مجلة الرسالة/العدد 80/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
→ محاورات أفلاطون | مجلة الرسالة - العدد 80 فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية [[مؤلف:|]] |
من روائع الشرق والغرب ← |
بتاريخ: 14 - 01 - 1935 |
5 - تطور الحركة الفلسفية في ألماني
شيلنج
1775 - 1854
للأستاذ خليل هنداوي
وهذا هو (شيلنج) الذي ورث (فيخت) وتوأ مقعد الفلسفة بعده؛ درس اللهوت وألم بالعلوم الطبيعية ووقف على شيء من الطب، ولكن المزاج الفلسفي غلب فيه على كل مزاج آخر، فهجر هذه العلوم وآب الى الفلسفة، فجاءت خطراته الأولى يغلب عليها روح أستاذيه (فيخت) و (كانت)، ولم يكن لعقله ذلك النضوج وذلك التفكير المستقل اللذان يستطيع بهما أن يطهر فكرته من الصور التقليدية، ويجعلها ابنة تفكيره الذاتي. ترى آراء (فيخت) شائعة في هذه المقدمات حتى نقول: (إن فيخت) يمثل دروه كرة ثانية. لولا أن شيلنج يفز بفلسفته من (فيخت) الى مذهب القائلين (إن الآله الواحد إنما هو كل الكائنات. .) وقد يستبد شيلنج بهذه الآراء التي يرددها، ويحسب أنها آراؤه الذاتية، فلا يذكر (فيخت) ولا يرجع إليه برأي ولا حديث، ولكنه شديد الاحترام للفيلسوف (سبينوزا) الذي أمده بروجه، وقاد عقله في كثيرمن مراحله؛ وهو الذي أراد أن يستخلص مذهباً يجمع بين فكرة سبينوزا ونقد كانت وكمال فيخت، وبعد أن راٍ المدرسة الفلسفية كتب آراءه ونظراته في فلسفة الطبيعة حيث شاء أن يعيد العالم الخارجي الى نظامه بعد أن قتلته المدرسة (الكمالية) وشوهت حقيقة مظاهره؛ ثم أخرج كتابه (مذهب الكمال العالي) وفيه زبدة مذهبه الفلسفي والصورة الكاملة الحاوية لمذهبه
لم تكن فلسفة شيلنج كفلسفة (كانت) ابنة تأملات عميقة ونظرات متعاقبة، ولا كفلسفة (فيخت) نتيجة نظرات بعيدة في الأخلاق والكمال، وإنما كانت حصاد المخيلة ونتاج الخيال. فكان (كانت) يفكر ويستقصي ويتعمق ويكثر من التأمل، وفيخت كان يثبت من صدق الفكرة ثم يأمر، ولكن شيلنج راح يثبت ما توحي اليه مخيلته وينزل عليه خياله، وهكذا تطورت الفلسفة واخذت تلين بعد شدتها وترق بعد صرامتها، ويزول عنها هذا اللون العميق القاتم، وتدنوا برفق من الشعر والفن؛ والشعر والفن دائبان عاملان على تلطيفه وترقيقها حتى لا تكون عالة على المخيلة، ولا تكون المخيلة عالة عليها، فأمسى الفيلسوف - كما تمثله الأقدمون - شاهداً ينظؤ الى تآلف الأشياء وانطباق أجزائها، وعلاقة النهاية باللانهاية، الحقيقة بالكمال. وشيلنج يرة أن الفيلسوف لاغني له عن المخيلة، وعن الوحي الذي يستمده من نفسه، وعن الخطرة التي تفيض بها قريحته، وهو في هذه الملاحظات يجمع بين الفيلسوف والفنان برغم اختلاف رسالتهما، ولكنه لا يهمل أداة الملاحظة والتامل اللذين خلقا العالم الفلسفي، ولكنه لا يميل اليهما إلا قليلاً. ولهذا الاعتقاد الذي رسم مذهبه الفلسفي بميسم الفن رأينا أن فلسفة شيلنج جاءت فلسفو هادئة مسألة لا حركة فيها ولا ثورة
إن (فيخت) برغم ما بذل من جهد استنفد وسعه للعمل على ربط فعالية عقل الانسان وأخلاقه بوثاق واحد ومذهب واحد؛ نراه غادر في مذهبه هذه (الثُنائية) التي لم يجدها شيلنج صحيحة، فعاْلم الروحَ الداخلي لا يمكننا أن نشاهده ونطلع على غيبه إلا بوساطة العالم الخرجي عنا؛ كما أن العالم الخارجي لا يُلمس إلا بمعونة عالم روحنا. وهكذا يجد الفيلسوف نفسه أمام مادتين جوهريتين مفترقتين متعاكستين، فأراد شيلنج أن يمحو هذا التنازع بينهما، وهو تنازع لم ينكره فيخت، فتحرى شيلنج في كلا العالمين عن قانون أعلى يصم بينهما، فوجد هذا القانون في الواحد المطلق ' مبدأ ومنهى كل وجود، وملتقى عالم الحقيقة بعالم الكمال، والموفق بين الأضداد. وقد أحل مذهبه هذا محل المذهب العلمي، واعتقد أنه ثد وُفق في إيجاد الأتحاد المنشود، وجع الأجزاء المتفرقة، وتوحيد المعرفة الأنسانية
وفي الحقيقة إذا تعمقنا في حقيقة هذا المذهب الذي جاء به شيلنج رأينا أنه هو ذات المذهب الذي يجعل الله هو كل الكائنات، والواحد المطلق الذي أنشأه وافترضه شيانج هو هذه المادة الأزلية التي لاحظناها وبشر بها (سبينوزا)، هذه المادة التي تحل متفقة في عنصرين متضادين وعالمين مختلفين: عالم الوح وعالم المادة.
