الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 80/القصص

مجلة الرسالة/العدد 80/القصص

بتاريخ: 14 - 01 - 1935


مدام بوفاري

لجوسناف فلويبر

تعليق وتلخيص محمد سليمان علي

قسم الكاتب الخالد قصته الخالدة إلى ثلاثة أقسام:

فالقسم الأول يصف نشأة مسيو بوفاري إلى أن احترف منهة الطب، وبين كيف اهتمت به أمه، وكيف زوجته من أرلملة سنها همس وأربعون سنة ودخلها مئتان وألف فرنك. وقد ظن المسكين أنه سيبدأ بزواجه عهداً مستقلاً سعيداً، ولكن امرأته اثبتت أنها (الفرس الأقوى)، ففي المجتمعات يجب عليه أن يقول هذا ويمسك عن ذاك؛ وكان لزاماً عليه أن يصوم ل يوم جمعة، وأن يلبس ما تشير به، وأن ينفذ أوارمها فيما يتعلق بالعملاء الذين توانوا عن الدفع، وكانت تفتح رسائله وتنصت من وراء الحاجز حين يختلي في غرفته الخصة بالعملاء إذا كن نساء

ذهب يوماً يعود مريضاً فأعجبته ابنته (إما) ذات العيون العسلية التي تبدو لطول أهدابها سوداء؛ وعاد بوفاري مريضه وكرر العيادة، ثم ماتت زوجه فترزوج (إما) وكان سعيداً، (كان العالم ينحصر في نظرة في محيط أثوابها. وكان يؤنب نفسه لعدم حبه إياها حباً أثر؛ وأحياناً كان يعود بعد خروجه ليراها ثانية وهي ما تزال في غرفتها تلبس، وبيتما كان يقبلها في أسقل عنقها، كانت تصيح هي في وجهه)

وكانت قبل زواجها تظن أنها تحب. ولكن السعادة التي كانت تتوقعها من الحب لم تظفر بها فظنت أنها خدعت، ووطنت العزم على أن تكتشف تماماً معنى هذه المدلولات: السعادة، الأهواء، النشوات: التي كانت إلى ذلك الوقت تبدو ها جميلة على صفحات الكتب

وانهارت أحلامها في الحي وشهر العسل والزواج، وأخذت تنسج لنفسها أحلاماً أُخر. وبقدر ما كانت علاقتها الزوجية تتوثق كان في نفسها تنافر داخلي ينمو ويزداد

(كان حديث شارل عمومياً كأفريز شارع تمشي عليه أفكار كل انسان , اي إنسان في أثوابها العادية دون أن تثير عاطفة أو ضحكاً أو تفكيراً. كان يقول إنه أثناء غقانته في (روان) لم يجد لديه ما يدفعه إلى الذهاب إلى المسرح ليرى الممثلين من باريس. ولم يكن يعرف السباحة ولا لعب السيف ولا إطلاق الغدارة؛ وفي ذات يوم لميستطع أن يشرح عبارة خاصة بركوب الخيل قرأتها في قصة: أما يجب على الرجل أن يعرف كل شيء وأن يعلم المرأة انبساط الأهواء ولذائذ الحياة وأسرار العيش؟ ولكن شارل ما علم شيئاً وما عرف شيئاً، وما رغب في شيء. كان يعتقد أن زوجه سعيدة وهي تتعذب تحت هدوئه الذي لا يضطرب وسكينته التي لا تخف)

وبرغم ذلك كانت تمحنه حبها. ففي الحديثة، في الليالي المقمرة، كانت تعيد على سمعه كل الأغاني الوجدانية التي حفظتها عن ظهر قلب. ولكنها في النهاية لا تجد زوجها ازادا غراماً ولا حماسة. (ولما ضربت زماناً على الصخرة الجائمة على قلبها دون أن تبعث منها شرارة ما، كانت تجد صعوبة يسيرة في إقناع نفسها بأن غرام شارل لا يعد مفرطاً بعد)

وعكفت على قراءة مجلات السيدات والأزياء والأثاث ابتغاء التسلية، وعلى قراءة بلزاك وجورج ساند لتنقب فيهما عن الأرضاء الخيالي لأهوائها الشخصية. وكانت ذات أطماع: لِمَ لم تكن زوجة لعالم يدوي اسمه في كل مكان؟ وبدأت تكره زوجها لقلة طموحه وأصبحت تجد حياتها مملة جوفاء

والحق أنها كانت تنتظر حادثاً في حياتها. كانت تصحو إذا تنفس لصبح فتظن اليوم قد حل. وتنصب إلى كل حركة، حى إذا جاء الغروب أمست احزن من قبل، وحنت إلى الغد.

