الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 8/فلسفة التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 8/فلسفة التاريخ

بتاريخ: 01 - 05 - 1933


مقدمة

الفلسفة هي محاولة إيجاد قانون واحد شامل ينتظم الكون بأسره وتخضع له جميع الحوادث. فالعلوم تبحث عن الجزيئات والفيلسوف يستخرج من جزيئات العلم كليات الفلسفة.

وقد حاول الكثيرون أن يبحثوا في التاريخ من ناحيته الفلسفية وكدوا أذهانهم في البحث عن سبب واحد يعللون به جميع حوادث التاريخ وتطوراته من يوم ولد إلى يوم يموت فوصلوا إلى نتائج مختلفة وأسباب متشعبة.

التفسير الاقتصادي للتاريخ

كان من بين النظريات التي اهتدى إليها البحث نظرية (التفسير الاقتصادي للتاريخ) ومن أكبر دعاتها الفيلسوف الاشتراكي كارل ماركس. وخلاصة هذه النظرية أن العوامل المادية كانت دائما الدافع الأول والمباشر لكل حوادث التاريخ فالإنسان الأول لم يلجأ إلى تكوينالجماعات إلا ليسهل على نفسه سبل العيش، والجماعات لم تنقسم إلى دول وشعوب إلا لاختلاف مصالحها الاقتصادية ونشوء الدول وتطورها وسقوطها يرجع إلى أسباب اقتصادية بحتة والحروب والغزوات والهجرات لم تقم إلا على أسباب مادية خالصة.

ولأصحاب هذه النظرية شواهد تاريخية كثيرة تسند رأيهم وتعزز قولهم فالانقلاب الصناعي الذي حدث في أوروبا في القرن الثامن عشر كان له أكبر الأثر في تطور الشعور الديني عند مختلف الطبقات، وقد انتهى بضعف النزعة الدينية وتقوية شوكة الإلحاد. والحرب الأوربية الكبرى عام 1914 أقرب مثال لتأثير التطور الاقتصادي في تيار السياسة ومجراها. خرج الرجال إلى ميادين القتال فبرز النساء إلى ميادين العمل يملأن المصانع بأيديهن العاملة ويقمن بالحركة التجارية على أكمل وجه وقد قل بذلك اعتماد المرأة على الرجل، وتغير موقفها الاقتصادي نحوه فطالبت بحق التصويت. وسرعان ما احتلت مقعداً بين النواب بل وارتقت إلى كرسي الوزارة. وقد كان لهذا الانقلاب الذي طرأ على مركز المرأة الاجتماعي أثر كبير في تغيير القوانين والآداب والفنون وجميع المرافق الأخرى التي قد تبدو عديمة الاتصال بالحالة الاقتصادية. وهكذا تم تحرير المرأة عندما قل اعتماده الاقتصادي على الرجل ولم تكن لتحصل على هذه الحرية بتأثير كتابات أفلاطون وجون ستيوارت مل وغيرهما ممن ذاد عن حرية المرأة ودافع عن كرامتها. وكانت الطهارة والعفاف من فضائل المرأة الكبرى التي فرضها عليها الرجل حينما كانت تعتمد عليه، وكان تفريطها في عرضها جريمة كبرى في نظر الرجل لا تقاس بها جرائمه التي يرتكبها في هذا الاتجاه مهما كانت جليلة خطيرة، فلما تحررت المرأة قلت مسئوليتها عن عفافها وكادت تساوي مسئولية الرجل.

والواقع أن كثيرا من آدابنا العامة وفلسفتنا الخاصة يخضع لتأثير العوامل الاقتصادية كل الخضوع فالقناعة والرضا بالأمر الواقع والتواضع والخنوع فضائل إرتآها الأغنياء للفقراء وفرضوها عليهم فرضا فاتخذوها هؤلاء على مر الزمن مبادئ ثابتة لهم تحت تأثير سلطة الأغنياء وبدافع ما يسميه ماكدوجل (الشعور بالذات السلبي) - وهو شعور عكسي يدفع المرء لا إلى التغلب على غيره بل إلى الاستكانة والخضوع.

التفسير المادي للتاريخ

ومن الباحثين من كان تحت تأثير الفلسفة المادية فأرجع التاريخ إلى أسباب مادية، وإن تكن غير اقتصادية (والمادية في الفلسفة معناها أن جميع ظواهر العقل والفكر إما طبيعية أو ترجع إلى أسباب طبيعية) ومن هؤلاء بكل الذي يقرر أن المناخ هو العامل الأكبر في تقلبات الحوادث فالحضارات القديمة إنما نشأت في الجهات الحارة مثل مصر والهند وآشور وغيرها لسرعة نمو النباتات في تلك البلاد وسهولة العيش تبعا لذلك وكلما ارتقى الإنسان في سلم التطور انتقلت مراكز حضارته إلى البلاد الباردة. ويعزز لك سير المدينة شمالا من مصر إلى بلاد اليونان والرومان إلى أواسط أوربا وإنجلترا والسويد والنرويج حيث هي اليوم. ومن هؤلاء أيضا فرويد الذي يرى إن العلاقات الجنسية هي أساس كل ما يصدر عن الإنسان من حركات وأعمال. فنحن إذن نستطيع أن ننظر إلى التاريخ من عدة نواح مادية (أي طبيعية) ولكنها ليست اقتصادية ولا تتفق مع تفسير ماركس للتاريخ. ونظرية التفسير المادي للتاريخ تختلف إذن كل الاختلاف عن المادية في الفلسفة ولابد من فصل الواحدة عن الأخرى.

