مجلة الرسالة/العدد 802/رحلات في ديار الشام في القرن الثامن عشر
→ نفاق المخلص | مجلة الرسالة - العدد 802 رحلات في ديار الشام في القرن الثامن عشر [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 15 - 11 - 1948 |
الهجري: 4 - ارادن حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان
لمصطفى البكري الصديقي
(1099هـ - 1162هـ - 1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
(تتمة)
إتمام البئر وانتشار الطاعون:
وبعد ما تم بناء البئر أردت أن أدخله في الحضير، فشرعت في تقييم الستارة، وابتدأنا يوم الاثنين في العمارة، وكان أفرط عند الطاعون، أحوج لاستعمال ما في الماعون، وتمرض الأخ محمد سيعد ليلة الثلاثاء بوارد شديد، وما زال الأمر يزيد إلى أن اصطفاه إليه ليلة السبت الحادية والعشرين من ذي الحجة شهيد، وترجمته في كراسة وسميتها (العقد الفريد النضيد في ترجمة محمد سعيد) وحصل له مشهد فريد، ودفن في مأمن الله.
سنة 1145هـ
ولما دخل عام (1145هـ) توجهنا والأحبة على عادتنا للزيارة (مقام علي بن عليل شمالي يافا) وأقمنا بعد ما قطعنا بلاداً مع السيارة وبتنا لدى المزار ليلتين، ومنه أتينا بعد التنزه في المروج ذات الزهور، مع الجموع قرية (كور) وكنا تخلصنا بامداد الشكور، من الحمى ذات العبور، إلى تجوم الجسد المنخور، وعطفنا على (نابلس) المحروسة، ولم ننزل إلا الدرويشة، لاتساع مبرور، وكان الحاج حمدان، قصد جامع النصر المعمور، والخلوة التي لديه وأذنا لولده الشيخ يوسف بالحضور، وسرنا بعد إكرام تام، وما زلنا بالبداءة والختم بالأوراد إلى أن وصلنا المنازل المقدسة. وكنا قد أكدنا مع الأخ الحاج حسن مقلد أمر الحج، ورجونا أنا بعقد جواهر نتقلد؛ وفي أوائل رجب جاءنا رجل مغربي سمى نفسه السابع، وزعم أنه عائم في بحر المعارف سائح، وحدثنا بعجائب من بنيات صدره، ووعدنا مواعيد عرقوب صانها في قدره.
وحين اشتد العزم على السير نحو الحجاز، وصله مودعاً إلى جيوض (السيلة) وفارقناه. وذكرت ما وقع في هذه الحضرة الكريمة في رحلة سميتها (الرحلة الإحسانية الحجازية الثانية) ولما عدنا إلى الديار المقدسة صحبنا الأخ الشيخ محمد المكتبي الحلبي وكان بعد ما توجهت من حلب للقدس أرسل كتابا للفقير مطلعه:
ذاب من حرَّ فؤادي جسدي ... وغدا فوأدي بياضاً مفعما
وبعد ما زار الأنبياء العظام والأولياء الاماجد، أقام لدينا نفسه مسلماً مصاحباً منادماً متيما ووالهاً في حبه هيما، وفي أثناء إقامته، ورد أول كتاب من الأخ مصطفى اللقيمي مطلعه:
وأمنيت للمسجد الأقصى وللحرم ... بعد انقضاء أداء النسك بالحرم
وقد ذكر فيه أنه أحرم، ثم دخل من باب السلام، وطاف بالكعبة سبعا، وأسرع إلى عرفات، وبات بمزدلفة، وأصبح في المنى، ثم رمى بالجمرة، ثم قدم مكة وطاف طواف الإفاضة، ثم سعى، وحلق، ومضى لمضيء عمرة، وختمها بطواف، وسعى وتوجه تلقاء مدين قرب جدة، وعاد إلى المسجد الأقصى.