ولما كانت تضجر من دمينة (توست) ظن زوجها أن سبب الداء حادث محلي. وقرر أن ينتقل إلى بلدة (بونفي - لاباي)

وفي لقسم الثاني يصف الانتقال الى البلدة الجديدة، وتعارفهما لصيدلي هوميه وليون كاتب المحامي. ويبدأ الحديث بين هذا وبين مدام بوفري فيكتشفان بينهما نماذجاً في الأفكار وتشاركا في العواطف، فكلاهما يحب الطبيعة والموسيقى، فمدام بوفاري تقول:

- آمل أن أجد طرقاً جميلة في هذه الانحاء

- يؤسفني أن أقول إنها قليلة. هناك مكان يدعونه (المرعي) فوق مرتقى التلال، عند حافة الغاب، ولقد طالما قصدته في الآحاد ومعي كتاب كي أرى الغروب

- لست أظن أن هناك ما هو أجمل من الغروب، ولاسيما عند شاطيء البحر

- أوه، إنني أقدس البحر! - ألا تظن أن العقل يبدو أكثر حرية حين نواجه ذلك الخضم غير المحدود، وأن أرواحنا لتتسامى حين نسبح في تأملاته، وأنه يوحي إلينا بالأفكار عن المثل العليا وعن اللانهاية؟

- كذلك الحال في مناطق الجبل

واندفعا يتحدثان عن الموسيقى الألمانية، والأوبرا الايطالية، إلى أن قال زوجها رداً على كلمة لهوميه عن تنسيق الحدائق:

- زوجتي لا تُعني بذلك، إننا ننصحها بالرياضة، ولكنها تفضل أن تظل في غرفتها تقرأ

وقال ليون - هذا ما أفعل. وإني لعلي يقين بأنه ما من شيء يفوق الجلوس في المساء بجوار الموقد مع كتاب نفيس، بينما الريح تسفع زجاج النوافذ، والمصباح يضيء ويلمع في الغرفة

وقالت وهي تحدجه بعينها السوداوين النجلاوين - هذا ما يختلج بنفسي

- وينسي المء كل شيء بينما الساعات تتعاقب. ويجول في البلاد التي يظن أنه يراها، وأما أفكاره التي تحملها الحوادث المختلفة فانها تجد اللذة كل اللذة في كل تفصيل، أو تتبع سير المخاطرات والحوادث، وتصبح جزءاً من الشخصيات المختلفة، ويتخيل المرء أن نفسه هي التي تتنفس في ملابسهم)

وضعت مدام بوفاري طفلة سمتها برتا وتركتها عند امرأة ترضعا وكان ليون يفكر فيها وهي تفكر فيه، وتراقبه وهو يمر تحت نافذتها إلى محل عمل مرتين كل يوم. وكانوت أحياناً يجتمعون في المساء، بوفاري وهو مييه يلعبان الورق، أما ليون فينصرف إلى الحديث مع دمام بوفاري

وأخيراً قرر أن يصرح لها بحبه. إلا كلما عزم لا يجد الشجاعة. وكان يكتب الرسائل ثم يمزقها. وكانت شجاعته تفارقه في حضرتها، أما هي فلم تسأل نفسها إن كانت تحبه، ففي اعتبارها أن الحب يأتي فجأة ع دوي قاصف وبرق خاطف، عاصفة من السماء تهب على الحياة فتقلبها رأساً على عقب، وتعبث بالارادة كما يحمل الهواء ورقة جافة وتلقي بالقلب في هوة ما لها من قرار

ولكنها كانت تراه يتقرب اليها، وتحصى حركاته وكلماته عندما تستلقي على فراشها، وتستعيد نظراته ثم تقول لنفسها وهي تضم شفتيها كأنما تتأهب لقبلة (ما أبهج ذلك! أهو لف؟ وبمن إن لم يكن بي؟) ولكنها لم تشجعه. وتظاهرت بأنها تحب زوجها. وكانت كلما أحست بأنها تهواه، قاومت لتقلل من شعورها. وكانت تأمل من ليون أن يفهم ذلك. وكلما همت بتأنيب نفسها عادت تفتخر وتقول لنفسها (إنيي شريفة)

