مجلة الرسالة/العدد 800/المصحف المبوب
→ من قصص العصر الفاطمي: | مجلة الرسالة - العدد 800 المصحف المبوب [[مؤلف:|]] |
طرائف من العصر المملوكي: ← |
بتاريخ: 01 - 11 - 1948 |
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
عصرنا هذا عصر تجديد في كل شيء، وكان من الواجب علينا - معشر المسلمين - أن نجعل لطابع هذا العصر أثرا في مصحفنا، لأنه يحوي بين دفتيه أعز شيء عندنا، وهو القرآن الكريم الذي نسعد به في دنيانا وأخرانا، فلا يزال هذا المصحف يظهر بيننا بشكله القديم، لا شيء فيه إلا ما في هامشه من بيان أجزائه الثلاثين وأحزابه الستين وارباعها، وليس في هذا أثر للإخراج العلمي الذي يبذل في عصرنا عند إخراج الكتب البشرية، إذ تلحق بها أشياء كثيرة ترغب في الاطلاع عليها، وتساعد في الاستفادة منها.
ولا شك أن جمودنا بازاء ما يلزم لمصحفنا في عصرنا يخالف كل المخالفة حال سلفنا الصالح بازاء هذا المصحف، فقد كان القرآن الكريم مفرقا على عهد النبي ﷺ في العسب واللخاف وصدور الرجال، وقد مات وهو على هذه الحال، فلما كانت وقعة اليمامة في خلافة أبي بكر أتاه عمر فقال له: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن. فقال له أبو بكر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فقال عمر هو والله خير. ولم يزل يراجعه حتى شرح الله صدره لذلك، وأحضرا زيد بن ثابت فقال له: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لا لرسول الله ﷺ فتتبع القرآن، أجمعه. فتتبعه زيد يجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى جمعه في صحف مكتوبة، ثم أخذها فأعطاها أبو بكر، وقد ائتمروا ما يسمون ذلك؟ فقال بعضهم: سموه السفر، فرد عليه بأن هذا تسمية اليهود، فكرهوه فقال بعضهم: رأيت مثله بالحبشة يسمى (المصحف) فاجتمع رأيهم على أن يسموه (المصحف)، وكان هذا أول تجديد في ترتيب المصحف وتسميته.
ثم اختلف الناس في قراءة القرآن على عهد عثمان، حتى أقتتل الغلمان والمعلمون بالمدينة، وكانوا قد قرءوه بلغاتهم على أتساعها فبلغ ذلك عثمان فجمعهم وقال لهم: عندي تكذبون به وتلحنون فيه! فمن نأى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا، يا أصحاب محمد، اجتمعوا فكتبوا للناس إماماً. فجمعوا أثنى عشر رجلاً من قريش والأنصار، فبعثوا إلى الصحف التي كتبت في عهد أبي بكر فأتوا بها، وكانت محفوظة في بيت عمر عند ابنته حفصة، فأعادوا كتابته على لغة قريش وحدها، لأن القرآن نزل أولا بلغتهم، ثم وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فلما حصل ذلك الخلاف رؤي أن الحاجة إلى تلك التوسعة قد زالت فاقتصر في كتابته على لغة واحدة، وكان هذا ثاني تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم فسد اللسان العربي باختلاط العرب مع غيرهم بعد الفتوح الإسلامية، وظهر اللحن والتحريف في الألسنة وفي قراءة القرآن، لأنهم كانوا يكتبون بلا إعجام ولا شكل إلا قليلا، اعتماداً منهم على معرفة المكتوب إليهم باللغة، واكتفائهم بالرمز القليل في قراءة اللفظ، فلما ظهر ذلك الفساد أشفق المسلمون على تحريف ألفاظ القرآن، فوضع أبو الأسود الدؤلي من التابعين علامات في المصحف بصبغ مخالف لما يكتب به، فجعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة اسلفه، وجعل علامة الضمة نقطة من جهة اليسار، وجعل التنوين نقطتين، وذلك في عهد معاوية، وكان ثالث تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم وضع نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر نقط الإعجام بنفس المداد الذي كان المصحف يكتب به لتتميز الحروف المتشابه بعضها من بعض، وكانا تلميذين لأبي الأسود الدؤلي، وقد فعلا هذا بأمر الحجاج بن يوسف، وفي عهد عبد الملك بن مروان، وكان هذا رابع تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم اخترع الخليل بن أحمد الشكل المستعمل الآن، لأن نقط الإعجام كانت تشتبه أحيانا بنقط الشكل، وإن كانتا تكتبان بصبغين مختلفين، وكان من الصعب وضياع الزمن كتابتهما بمدادين، فجعل الضمة واوا صغيرة فوق الحرف، وجعل الفتحة ألفا صغيرة، وجعل الكسرة ياء صغيرة، وجعل الشدة راس شين، وجعل السكون رأس خاء، وجعل همزة القطع رأس عين، وقد أتى بعد الخليل من اختزل في هذا الشكل وزاد عليه حتى صار في حاله المعروف الآن، وكان هذا خامس تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم وقفت كتابة المصحف عند هذا الحد، إلا ما حصل من كتابتهم بهامشه بيان أجزائه الثلاثين وأحزابه الستين وارباعها، وهو عمل قليل النفع، ضئيل الفائدة، لا يدعو إليه إلا ما اعتدناه من العناية بالقرآن بالحفظ دون الفهم، فقسمناه إلى تلك أجزاء والأحزاب والأرباع، لتكون لنا منها أوراد نتلوها للتبرك، لا للعظة والاعتبار، لأنه لا يوجد في ذلك التقسيم ما يلفت إلى الفهم في القراءة، ولا تمكن عظة بقراءة من غير فهم.
فيجب أن نعدل عن ذلك التقسيم الذي لا فائدة فيه إلى تبويب السور بهامش المصحف تبويبا يعتمد فيه على الغرض المقصود من كل سورة، فيقسم إلى أقسام مرتبة متميزة، تلفت القارئ إلى ما ينطوي تحتها من المعاني، وتوجهه في قراءته إلى ما تشير إليه من المقاصد، لتكون قراءته نافعة مفيدة مؤدية إلى ما أنزل القرآن لأجله، وهو الهداية.
وسيكون هذا تجديدا عظيما في ترتيب المصحف وكتابته، تظهر به سورة متسقة المعاني، منتظمة المباني، فلا يظن ظان أنه ينقصها شيء من اتساق معانيها وانتظام مبانيها، وقد وقع في هذا الظن الآثم بعض المستشرقين، لأنه لم يجد أمامه مثل هذا المصحف الذي تبوب سوره بهامشه ذلك التبويب، وتقسم فيه إلى تلك الأقسام المرتبة المتميزة، ولو انه وجده لم يقع في ذلك الظن، ولعرف إن سور القرآن متسقة المعاني منتظمة المباني على خلاف ما ظن، ولقد مهدت لهذا المصحف بكتابي (النظم الفني في القرآن)، وسيظهر قريبا هذا الكتاب، ولعلنا نرى قريبا بعده هذا المصحف المبوب.
عبد المتعال الصعيدي