مجلة الرسالة/العدد 805/القصص
أنظر أيضا مجنون؟ (موباسان)
→ رسالة النقد | مجلة الرسالة - العدد 805 القصص المؤلف: غي دو موباسان المترجم: محمد فتحي عبد الوهاب |
مجنون Fou ? هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1882. نشرت هذه الترجمة في العدد 805 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 6 ديسمبر 1948 |
مجنون!!
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
هل أنا مجنون؟ أو لست إلا غيوراً؟ لست أدري! ولكني أعاني عذاباً شديداً. لقد ارتكبت فعلاً جنونياً، فعلاً وحشياً حقا. ولكنها الغيرة الجارفة، والحب الطاغي القادر الذي لا أستطيع منه فكاكاً، والألم الممض الذي أقاسيه، ألا يكفي كل ذلك لأن يدفعنا إلى اقتراف الجرائم وارتكاب الحماقات دون أن يكون الإجرام متأصلاً في قلوبنا أو في عقولنا.؟
أواه. . أني أتعذب، أتعذب عذاباً شديداً مستعراً، مضنياً، مخيفاً. لقد أحببت زوجتي حباً جنونياً. ولكن. . . هل هذا صحيح؟ هل أنا حقاً أحبها؟ كلا. لقد كانت تسيطر علي جسداً وروحاً، وتقيدني بأغلالها. كنت ولا زلت أحد ممتلكاتها، بل لعبتها. كنت عبد ابتسامتها، وشفتيها، ونظراتها ووجهها، وتلافيف جسمها. كنت ألهث تحت سلطان جمالها. ولذلك كرهت في ذلك الجسد المرأة، واحتقرتها، ولعنتها. ولا زلت أمقتها، وأزدريها وألعنها، لأنها خدعة، حيوانية مدنسة، آثمة. أنها الشيطان في صورة امرأة، والحيوان البوهيمي المجرد من الضمير، والوحش البشري الذي لا بعرف الرحمة. بل هي أدنى من ذلك، فلم تكن إلا جسداً بديعاً جميلاً تسكنه الرذيلة.
إن أوائل أيام صلاتنا كانت عجيبة جميلة. كنت أرقد بين ذراعيها في نشوة، وشفتاها القرمزيتان المنفرجتان ترتعشان، وعيناها تثيران في نفسي التعطش إلى الحب. لقد كانتا رماديتين ظهراً، ثم تميلان إلى الخضرة عند الغروب، وزرقاوين عند الشروق إني لست مجنوناً، ولذلك أقسم أنه كانت لهما تلك الألوان الثلاثة. وتنفرج جفونها الثقيلة في بطء فتكشف عن نظرة من العواطف المتقدة سرعان ما تتلاشى فأشعر برجفة تهز كياني، ورغبة قاهرة في قتل ذلك الحيوان الثاوي في ذاتها حتى تصبح لي. . . أنا وحدي.
وعندما كانت تخطر في غرفتي، كنت أشعر بوقع خطواتها يتردد في فؤادي؛ ثم تبدأ خلع ملابسها، ويسقط رداؤها فتبدو سافرة أمامي. وهنالك تندفع الدماء في عروقي، ويلهث صدري، وتتخاذل ساقي، وأشعر برهبة غامضة تجرف قلبي.
كنت أنتظر أول نظراتها كل صباح، أنتظرها وأنا في ثورة وكراهية واحتقار لذلك الحيوان المتربع في كيانها الذي كنت عبداً له. أن مجرد تفكيري وخشيتي من أن تنكشف تلكما العينان الزرقاوان عن فتور وملل يجعلني أحس بنار سريعة تتقد في فؤادي فتحرقني وتزيد من حنقي وكراهيتي.
وفي ذات يوم لاحظت أنها فاترة نحوي، فنظرت إلى عينيها فوجدت فيهما تلك النظرة الباردة العابسة. وعندئذ عرفت، وشعرتن، وأدركت، لقد انتهى كل شيء، انتهى إلى الأبد. . . ولم يكن هناك أدنى شك في ذلك؛ لقد تبين لي الدليل في كل ساعة، بل في كل لحظة.
وحاولت، وناديت الذراعين والشفتين، فكانت تتحول عني في ضيق وهي تتمتم قائلة دعني. . . أنك ثقيل. . . ألا تترك لي فرصة للراحة؟!
وعندئذ شعرت بالغيرة المستعرة، وذقت مرارة الخديعة، وضاق صدري غيظاً، وعرفت جيداً أنها ملتني، وأن شعورها الحيواني الفاتر الآن سوف يلهبه رجل غيري يوماً ما. كنت غيوراً في جنون ولكني لست مجنوناً. . . كلا. . . بالطبع كلا.
وانتظرت وارتقبت ولكنها لم تخني. ومع ذلك ظلت باردة هادئة. وكانت أحياناً تقول لي (إني أنفر من الرجال) وعيناها تؤكدان ذلك عندما كانت ترنو إلي.