وأخيراً ظن الشاب أنها لا تريده فترك البلدة إلى باريس

يلي ذلك لقاؤها بمسيو رودولف بولانجيه الساب الغني الجميل لخبير بالنساء والغرام. يقرأ في عينها مللها من حياتها وزوجها فيرغب فيها ويضع لذلك خطة محكمة وتساعده الظروف فيظفر بها. وتبدأ حلقة من الحب القوي المشبوب الجارف. وتندفع المرأة حتى تصل إلى درجة التهور. ولما ازدادت لعاشقها حباً ازدادت لزوجها مقتاً. ولأجل عشيقها الذي يملك ثروة من التجربة أخذت تعتني بنفسها وتبالغ في الزينة والتأنق. وأعطته مفتاح الحديقة الخلفي، فكانا يتقابلان طرفاً من النهار وزلفاً من الليل، وفي يوم حضوره كانت تملأ الغرفة بالأزاهرن وتتزين بكا ما تملك من حلي. ولم يعاتبها شارل على تبذيرها قط

وكان ليريه البائع المتجول يجلب اليها كل ما تطلب ويغريها بطلب المزيد، وما عليها إلا أن توقع على صكوك يقدمها لها فيصبح العزيز ملكاً لها. ولما ألح في طلب نقوده بعد زمن؛ دفعت له مالاُ أتى لزوجها من عميل، ولم تخبره بذلك

- (حينما تدق الساعة اثنتي عشرة مرة في الليل يجب أن تفكر في). فاذا اعترق لها بأنه لم يفعل كانت تؤنبه، ثم تختم بكلمتها الأبدية

- (أمغرم بي أنت؟)

- (أجل. طبعاً)

- (كثيراً؟)

- (ما في ذلك شك)

- (ولم تحب غيري، عل فعلت؟)

- (اتظن أني كنت عذراء حين تلاقينا.)

ثم تبي فيترضاها فتقول:

- (ذلك لأني أحبك كثيراً. أحبك حتى لا أطيق الحياة بدونك. وأحياناً أقول لنفسي. أين هو؟ ربما ينعم بالحديث مع نساء أخريات. هن يبسمن له وهو يدنو منهن. ولكنك لا تهتم بهن، أليس كذلك؟ كثيرات من يفقنني حسناً، ولكني اتن الحب أكثر منهن. إنني خدمتك وخليلتك، وأنت مليكي ومعبودي. كم أنت رحيم وجميل وماهر وقوي!)

وبدأ المعبود كعادته يسأم العاطفة العارية والكلمات المعادة.

ولما عيل صبرها من زوجها وأمه، قررت الفرار مع عشيقها وأخبرته بعزمها. فأخذ يسوف ويؤجل، وهي تؤمل وتستعد. وأخيراً حل الموعد المضؤوب، وبدلاً من ان يحضر أرسل اليها كتاباً يخبرها فيه بأنه لأجلها لن يطاوعها على فكرتها، ويريها أن فرارها معه عاقبته في النهاية وخيمة عليها، ويختمه بقوله: (. . . إنني أعاقب نفسي بالنفي للضرر الذي سببته لك. سأذهب بعيداً. لا أدري أين. لا تنسي الرجل البائس الذي تسبب في شقائك، وعلمي ابنتك اسمي حتى تذكره في صلواتها. وحين تقرئين هذه الأسطر البائسة أكون بعيداً، إذ يجب أن أتجنب الأغراء حتى لا أراك ثانية. كوني شجاعة. سأعود، وربما نستطيع بعد أن نتحدث بهدوء عن حبنا الأول، وداعاً. . .)

ولما قرأت الخطاب أغمى عليها، ومرضت ثلاثة وأربعين يوماً. وفي اثناء ذلك استدان زوجها ثمن الأدوية، وتدخل (ليريه) وتمكن أن يجعل بوفاري يوقع على كمبيالة لمدة ستة أشهر بالأشياء التي أخذتها مدام بوفاري. وبعدها طلب بوفاري من الرجل ألف فرنك يدفعها بله بعد سنة سبعين وألفاً

وأخيراً تحسنت صحتها قليلاً ولكنها أحست الزهد، وألح زوجها أن تحضر حفلة تمثيل في روان وهناك قابلا ليون

وفي القسم الثالث تبدأ مع ليون على أنقاض الغرام الأول حلقة غرام آخر مستهتر عنيف. والق أنها قاومت في مبدإ الأمر. فهي ما زالت متشائمة خائرة تحت تأثير الصدمة الأولى. إلا أن ليون الذي غيرته الحياة الباريسية حملها في تيار جارف. وفي فند في المدينة أخذا يلتقيان يوماً كل أسبوع. وكانت تتذرع أمام زوجها بأنها تتلقى دروساً في البيانو على معلمة في روان

