعلى ذلك يمكن القول أن الجيش العثماني كان يمتاز على جيش إبراهيم بأركان حربه الألمان، وبقوة استحكاماته في نصيبين، وبخبرته بميدان القتال، وبابتداء الهجوم والعدوان، وبوفرة الجند والذخائر. أما إبراهيم فكان يعتمد على حماسة الجيش المصري وتماسك أفراده وشجاعة جنوده وحبهم للطاعة والنظام ثم على عبقريته الحربية كقائد.

وأيقن إبراهيم أن عليه إذا أراد النصر أن يفاجئ الجيش العثماني قبل أن يفاجأ هو بالهجوم. وكان الجيش المصري مرابطاً في الغرب من نصيبين. وأدرك إبراهيم أن الهجوم على العثمانيين في نصيبين مع التعرض لاستحكاماتها مجازفة خطيرة، لذلك قرر مهاجمتها من جهتها الشرقية بعيداً عن الاستحكامات المقامة في غربها. وقام إبراهيم بالالتفاف بجيشه جنوب نصيبين حتى وصل إلى شرقها وعبر في سبيل ذلك القنطرة المقامة على النهر ثم بدأ ينظم موقعة في شرق المدينة. والواقع أن إبراهيم وهو صاحب فكرة القيام بحركة الالتفاف هذه كان يدرك مدى خطورتها إذ كان يحتمل أن يخرج العثمانيون من استحكاماتهم لمهاجمته أثناء القيام بها في الجنوب من نصيبين أو أثناء عبوره القنطرة المقامة على النهر؛ لذلك أتقن تلك الحركة وقام بتنفيذها بمنتهى الدقة والحرص والنظام حتى قال الضباط الألمان عنها فيما بعد: (لقد كانت حركات الجيش المصري تسير طبقاً لخطط الجيوش الأوربية المدربة على أرق فنون القتال العلمية).

وكما كان النجاح في تنفيذ تلك الحركة دليلاً على دقة إبراهيم وسرعة بديهته وحسن تصرفه وانتهازه للفرص وإدراكه الصحيح لما يتطلبه الموقف؛ نجدها أيضاً كانت دليلاً على جمود الجيش العثماني وجمود قائده وتردده في انتهاز فرصة الهجوم على الجيش المصري أثناء التفافه معارضاً بذلك نصيحة مستشاريه الألمان الذين غضبوا فقدموا استقالاتهم ولم يسحبوها إلا حين قيل لهم: (إن الجندي لا يستقيل قبل الموقعة). لقد كانت خطة حافظ باشا ترمي إلى تفضيل البقاء في نصيبين بدلاً من القيام بالهجوم في تلك المنطقة المكشوفة، ولذلك أخذ في إقامة استحكامات جديدة وعلى عجل في الجهة الشرقية حتى يعتمد عليها جيشه أثناء الموقعة.

ونظر إبراهيم فوجد القائد العثماني في تسرعه قد أهمل تحصين أكمة مرتفعة تجاه جناح جيشه الأيسر، وتقع في الشمال الشرقي من نصيبين. عند ذلك اغتنم تلك الفرصة فأرسل فرقة من جيشه فاحتلتها وبدأت تقيم فيها الاستحكامات وتنصب المدافع. ولم يتنبه حافظ باشا إلى أهمية تلك الأكمة غلا بعد فوات الأوان فأرسل فرقة عثمانية لاسترجاعها ولكنها ردت في الحال على أعقابها.

وواجه إبراهيم بجيشه شرق نصيبين وأدرك أن الجيش العثماني قد ركز قوته كلها في الميمنة والقلب. ولذلك كانت ميسرته أضعف جهاته. وكانت الأكمة التي أحتلها إبراهيم قد كشفت ذلك الجناح بأسره فجعلته تحت رحمته. وفي ذلك الحين أدرك إبراهيم أهمية احتلال تلك الأكمة كما أدرك ذلك أعداؤه، لاسيما المستشارون الألمان الذين قالوا عنها فيما بعد: (لقد كانت حركة احتلال الأكمة هي مفتاح النصر في هذه الموقعة).

عند ذلك قرر إبراهيم تركيز الهجوم على الميسرة في الوقت الذي يهاجم فيه العدو من جميع الجهات.

وبدأت الموقعة، ودوى صوت المدافع، واشتد الضرب من الجانبين وسقط القتلى والجرحى واستبسل العثمانيون. وتقدمت في أثناء ذلك ذخيرة المدفعية المصرية، فخفتت أصواتها انتظاراً للإمداد فانتهز العثمانيون الفرصة، فصبت المدفعية التركية نارها بشدة على مواقف المشاة المصريين، فتقهقرت الصفوف الأولى، وكانت فرصة نادرة لهجوم الأتراك على مواقع المصريين ولكن إبراهيم يظهر بنفسه ويقف بين الجنود في تلك اللحظة الحرجة فيثبت المنهزمين ويجدد الحماسة في النفوس فيبدأ الهجوم من جديد وتصل الذخائر فيشتد ضرب المدفعية المصرية ويستمر الضرب والهجوم حتى تشتت شمل الجنود غير النظاميين في الجيش العثماني؛ فأحدثوا الاضطراب بالجيش، وتحطمت صفوف الجند النظاميين وارتبك الجيش كله فلاذ أفراده وسط الذعر والخوف بالفرار، وكما فعل الجيش فعل قائده الذي فضل الفرار على الوقوع في أسر المصريين.

ويسير إبراهيم في ميدان المعركة فيجد خيمة حافظ باشا، وينظر منها فلا يجد أحداً من الأعداء أمامه، فيكتب إلى أبيه ليعلمه بالنصر ثم يقول له في ذيل خطابه: (وإني أود أن أقتفي أثر الأعداء ولكني لا أجد منهم أحداً).

حقاً؛ لقد كان إبراهيم قائداً حربياً ممتازاً. ولئن دلت موقعة نصيبين على مهارة الجيش المصري وكفاءته فإنها لتدل أيضاً على ما امتاز به قائده من عبقرية نادرة مكنته من إحراز ذلك النصر الحاسم الذي يعد بحق من أعظم الانتصارات الحربية في التاريخ.

كمال السيد درويش

مدرس بمدرسة الرمل الثانوية

وعضو الجمعية التاريخية لخريجي جمعية فاروق