والصفة البارزة التي يتسم بها مذهب (شيلنج) هي أنه أنشأ رباطاً محكماً وأوجد وحدة شاملة بين مظاهر الكون المختلفة؛ فالوجود الحقيقي والوجود الروحاني السامي كلها عوالم مشتقة من نبعة الفرة الآلهية، وهناك شيء من الميل الغريب بين أفكارنا والمرئيات، فنحن نحمل في أنفسنا صورة لكل شيء تقع عليه أعيننا، وهذه الصورة قد لا تلوح في الذاكرة سريعاً، ولا تكون وليدة ملاحظاتنا الحنينة، ولكنها ابنة تصور راسخ فينا منذ القدم، مندس في شعورنا. فما هو إلا أن نهيب بهذه التصورات حتى نحس أن هذه الصور أخذت تمر بنفوسنا، فاذا أردنا أن نعرف الكون فما علينا إلا أن نتلقى في صحف أنفسنا وأن نتبع بنظرنا الباطني مجرى الأشياء، وأن نقف على الحكمة المنطقية الآلهية التي أبدعت الكون؛ وهكذا يغدو علمنا مطلقاً وليس له الا صبغة الوحدة المسيطرة على العالم، وتصبح الفلسفة لا تتوقف على التأمل الذي يلاحظ الأشياء، ولا يدخل فيها ولا يحبونا إلا بمعرفة جزئية محدودة؛ وإنما التامل الحقيقي والادراك العقلي يجب أن يكونا قسماً من الخيال النظري الذي يوحد بين الأفكار ويرتبها، وإنما غرض الفلسفة أن تعمر الكون وأن تشيده وأن تعمل في الخلفية على إبداء وجهتها الشعرية والفنية
لم يقف (شيلنج) جهوده على الفلسفة وحدها، وإنما كان يخوض طوراً في الفلسفة الكونية والنفسية، وتارة في التاريخ والفن، وهو يفوز في ساحة، ويخفق في أخرى؛ أما فلسفته النظرية فقد جابهتها الحقيقة مجابهة قاسية، وعلة ذلك أنه كان يجنح كثيراً إلى الافتراض، وقد يكون الافتراض أحد العوامل الأساسية في تقدم العلم، ولكنه لا يغني شيئاً في تحليل المهمات التي لا يتناولها التحليل. وأما نظراته في التاريخ فسرعان ما وهنت. أركانها واضطربت أصولها، وهو يمشي على أثر (فيخت) الذي قسم العصور الانسانية إلى خمسة أدوار؛ يبدأ أولها بعصر الانسان الأول الذي لم يدنس عقله ونفسه شيء. وينتهي آخرها بالعصر الذي سيتسامى فيه الانسان وتحمله تأملاته النقية إلى فردوسه المفقود؛ ولكن (شيلنج) حدد تاريخ الانسانية بثلاثة أدوار
إن عبقرية (شيلنج) لم تبرز واضحة إلا فيما استمده من قلبه وانتزعه من نفسه؛ وفي + مذهبه الذي لم يُوثق فيه خياله بوثاق العقل المحدود، ولم يجد في ادنائه من الحقيقة نُكراً. هذا المذهب الذي احتوى نظراته السامية في الفن الذي وجد فيه شيئاً أسمى من الفلسفة. فالفيلسوف قد يُدرك المثل الأعلى ويفهمه ويقف عند ما وصل إليه عقله. أما الفنان فهو يأخذه ليسكبه في قوالب مادية، وهو في خلقه وابداعه لا يقلد الطبيعة، ولكنه يقلد ذلك الفكر الجبار الذي أبدع الطبيعة
عنت (لشيلنج) يوم كانت تربطه الصداقة بالشاعر (شيلجل) فكرة شعرية سامية في مناجاة الطبيعة، وبدأ يكتب مطلعها ثم بدا له شيء صرفه عن فكرته، وكأن هذه الفكرة الشعرية ظلت راسخة في تلافيق فكرة تتصرف بشعوره وتفكيره حتى إذا نضج عقله وتكشفت فلسفته جاءت وهي أدنى إلى الشعر والفن منها إلى الفلسفة المجردة
يتبعخليل هنداوي