(ولما أقام الأخ الشيخ محمد المكتبي مدة أيام، وتلقن بعض أسماء حضر من الشام صديقنا الشيخ عبد الرحمن السمان، ومكث قليل أيام وزار المشاهد، وبعدها هم على الرحيل لوطن المقام وعزم على السير معه الأخ المكتبي فكتبت له إجازة بالإذن كما أرسل إجازة للأخ اللقيمي.
سنة 1146هـ
ولما هل شهر رجب 1146هـ ورد علنا الأخ الحاج ابراهيم بن حسن البكاني الحرستاني، وحرستي بلدة سيدي محمد بن الحسن صاحب النعمان (الرياني) ومعه رفيق من أهالي (بيت سوا) يدعى عبد الغني، وبعد أيام دخل الخلوة، ثم تشفع برجوعه بابنتي علما فقبلت شفاعتها فيه، وأجزته لما مدة إقامته انتهت.
وفي أواسط شعبان طلب الأخ الشيخ عمر العنبوسي عمل معراج نبوي مختصر مسميا له (اليم الفدا المواج في ذكر أحاديث الإسراء والمعراج) وشرعت في تسويد شرح على المنفرجة المنسوبة لأبي عبد الله النحوي، وكان ذلك عن طلب السيد علي الحنفي، وسميته (الفقه النضيد المشيد الحجة، على القصيدة المسماة بالمنفرجة) وقابلته مع الشيخ محمد بن السيد عيسى الكردي، وأرسلته مع الشيخ المذكور، إذ مراده المسير إلى تلك القصور.
وكنت بعد العود من الحج بأشهر وأيام أرسلت للأخ الشيخ محمد الحفناوي (في مصر) إجازة وإذناً عاما بالإرشاد. وقد وردني في أواخر ذي الحجة منه كتاب جواباً على كتابي والإجازة.
صدور خط سلطاني بإصلاح قناة الماء للحرم القدسي:
في أوائل سنة 1146هـ صدر خط سلطاني معربا معجمه بأن الوالدة أثابها الله في الجنان، انتدبت لعمارة ما يلزم القناة القدسية، فعينت أحد أعيان الدولة، ووجهت له ما يحتاج إليه فوفد بصوله والمذكور (قبله لي زاده) فتوفى قرب حصول ما أراده، وكان حسن النية والإرادة، ثم ورد مباشراً على أغا بن حمود، وبعد تمام بعض نظام رجع لوطنه للزهو يقود، كتب أهل الولاية له محضراً بما جرى، شاهدين فيه أن ماء الكأس لمحله جرى، وحصل للناس فرج وفرح.
سنة (1147هـ) وفاة الشيخ محمد الخليلي:
وكان ورد على كتاب من الأخ الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي في عشرين محرم سنة (1147هـ) مصدرا بقصيدة ثانية مطلعها:
عيون بنى الصديق بالصحو قدَّت ... عيون أولى التصديق بالمحو فدَّت
وفي اواخر ربيع الأول أرسلت كتاباً للأخ الشيخ مصطفى العمري مصدراً بقصيدة:
أيها المصطفى من الخلان ... كن بمولاك داعياً للعيان
واجتمعت ليلة الحادية عشر من شهر ربيع الثاني (سنة 1147هـ) بالشيخ يسن الغزي الخلوتي، وكان الأخ الشيخ إبراهيم الشهير بابن صفر أغا أخبر أنه كان منكراً عليه ما يظهر منه من مخالفات تنسب إليه حتى استبان له الأمر فانقاد وزاد منه فيه الحب والاعتقاد.
