مجلة الرسالة/العدد 803/محمد إقبال
→ القبائل والقراءات | مجلة الرسالة - العدد 803 محمد إقبال [[مؤلف:|]] |
عودة ← |
بتاريخ: 22 - 11 - 1948 |
شاعر الشرق والإسلام
1389 - 1873 1357 - 1938
للأستاذ مسعود الندوي
- 4 -
نعم، شعره منقسم إلى قسمين: نوع لا يدرك كنهه إلا الدين أوتوا حظاً وافراً من العلم، والذوق الأدبي، وهو الذي أخرجه للمتعلمين والمتأدبين خاصة، وفيه فلسفة وشعر وحكمة وانتقاد لنظريات فلاسفة الغرب وآرائهم. وقسم فيه الدعوة إلى الجهاد وإيقاظ النائمين من سباتهم وإماطة اللثام عن وجه الحضارة الغربية والسياسة العصرية وغيرهما من العظات وأسرار الطبيعة؛ وهذا يمكن فهمه والانتفاع به لكل من له إلمام بالشعر والأدب. وفوق ذلك أن بعض كلماته كالشكوى إلى الله (شكوه) وشكاة الأمة إلى نبيها (فرياد أمت) تنشدها العامة وتهتز لها طرباً، لأن الشاعر أعرب فيها عن عواطف جمهور الأمة فصادفت هوى في قلوبهم. وأضرب لك مثلاً بكلمته الشهيرة السائرة الشكوى إلى الله (شكوه) التي شكا فيها الأمة ورفع شكاتها إلى الله تعالى من إنعامه على الكافرين وإغداق النعم عليهم وسوء حال المسلمين في العالم وغيرهما من أمور يشكو منها المسلمون في هذا العصر ويتذمرون عليها في هذه الحياة الدنيا. وقد بدأها الشاعر بقوله:
(ربنا اسمع قليلا شكوى عبادك الأوفياء المخلصين، واستمع هنيهة لشكاة الذين تلهج ألسنتهم دائماً بالثناء عليك، ولا ريب أننا معروفون بالصبر والاستسلام للقضاء، لكنا نسمعك الآن نفثات القلوب المكلومة لأن نوائب الأيام أجبرتنا على ذلك).
إلى أن رفع عقيرته قائلا:
(كان يسكن هذه المعمورة السلاجقة والطورانيون، وكذلك كان أهل الصين في الصين والساسانيون في بلاد فارس وأيضاً كان يقطن اليونانيون بهذه الأرض الواسعة. ولكن قل لي بنفسك: أيهم تناول السيف بيده لإعلاء كلمتك؟ وأيهم قام لإصلاح المجتمع وقطع دابر الفساد من الأرض؟).
وهكذا ذهب به كل مذهب في هذه الشكوى حتى خاطب ربه متألماً:
(رحمتك تتوالى على الأجانب ودورهم، أما المسلمون فليس من حظهم إلا رعود النوائب وبروقها؛ والبلية كل البلية أن الكفار ينعمون بحور مقصورات وقصور مشيدة، والمسلمون المساكين يعللون بوعود الحور فقط). وتخلل هذه الشكوى كثير من مزايا الأسلاف وخصائص أعمالهم الجليلة التي افتخر بها الشاعر أمام ربه كقوله في وصف المجاهدين الأولين: (وكلما حانت الصلاة أثناء صليل السيوف، ولت الأمة الحجازية وجهها شطر القبلة وسجدت لله تعالى شاكرة.
ووقف محمود (الأمير) وإياز (المملوك) في وصف واحد فلم يبق هنالك عبد ولا مولى، وأصبحوا جميعاً عبيداً لله؛ واتحد العبد والمولى والفقير والغني، ولما وصلوا في حضرتك، صاروا وحدة جامعة وكتلة متراصة).
وكلمة (شكوه) هذه سائرة مسير المثل في طول بلاد الهند وعرضها. وكذلك يضاهيها في الشهرة والقبول جواب الشكوى (جواب شكوه) التي رد فيها الشاعر على كل بيت من شكواه وذلك بلسان الله عز وجل، وكلتاهما أشهر من (قفا نبك)، وقد ترجمت بلغات عديدة. ولكن العارفين بدخائل الكلام يرون أن الشاعر لم يكن موفقاً في الرد مثل نجاحه في عرض الشكوى. وذلك غير بعيد من شاعر مطبوع متألم من مصير بني قومه، وهو في ريعان شبابه. وعلى كل فإن الشاعر نجح إلى حد بعيد في إرشاد إخوانه إلى مواطن ضعفهم في الدين والأخلاق.