وصرت أغار من دلالها ومن برودها، وأغار من وحدة لياليها ومن حركاتها، وأغار من أفكارها الآثمة بل من كل شيء يتعلق بها.
كنت عندما أستيقظ صباحاً وأنظر إلى عينيها، تلكما العينين المطفأتين، يضيق صدري غضباً وأشعر بثورة جارفة في نفسي تعصف بي وبنزوة طارئة تدفعني إلى خنقها، وأن أضغط على عنقها الجميل حتى أرغمها على الاعتراف بما في صدرها من أسرار.
هل أنا مجنون؟. . . كلا. . .
وفي ذات ليلة وجدتها وقد غمرتها سعادة لا أدري كنهها. فاستنتجت أن عاطفة جديدة قد تولدت في ذاتها. بل تأكدت من ذلك تأكد لا يتزعزع. لقد كانت تنتفض انتفاضة من أشبع رغبته، ملتمعة العينين باسمة الثغر، مشرقة الوجه. وتظاهرت بعدم المبالاة. ولكني كنت أراقبها من طرف خفي، ومع ذلك لم أكتشف شيئاً وانتظرت أسبوعاً، ثم شهراً، ثم فصلاً، فكانت تزداد جمالاً في عاطفة غامضة وقد غمرتها نشوة من السعادة المبهمة. وفجأة وضح لي الأمر، واستنتجت، وعرفت! إني لست مجنوناً. أقسم إني لست مجنوناً.
ولكن. . . كيف أعبر، وكيف أشرح، وكيف أفسر؟!
كان ذلك في ليلة عادت فيها من نزهة ممتطية صهوة جواد. وترجلت عنه بوجنتين ورديتين، وصدر لاهث، وساقين متعبتين وعينين مجهدتين. ثم تهالكت جالسة على مقعد منخفض. ورأيتها في هذا الحال فعرفت أنها قد وقعت في حب غيري. إذن لم أكن مخدوعاً! وتحاشيت نظراتها وأنا في ذهول. والتفت صوب النافذة فرأيت الخادم يقود الجواد إلى حظيرته. ثم نظرت إليها، كانت تتبع الجواد بعينيها، وهو يسير في نشاط، حتى إذا ما اختفى عن ناظريها استلقت على المقعد وراحت في سبات عميق.
وقضيت الليل مسهداً أفكر. كنت أحاول أن أخترق سراً لا اشك في وجوده. من ذا الذي يستطيع أن يصل إلى أعماق نفسية المرأة؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يكشف دلالها الغامض وخيالها العجيب؟
وأصبحت ترحل فجراً وقد امتطت صهوة جوادها فيركض بها في السهول والغابات. وكانت تعود في كل مرة مجهدة كأنها مقبلة من موقعة غرامية. وفهمت، وأصبحت أغار من ذلك الجواد، وأغار من الريح التي تداعب شعرها، ومن الأفنان التي تهمس في أذنيها، ومن أشعة الشمس التي تقبل وجنتيها، من ذلك السرج الذي يلمس جسمها. أغار من كل هذه الأشياء التي غمرتها بالسعادة والبهجة والنشوة والتي تنهك قواها فتعود إلي في شبه غيبوبة.
وعزمت على الانتقام. وجعلت ألاطفها وأوليها اهتمامي. وأمسك بيدها أعينها على الترجل بعد عودتها من نزهتها. وكان الحيوان المتوثب يندفع نحوها، فتربت على رقبته وتقبله في خياشيمه دون أن تمسح شفتيها، وتمتزج رائحتها برائحته الغريبة.
وانتظرت اليوم والساعة، ساعة الانتقام. كانت تسير كل صباح في طريق يخترق غابة صغيرة فخرجت قبل الفجر وقد تزودت بحبل ومسدس أخفيته في صدري وكأنما أنا ذاهب إلى مبارزة وأسرعت صوب ذلك الطريق، وشددت الحبل بين شجرتين، ثم رقدت وسط الحشائش وأنا أرهف السمع، فسمعت صوت ركضات الجواد آتية من بعد، ثم لمحتها مقبلة تحفها الأفنان والجواد مندفع بها: أواه. أني لم اكن مخدوعاً. لقد كانت في سرور ظاهر، والدماء تتصاعد إلى وجنتيها، وقد تلألأت عيناها وهي تهتز فوق الجواد في نشوة جارفة.
واصطدم الجواد بالحبل فكبا ثم سقط على الأرض مكسور المقدمتين وتلقفتها بين ذراعي القويتين ثم أنزلتها على الأرض. واقتربت من الجواد. كان ينظر إلي في غضب. ثم حاول أن يعضني، فصوبت المسدس إلى أذنه وأطلقت عليه رصاصة كأني أطلقها على رجل. . . على منافس لي. وفي نفس الوقت سقطت على الأرض أثر ضربة من سوط وقعت على وجهي فنظرت فرأيتها تهم بالاعتداء علي مرة ثانية، فأطلقت عليها رصاصة أخرى فاخترقت صدرها الجميل. . .
. . . خبرني إذاً. . أأنا مجنون؟!.
محمد فتحي عبد الوهاب