وفاة الشيخ محمد الخليلي: وفي منتصف جمادى الثاني ليلة الخميس، انتقل شيخنا العالم العامل المحدث الفقيه الشيخ محمد شمس الدين أبو الوفاء الخليلي إلى المقام الأرفع، فكانت ليلة ليلاء على أهل إيلياء، كان رحمه الله جاور في الجامع الأزهر، ثم ورد إلى بيت المقدس، فانتفع به أهلها، وقد أخذت عنه الإجازة في الحديث سنة 1122هـ لسند عال، ثم تأكدت المحبة بيننا وبينه لتكرر الخطوات القدسية، ثم نمت وزادت سنة (1131هـ) لتأهل في الديار القدسية، وقد ذكرته في النحلة النصرية في الرحلة المصرية) وقد تكررت صحبته في زيادة الخليل، والكليم، وقلت مرتجلا في امتداحه:
أيها الذات في حمى الذات قيلى ... فلقد لدَّ لي لديها مقيلى
وبعد وفاة الشيخ بثلاثة أيام اندرج بالوفاة إلى رحمة الله صديقنا الشيخ برهان الجعفري الرفاعي الخليلي الأوطان، وكان المذكور اجتمع علينا في ثاني خطرة للزيارة الخليلية وأظهر المحبة كأخيه الشيخ أحمد السابق للمنازل الإحسانية، وقد ظهرت لهما على أخبر به بعض أتباعه، كرامات تعرف بمقامه.
وفي أواخر هذا الشهر ورد على كتاب من الأخ اللقيمي وفيه:
شوقي إلى علينا جنابك طافح ... أخفيه وهو خفي سر فاضح
فأجابته بكتاب:
للعارفين خواتمٌ وفواتح ... أنداؤها في العالمين فوائح
وفي أوائل شهر رجب شرعت في عمل مقامة مشيرة لفن الأدب سميتها (المدامة الشامية في المقامة) أودعت فيها من القصائد الجامعة، وشرعت في أخرى (مغربية) وسميتها (الغمامة الغربية في المقامة المغربية).
ثم شرعت في شرح قصيدة الإمام الحجة صاحب المنهاج.
الرحلة إلى الديار الرومية:
وفي ذي الحجة تحرك الخاطر إلى الديار الرومية، وما زال والعزم يتقوى إلى أن دخل محرم، فتوجهت إلى الشام لأجل أن يكون المسير مع ركب الحجاج، وشرعت في الرحلة الرومية الثانية وأسميتها (الخلة الغانية الدانية، في الرحلة الرومية الثانية) وعدنا منها ثاني يوم من شهر الصوم.
مرض ابنته علما ووفائها:
وعدت فوجدت بنتي المحمية لسرى وقلبي، المقربة إن شاء ربى، متمرضة بأمر جرئي، فقاد كلبا ذيله طويل، وبعد أيام غابية لا قليلة، أحبت مجاورة مولاها بنفس ذليلة. فحصل بفراقها ألم مؤلم، وذلك في الليلة التاسعة من شهر رمضان.
وترجمتها في رسالة أسميتها: (الغيوب الملجمة، والغيوث المسجمة، في ترجمة ابنتي المنفية قدرا سما، الشريفة الصديقة العباسية علما) وقد كتبت على شاهدة قبرها مؤرخاً:
قصر الجنان من يدي ... جدي هنا تسلماَّ
رضوان ربي دائما ... يهمي عليها كالسما
وما زالت المدامع بعد بعدها سخية إلى تمام ذلك العام
سنة 1149هـ البدو يسلبون الشيخ التافلاتي:
وبعد دخول العام الجديد سنة 1149 ورد علينا الأخ الشيخ محمد التافلاتي، وأخبر أنه جاءنا على طريق التيه وأخذ منه أعراب الطريق بعض أثواب، وكتابا من الصديق الشيخ محمد الحفناوي في أوائل شهر ربيع شرعت في تأليف مولد نبوي وسمته (المولد الدري في المولد النبوي) وقرأته ليلة المولد على الإخوان متبركا