هذا وقد عرفت ما بلغه الشاعر الحكيم من علو الفكر، وسمو البيان في الدور الثالث من حياته الشعرية، نريد أن نعرف القراء بشيء من غرر شعره وفرائد حكمه في الدور الرابع من شاعر يته حينما جاوز حد الفتوة، وأصبح في عداد الحكماء أكثر منه في الشعراء. ولكن حكمه منتثرة في مطاوي دواوينه، كثيرة متنوعة في مواضيعها، بحيث لا يمكن تقدير إحاطتها وتنوعها بعدة من الأمثلة، ولذلك يجدر بالمقام أن نبتدئ أولا بذكر دواوينه والإشارة إلى مواضيعها، ليكون القارئ على بينة من كثرة منظومة وتنوع أفكاره وحكمه، ثم نلخص نتفاً من آرائه السديدة وحكمه البالغة. أما دواوينه الشعرية، فهاك بيانها:
باتك درا (صوت الجرس): مجموعة شعره (باللغة الأردية) في الأدوار الثلاثة الأولى، وأكثرها دعوة إلى الجهاد وتذكير بالماضي واستهزاء بالحضارة الجديدة في التعليم العصري ونتائجه السيئة.
أسرار خودي (أسرار فلسفة الذاتية أي فلسفة الاستقلال بالرأي والعزم): وقف الشاعر هذا (المثنوي) (نوع من الشعر الفارسي) لإيضاح فلسفة (خودي) وبيان نتائجها، مستدلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية. وفيه تفسير لسورة الأخلاص نفيس في تبيين هذا المعنى، وذلك بلسان سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقد ترجم هذه المجموعة الدكتور نكلسن بالإنجليزية وهذا الديوان أيضاً من آثار شبابه.
بيام مشرق (رسالة الشرق): نظم الشاعر هذا الديوان رداً على (الديوان المغربي) للشاعر الألماني الشهير (غوته) وبين فيه الحقائق والحكم التي تساعد الأمم على تربية عقولها وتثقيف أبنائها بثقافة ناضجة محكمة. وقد أضاف اليه الشاعر مقدمة ممتعة بين فيها ما كان للأدب الفارسي من تأثير في الأدب الألماني، وأن ديوان غوته المعروف (بالديوان المغربي) أيضاً نتيجة من نتائج هذا التأثير. وهذا أول الدواوين التي نشرها في الدور الرابع من حياته الشعرية. وقد تلقاه أهل الأدب في الشرق والغرب بالقبول. وكان الشاعر أهداه إلى الملك أمان الله خان، ملك بلاد الأفغان وقتئذ، حيث كانت الأمة قد عقدت عناصرها عليه وكان صاحبنا يرجو منه شيئاً كثيراً في سبيل أحكام أواصر الأخوة الإسلامية وتوطيد دعائم المجد الإسلامي.
زبور عجم (زبور العجم) للناس أقوال في تفضيل بعض دواوينه على بعض، حتى إن بعض الشبان الثائرين يفضلون ديوانه الأول (بانك درا) على جميع دواوينه لكونه مشتملاً على روح الثورة والجهاد. ولكن جميع الناقدين متفقون على أن (زبور عجم) شعر، كما أن (أسرار خودى) فلسفة و (بيام مشرق) حكمة. وفي هذا الديوان من مكنونات أسرار الحياة وغوامض الحكم ما تهش له النفس ويفرح به القلب،
(جاويد نامد) سلك فيه الشاعر مسلك المعري في رسالة (الغفران) و (دانتي الإيطالي في ديوانه حيث صاحب الحكيم العرف بالله جلال الدين الرومي وارتقى معه درجات السماء في عالم الخيال، فلقي هنالك أرواح المجاهدين وأسر إليها بذات نفسه ووصف لها أدواء الأمة واستفسر عن دوائها، فوصف له الدواء الناجع أمثال السيد جمال الدين الأفغاني و (والسلطان الشهيد) (تييو سلطان ملك ميسور الشهيد) وسعيد حليم باشا، وحمل حملة شعواء على اللورد كتشنر بلسان المهدي السوداني وأنبه على نبش قبره تأنيباً شديداً. وفي الديوان كلمة حكيمة حماسية من السوداني إلى ملوك العرب، ابتدأها لسان الشاعر بقوله:
(فؤاد وفيصل وابن سعود). والتي قال فيها: (ذاك بطحا ديكر بزاي). يا ليت أرض الحجاز أنجبت خالداً آخر.
وكذلك الشاعر حد الإعجاز في تصوير الخيانة والغدر في أبشع صورة، حينما ذكر جعفراً وصادقاً، وقال إنه رآهما مطروحين من وراء النار، لأنها استنكفت من دخول الخائنين فيها. وأي بيت أبلغ في ذم الخائنين من قوله فيهما:
جعفر إذ بنكال وصادق أزدكن ... ننك آدم، ننك دين وطن.
جعفر البنغالي وصادق الدكني ... كلاهما عار للإنسانية والدين والوطن.
يتبع
مسعود الندوي.