واندفعت مرة أخرى في شراء هداياها فزادت ديونها وتعددت الصكوك وذاق ليون معها للمرة الأولى رقة الاناقة النسوية التي لا يعبر عنها وصف، وأصبحت لا غنى لها عن لقياه، وكانت تذهب لتدهوه من محل عمله، وترتعش إذا فكرت أن حبه قد يتلاشى يوماً ما وبدأ ليريه يحاصرها مطالباً بنقوده، عارضاً كمبيالات أخرى، وخضعت لسحر النقود فأخذت توقع عليها وتندفع في متعتها

وأخيراً حول ليريه بضعاً من هذه الكمبيلات غلى مالي آخر. ولما ذهبت تسأله جلية الخبر جعلها توقع على أربع كمبيالات أخر. وأخذت ترسل إلى عملاء بوفاري المدينين وتطلب النقود منهم وترجوهم ألا يخبروه (لأن ذلك يؤثر في كبريائه.)

وفي ذات يوم استلمت ورقة حجز رسمية. وأرسلت لليريه وهي دهشة. وصارحها الرجل بأن ذلك هو السبيل الوحيد لاسترداد نقوده. ولم يقبل منها أي توسل أو رجاء

وذهبت على عجل إلى ليون وطلبت منه أن يبحث لها بأي وسيلة عن ثمانية اآف فرنك فلم يفلح، فعادت أدارجها ذاهلة مدحورة. وفي الصباح التالي نشر الاعلان الرسمي للحجز في الميدان

ونصحتها خادمتها أن تذهب إلى مسيو (جيللومين) المحامي الغني. فذهبت تشكو إليه ليريه وقصت عليه المسألة فقال:

- ولكن لِمَ لم تخبريني السبب؟ لماذا. . . . أخائفة أنت مني؟ أرجح ان لدي عذراً للشكور. فما نكاد نتعارف، لكني أعترف لك بأني أشد العبيد تفانياً، وأملي ألا يخامرك في ذلك شك

وأسك بيدها وانكب يقبلها بشراهة، وأبقاها على ركبته، بينما كان يعبث بأناملها، وأحست بأنفاسه على خدها، وقالت:

- (سيدي أني أنتظر) وشجب وجه الرجل فجأة وقال (ماذا؟) قالت: - (النقود.)

فقال: (لكن. . .) ثم أجاب الرغبة الحادة قائلاً:

(حسن. أجل!) وركع وهو يقول (بحق الرحمة، امكثي!)

ووق خصرها بذراه. فاندفع الدم إلى وجهها وتراجعت قائلة:

لا! سيدي أنت تنتهز خطورة مركزي بحماقة. إنني أستحق الرحمة، ولني لست للبيع.) وخرجت في ثورة من الهياج والغضب وخطره لها فجأة أن تذهب الى رودولف. فدهش لرؤيتها. ولم تخبره بمطلبها باديء الأمر. ورحب بها وأظهر أسفه لانفصالهما واندفع يقول إنها المرأة الوحيدة التي أحبها ورجاها أن تخبره بما يزعجها. ولما طلبت منه أن يقرضها ثلاثة الأف فرنك تراجع وأخبرها بأن هذا المبلغ غير موجود لديه فقالت: (ليس لديك! كان الأحرى أن أوفر على نفسي هذا الذل. لم تحبني بتاتاً، ولست خيراً من اآخرين.)

وخرجت وهي تكاد لا تعي. ومر امامها الماضي سريعاً. وشعرت بأنها ستجن، وبأن روحها تتسرب منها كما ينزف الدم من الجريح. وأخيراً دخلت من الباب الخلفي لصيدلية (هوميه) وهو يتعشى. واستطاعت أن تحصل على مقدار من السم. وعادت إلى منزلها. وجدها زوجها المسكين تكتب خطاباً، ولما سألها عما حدث اجابته مشيرة إلى الخطاب (يجب أن تقرأ هذا غداً.) ورجته أن يتركها وحدها، استلقت على الفراش، وبدأت تظهر عليها أعراض السم، وأحست بالظمأ وبطعم الحبر. وسألها زوجها عما تشكو فلم تجب. وبعد قليل بدأ القيء. وأصبح وجهها أزرق اللون، وأخذت أسنانها تصطك، وبصرها يضطرب، ولما عاد يسألها في قلق أشارت إلى الخطاب. ولما قرأه صرخ طالباً المعونة. وحضر الصيديلي هوميه، وأرسلا إلى طبيبين، واضطربا في غمرات من الدهشة الذاهلة. ثم اتمى شارل على الفراش ينتخ. فقالت له:

- لا تبك، فلن أحتمل زيداة على ذلك

- لماذا؟ ما الذي دفعك إلى ذلك؟

- كنت مرغمة يا صديقي

- أما كنت سعيدة؟ أهي غلطتي؟ لقد فعلت كل ما أستطيع

- بلى ذلك حق. . . أنت طيب جداً

وعز على الرجل فراقها وقد أقرت أنها أجبته أكثر من أي لحظة خلت. لم تعد تره أحداً الآن. والصوت الدنيوي الوحيد الذي كانت تسمعه هو عويل قلبها المسكين، الذي كان هادئاً خافتاً، كالصدى الأخير لموسيقى بعيدة. وقال وهي ترفع نفسها على مرفقها (أحضروا طفلتي.)

وحضرت وخاطبتها ثم أبعدتها. وأتي الطبيب، ولكنها بدأت تبصق دماً. وبدأت أعضاؤها تتشنج، وتغطي جسمها بقع سمراء - وحضر الطبيب الآخر فرآها ثم قال لزوجها:

- كن شجاعاً يا صديقي المسكين فما نستطيع شيئاً

ماتت المسكينة فأخذ كل شخص يشتغل الموقف. معلمة الموسيقى تطلب أجر ستة شهور مع أن مدام بوفاري لم تأخذ درساً واحداً، وصاحب المكتبة يريد اشترا ستة شهور الخ

وأرسلت مدام ديبوي تنبئه بزواج ليون ديبوي بالآنسة ليو كادي ليبوف. وكتب شارل يهنئها ويقول:

(لشد ما كان يسعد زوجتي أن تعلم ذلك!)

وفي ذات يوم وهو يهيم بالمنزل عثر في الغرفة العيا على كرة من الوق لرفيع، فتحها فاذا بها خطاب رودلف الأخير؛ وكانت صدمة عنيفة. رأى حرف (ر) وعرف من هو؛ ولكنه عاد يقول: ربما كان ذلك تجاذباً روحياً فحسب. لقد كانت محبوبة من كل إنيان

ولكي يسعدها وهي ميتة كان يعيش كما كانت تهوى وتفكر. كان يلبس أحذية لامعة. وربطات رقبة بيضاء، ويضع على شاربه الأصباغ، ويستدين المال بالكمبيالات - وبالجملة كانت تئثر فيه من وراء اللحد

واضطر أن يبيع الأثاث. إلا أنه لم يمس غرفتها بل ظلت كما كانت. وكان يذهب اليها دائماً بعد العشاء، ويضع المنضدة المستديرة بجوار المدفأة وكرسيها بجانبها وكرسيه بالجانب اآخر؛ واحتراماً لها لم يفتح درجها السري الخاص. ولكنه جلس أمامه يوماً وفتحه. وكانت خطابات ليون فيه. فقرأها وأخذ يبكي ويصرخ، ثم وجد رسائل رودولف وصورته أيضاً

ودهش الجميع للانحطاط الذي عراه، وانقطع عن الخروج ورفض أن يعود مرضاه. ولكن بعض المطفلين كان يتسلق سور الحديقة المرتفع ويدهش إذ يرى الرجل في ثياب رثة، وجال سيئة. وفي الأماسي الصيفية كان يصطحب ابته إلى المقبرة، فلا يعودان إلا بعد أن يسدف الليل

وذهب يبيع جواده فقابل رودلف، فدعاه هذا في جرأة ليشرب زجاجة من الجعة بالحانة. وامام الرجل تاه شار في أفكاره. وأمام الوجه الذي أحبته كاد يظن أنه يرى شيئاً منها.

كان ذلك عجباً. وأوشك أن يتمنى أن يكون ذلك الرجل. ولم يصغ لحديثه، ولكنه قال أخيراً:

- (إنني لا أحمل لك حقداً) ووضع رأسه بين يديه، وقال في صوت ضعيف: (لا أحمل لك حقداً). ثم أضاف هذه اللمات الرفيعة وهي المرة الوحيدة التي قال فيها شيئاً غير عادي: - (وكانت غلطة القدر)

وفي الساعة السابعة من اليوم التالي وكان جالساً على مقد في مشى الحديقة جاءت برتا الصغيرة التي ل ـره منذ الأصيل لتدعوه الى العشاء. وكان رأسه مسنداً الى الحائط، وعيناه مغمضتين، وفمه مفتوحاً، وخصلة من الشعر الفاحم في قبضة يده، وقالت (تعال يا أبت.) وظننته يريد أن يداعبها، فدفعته بلطف فسقط على الأرض ميتاً!

محمد سليمان علي