وجاءنا في هذه الأثناء السيد علي من بيت كريم الدين صاحب الجدود الخرفغببفاخرة، والحسب، وكان مجيئه في جمادى الأول بعدما طلع لأرض الروم، ونزل وتوجه من القاهرة، بوجود غير سافرة، ووصل إلينا مفصول العرا، كمن قرا ولكنه ما درى، وكنت أرسلت للأخ الشيخ محمد الحنفي كتابا محرضا له على الحضور لنزل قدس وافر السرور، فتيسر الأمر عليه وقدم والسعد بين يديه، منتصف جمادى الثاني سنة 1149 مصحوبا بالتهاني. وأرسلت ولدي يستقبله فرحا بقدومه، واشتغلت بنظم أبيات، أسمعتها له غب الإتمام فسر بها، وكانت ساعة التلاقي ميمونة. ومطلعها:
در كؤوسي من الرحيق الشهيَّ ... ثم ثنى من العتيق البهي. الخ
ولما استقر به المقام، وحل الرحاب منه، سار ذكره كالمثل السائر، وكنت أكتب في شرح الهمزية، المسمى (باللمح الفردية العزية، في شرح القصيدة (الهمزية)، فصرت مهما كتبت أعرضه على أسماعه، وقلت:
عروسة صوان بدا عطفها ... على صبها مذ هدا عطفها
وقابلت معه المعراج، والمولد النبوي، وشرعت في أوائل شعبان في مقامة يمينة، وعرضتها عليه مقابلة فأحب أن ينسخها لنفسه، وسميتها (العمامة اليمنية في المقامة اليمنية)، وألحقت بها (المقامة الموسومة بالحمامة الورقا القصرية في المقامة العنقا المصرية) وأتبعتها (بالصمصامة الهندية في المقامة الهندية) وكنت وصفت (الكمامة النرجسية السندسية، في المقامة الأنسية القدسية).
الختام:
ولما دخل شوال تحرك المحب الرحال السيد موسى الكريمي إلى المسير ناحية (غزة) وطن الصبابة، ونزل الأعزة، فطلب الأخ الشيخ محمد التوجه صحبة المذكور، إلى الوطن الأصلي المشهور، فأردت إبقاءه إلى أن يقع لي الإذن بالذهاب، ثم خشيت أن أطول عليه أدان الفراق، والاغتراب، لعدم ظهور وقت المسير، إلى تلك الديار، على أني كنت وعدت الزائر بالعود لدياره صحبة الأهل والعيال وطول الإقامة في جواره، فرغب في إنجاز الوعد، فقلت لم يأت الإذن بعد، وحصل التوجه أواخر شوال المطير بمياه الأشجان، وخرجت معه للوداع إلى القرشي والدجاني. ولم يقسم له نصيب في زيارة الكريم والخليل، فقرأنا لهم الفواتح، وحرضت الأخ على إظهار خفي الطريقة في الديار المعزية والمصرية ذات الأطوار العبيقة، وكان يوم الفراق لدغ إحراق. ولما رجعنا من وداعه بقينا أياما في توحش اجتماعه، وما طال أمل الإذن بالتوجه إلى ذلك المنتزه النزيه وأقمنا نتدارك أمر السفر إلى أوائل صفر، واتضح لنا الإذن المشير بالمسير، وجاءتنا نصاح لنعدل عن الرواح، فاعتذرنا، ولما سهل الحق الأسباب، توجهنا غلس صبيحة يوم الاثنين الثالث من صفر المبارك إلى جهة فلسطين المسماة (بالرملة) البيضاء، ومنها القصد إلى (غزة) ذات اليد البيضاء.
وفي التاريخ ختمنا (الأردان) بطابع ختامه مسك وهكذا كان، فإن التوجه والنية المقصودة الحج. وهاتيك المعالم المشهودة.
وأن ممن ساعد وما قصر، لا كمن في ساعديه عنها قصر، إخواننا المنتمين للعصابة النجمية والخيرية وبعض أصحاب لهم محبة في الأمور الخيرية، وبدأنا من هذا الحين في جمع رحلة سميتها: (الرحلة الثالثة للرياض المصرية والحجازية والشامية، ذات الإمدادات النصرية السامية الإنجازية) والحمد لله. . .
أحمد سامح الخالدي