الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 804/أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية

مجلة الرسالة/العدد 804/أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية

مجلة الرسالة - العدد 804
أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 29 - 11 - 1948


للأستاذ حسني كنعان

- 2 -

شاع في الفيحاء ما بين سمار الأندية ورواد المجالس، أن الفتى الشاغوري نابغة بني أقبيق قد أقصاه شيوخه عن دروس المسجد الأموي، وطرده والده من داره لنزعته الموسيقية والتمثيلية لئلا تكون هذه الأسرة المرموقة المنظور إليها في حي الشاغور المحافظ على تقاليده وعاداته غرضاً للنقد والغميزة الممضة.

وانتشر ذلك كسرعة البرق بين رواد الحلقات، فأسف على حرمانه من الدرس أناس وفرح آخرون، أسف الذين كانوا يرقبون له مستقبلاً لامعاً من انصرافه إلى العلم، وفرح الذين كانوا ينفسون عليه نبوغه، ويعدون وجوده بينهم حائلاً دون ظهورهم، وكان من أشد الناس أسفاً على حاله، خاله أبو سعد النشواتي. فأدناه من مجالسه، وكفل معيشته، وجعله وكيلاً عنه في قاعة النشا، ولما ارتاش وانتعشت حالته المادية عند خاله بدا له أن يستقل في عمله، فاشترى من وفره (قباناً) واستأجر محلاً في سوق البذورية وهو من أشهر أسواق دمشق التجارية، وجعل يتكسب من هذه الصناعة، وأمسى يكنى بالقباني، فتغلبت هذه الكنية، فيما بعد على أسرته وغدا يطلق عليها أسرة القباني، وكان خاله يعتقد أن إزالة صخرة كبيرة من مكانها أهون عليه من إزالة هذه التحيزة المتأصلة في نفس هذا الفتى النابغ العجيب. ومما جعله يعطف عليه هذا العطف كله أن أبصره أكثر من مرة يجمع حوله في مقام الحسين في القسم الخارجي من الأموي جماعة المؤذنين والمذكرين، وأبطال المراسلات في آذان الفجر وفي الأسحار في ليالي رمضان، فيعلمهم الأذان والمراسلات من نغمة الصبا، والحجاز، والجهاركاه، والسيكا، وكانوا لا يعرفون سوى نغمتي الراست والبياتي، وكان ذلك وهو في الثانية عشر من سنى حياته، وكان صوته على مأذنة عيسى القائمة في جانب من جوانب المسجد الأموي يفتن السامعين وقت السحر وهو في هذه السن ويجعلهم في حيرة من أمره وذهول. والى هذه المواهب التي لا ينضب معينها، نراه منصرفاً إلى العلم والتجارة والكسب، حيث لا تمر عليه ساعة من نهار دون أن يفيد منها.

وكثيراً ما كان يرى في أوقات الفراغ ممسكاً بيده مطرقة من حديد يطرق بها ج طرقات موقعة على الأوزان الموسيقية ينشد الموشحات والأهازيج على حسب الإيقاع إنشاداً يفتن به الألباب ويخلب عقول أهل السوق، فيتكونون حوله يرقصون كأنهم سكارى لعبت إبنة الحان بعقولهم، فيصفقون ويستديرون على أنفسهم بدون شعور من شدة النشوة والطرب، مما جعلت هذه المواهب القلوب على محبته وجلبت إليه الرزق فذاع أسمه في المدينة وتحدث عنه الخاص من؟؟ والعام.

وكانت تقام له حفلات السمر لدى صحبه وعاشقي فنه في كبريلت الدور، يمتد فيها وصحبه المجاورات والروايات الساذجة المؤلفة من أربعة أشخاص أو خمسة، تعرض فيها فصولاً بالمفاضلة ما بين الكسلان والمجتهد، والتاجر والعامل، والعالم والجاهل، ولما طال الأمد عليه وهو يدب في هذه الصناعة دبيب الطفل الزاحف الذي يحبو على يديه ورجليه ويتحفز للوثوب خطر بباله أن يأخذ دور عنترة ويجعل دور عبلة لصديق من أصدقائه مقلداً في ذلك أستاذه الأول علي حبيب الذي كان يتخذ من الصور الخيالية أشخاصاً فيكلمهم خلف الشاشة ويحاورهم ويداورهم كما مر معنا في البحث الماضي، فنجح في هذا الباب نجاحاً كتب له فيه الظفر، وفاق فيه أستاذه. إذ أن ذاك كان يحاور صوراً خيالية، وهذا يحاور ويمثل مع أشخاص حقيقيين.

وفي عهد ولاية المرحوم الوالي (صبحي باشا) حضرت إلى دمشق من فرنسا فرقة تمثيلية ومثلت في مدرسة (العزارية) روايات اجتماعية وأخلاقية في باب توما، وهي أقدم مدرسة لدينا كانت تقوم ولا تزال قائمة حتى الآن بتعليم اللغة الفرنسية، وكان القباني قد شهد هذه الروايات جميعها وأخذ فكرة عن المسرح والتمثيل والممثلين وتوزيع الأدوار (والمكياج)، فتمم بذلك ما كان ينقصه من فكرة التمثيل والمسرح، وأمسى أكبر همه أن يؤسس في دمشق مسرحاً، ويؤلف فرقة، بيد أن الذي عاقه عن المضي في سبيله، قضية ظهور الفتيات على المسرح، وما يعتور هذه الفكرة من طرق شائكة وصعاب وعقبات.

فالمرأة التي كانت حبيسة بيتها. وكان لا يسمح لها في الخروج منه سوى مرة واحدة في العمر تلك هي المرة التي تخرج فيها من البيت مزفوفة إلى بيت بعلها، ومرة واحدة بعد الموت، تلك هي المرة التي تخرج فيها محمولة على الأعناق إلى مقرها الأخير. . . فكيف تستطيع أن تظهر على المسرح وحالتها حالتها، ومحبسها محبسها، أن دون ذلك خرط الفتاد وإراقة الدماء وإسالة النفوس.

بقى القباني يفكر في تذليل هذه العقبة وتسهيلها مدة من الزمن حتى بدا له أن يمضي في طريقه غير وجل ولا هباب، ويستعيض بدلاً عن النسوة الفتيان (الغرانق) ذوي الشارات الحسنة والمياسم المغرية. ولما شرع في عمله، ورأى الإقبال عليه والتشجيع والتنشيط من كل صوب وناحية وأصبح العارضون أنفسهم عليه من الفنانين أصحاب المواهب ومن الفتيان ما يفيض عن الحد المطلوب طار من إهابه فرحاً، لا سيما وأكثرهم عرض نفسه عليه بدون أجرة تشوقاً ولذاذة، فألف على الفور فرقة تمثيلية كانت تمثل الروايات في بدء عهدها، في البيوت والقاعات، الخاصة، فذاع خبر هذه الروايات في الشام حتى بلغت مسامع (الوالي) التركي (صبحي باشا)، وكان ممن يقدرون الفن والمواهب، فحضر بنفسه تمثيل رواية من الروايات في حفلة أقيمت على شرفه بصورة خاصة في بيت ثري من أثرياء الشام وهو كثر في ذلك العهد، فدهش مما سمع ورأى، وهام بحب أحمد كل الهيام وأدناه من مجالسه، وجعله موضع عنايته، فصار شفيعاً ووسيطاً ما بين الحاكم والرعية، ما من أحد عرضت له مهمة لدى الوالي وقصد أحمد بها إلا قضاها له.

رأى الباشا في هذا النابغ الدمشقي الشروط المتوفرة للقضاء على الجمود الفكري في الشام وتهذيب النفوس الجامحة بواسطة التمثيل والموسيقى، فأوعز إليه أن يؤلف جوقة وأن يقيم مسرحاً في المكان الذي يختاره.

ولقد رمى الوالي بهذه الفعلة إلى غاية سياسية الجملة تملك أهمية صرف الشعب المتوثب عن الحياة الطليقة التي كان أوجد نواتها في البلاد قادة الثورة الفكرية الشيخين المصلحين الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

فتم له بذلك ما أراد، وكان إقبال الشعب على مشاهدة روايات القباني يفوق حد الوصف ويشب عن الطوق، فأقام مسرح في خان من خانات البذورية، وأول رواية عرضها على الجماهير الحاشدة رواية ناكر الجميل، فأحرزت شهرة فائقة ونالت نجاحاً عظيماً في الأوساط، ثم اتبعها برواية وضاح فلم يكن افتتان الناس بهذه الرواية أقل من افتتانهم بسابقتها، وهكذا دواليك أخذ هذا النابغة الموهوب يتدرج بفنه من حسن إلى أحسن ومن جيد إلى أجود، حتى طارت شهرته في جميع الأنحاء السورية، وتخطتها إلى الأقطار المجاورة، فصار حديث القباني الممثل المطرب والمنشد البارع والملحن الأوحد مالئ دنيا الشام وشاغل أهلها.

ولما أقبلت عليه الدنيا إقبال الأتي المنهمر، وبسم له الدهر وصلحت حاله، أخذ محلاً في (خان الكمرك) في العصرونية بالقرب من المدرسة العادلية، وأقام مسرحه هناك في منتصف المدينة. وهنا استفاض الحديث في المنازل والمجالس عن عظيم مواهبه وسحر فنه، وكثر رواد مسرحه، وعشاق موسيقاه، وتمثيل رواياته، فلا حديث في المدينة إلا حديثه، ولا ذكر إلا ذكره. . .

وكان كلما تدفقت عليه الأموال ينفقها في سبيل تحسين مسرحه وجلب الحاجات الفنية الغامضة إليه، ففتن الناس وخلب عقولهم حتى بلغ من شأن الاهتمام برواياته أن صار الفقير منهم الذي لا يملك ثمن بطاقة الدخول يبيع فراشه وأواني بيته وحلي زوجته ليشاهدها ويجتلي طلعته فيها، وكان لشدة الازدحام يؤم الواحد منهم القاعة من الصباح ويبقى فيها حتى المساء ليشاهد الرواية، فإذا ما انقضت اللذة بمشاهدة رواية تولدت شهوة ولذة بمشاهدة غيرها. ومن شدة الازدحام على أبواب القاعة المقام فيها المسرح أسس الدخول إليها لا يكون إلا تحت إشراف السلطات المحلية، وصارت تباع التذاكر لدى مكاتب المتعهدين قبل ثلاثة أيام، ومن يتأخر عن حجز مكان له في أسبوع قبل ثلاثة أيام أو أربعة أيام يضطر مكرها للخطوة بمشاهدة هذه الروايات في الأسبوع الذي يليه.

وكان الوالي في قاعة المسرح مقصورة يقصدها كل ليلة ويمتع سمعه وبصره بهذا الفن الأخاذ بالرغم من جهله باللغة العربية التي يمثل فيها القباني رواياته.

ومن عادة الدهر ألا يبقى على حالة واحدة، وأنه إذا ضحك إنسان يوماً ما سيتجهم له إذا دالت دولته وولى زمانه وشالت نعامته، وخانه صحبه وأوطانه، وقديماً قال الشاعر: (من سره زمن ساءته أزمان. . .).

(للبحث صلة)

حسني كنعان