العواطف وأثرها في التاريخ رغما عما للعوامل الاقتصادية والأسباب المادية التي ذكرناها من الأهمية العظمى في تكييف السياسة وتحديد معتقدات شعب من الشعوب فإننا لا يمكن أن نتجاهل بعض العوامل الأخرى التي كان لها أكبر الأثر في تاريخ الإنسان وحياته العامة.

(أ) وأشد هذه العوامل وضوحا وأكثرها إهمالا من جانب الاشتراكيين اتباع كارل ماركس عامل القومية، فكثيرا ما تعارضت القومية مع المصلحة الاقتصادية وتغلبت عليها فتريستا مثلا كانت تعد نفسها قبل الحرب العظمى إيطالية مع أن مصلحتها الاقتصادية كميناء تتوقف على تبعيتها للنمسا، ولكن نظراً لأن أكثر سكانها من الإيطاليين فقد كانت تضحي بفائدتها المادية في سبيل إشباع شعورها القومي. كما أن انفصال دول البلقان عن بعضها أدى إلى ضعفها الاقتصادي ومع ذلك فقد تم الانفصال تحت تأثير عوامل عاطفية قومية بحتة.

وقد كان العمال أثناء الحرب العظمى يسيرون مندفعين وراء شعورهم القومي متناسين رأيهم الاشتراكي الذي كانوا ينادون به (يجب أن يتحد العمال في جميع أنحاء العالم) تجاهل العمال هذا المبدأ حيناً، ووقفوا في ميدان القتال وجها لوجه للمحافظة على حدود الوطن وتلبية لداعي القومية. وقد يعترض أصحاب فكرة التفسير الاقتصادي على ذلك فيقولون، إن العمال كانوا يستمعون في هذا القتال لنداء أصحاب رؤوس الأموال الذين رأوا في الحرب فرصة للصيد في الماء العكر، وتكديس الأرباح والمكاسب ولكننا لا نقيم لهذا الاعتراض وزنا إذا عرفنا أن كثيراً من الرأسماليين هووا إلى الإفلاس أثناء الحرب.

(ب) ومن العواملذات الأثر البين في التاريخ المنافسة وحب السيطرة. فالمنافسة التجارية بين إنجلترا وألمانيا كانت سبباً هاماً في نشوب الحرب الكبرى، والمنافسة كما نعلم غريزة من غرائز الإنسان المتعددة تظهر بأشكال مختلفة وقد كان هذا الوجه الاقتصادي الذي ظهرت به قبيل الحرب أحد هذه الأشكال فلا يمكننا إذن أن نعد هذا السبب من أسباب الحرب من بين العوامل الاقتصادية فقد كان بوسع أصحاب الأموال من إنجليز وألمان أن يتحدوا ويتعاونوا فيجنوا من وراء ذلك الأرباح الطائلة، ولكن غريزة المنافسة غلبت عليهم فتجاهلوا مصلحتهم الاقتصادية واندفعوا وراء غرائزهم الوحشية.

هذا وقد دفعت غريزة السيطرة وحب القوة الإسكندر وقيصر ونابليون وغيرهم إلى تملك ناصية العالم، ولم يكن هؤلاء الرجال يرمون إلى زيادة ثروتهم وممتلكاتهم، وإنما كانوا يشبعون غرائزهم ويبذلون أرواحهم في سبيل منافسة خصومهم والتغلب عليهم، أن الدنيا لو خلت من خصم لهم لتلمسوا المعاذير وخلقوا أسباب الخصومة خلقاً، جريا وراء النصر وحب التغلب!

وكيف يمكننا أن نتجاهل العاطفة الدينية وما كان لها من أثر في حروب دموية طويلة عند ظهور الإسلام وبين المسلمين والصليبيين. وكثيراً ما اتحدت الجماعات المختلفة بتأثير العامل الديني رغم ما كان بينها من فوارق اقتصادية وإنا لنجد العامل الكاثوليكي في أوربا يصوت لرأسمالي كاثوليكي ولا يصوت لاشتراكي ملحد رغم اتفاقه وإياه في آرائه الاقتصادية فطبقة العمال تنظر إلى رفع عماد الدين قبل أن تنظر إلى تحسين حالتها المعيشية.

الفلسفة وأثارها في التاريخ

وكثيراً ما كانت لآراء الفلاسفة نتائج عملية في توجيه السياسة. وليس أدل على ذلك مما كان لتعاليم روسو من أثر قوي في مجرى السياسة العالمية، مما أدى إلى قيام الثورة الفرنسية وما استتبعها من تطورات كما أدى إلى مناداة الولايات المتحدة بحريتها ومطالبتها باستقلالها.

علم النفس وضرورته لتفسير التاريخ

وأخيراً فأن التاريخ يحتاج كما تحتاج جميع مظاهر الحياة إلى معونة علم النفس لتفسيره وتحليل أسبابه وقد أظهرت المباحث الحديثة في هذا العلم أن الأعمال التي ترتكز على أساس من العقل والفكر ليست إلا قطرة حقيرة في خضم الأعمال التي تنبعث عن الشعور متأثرة بأسباب غير معقولة وكثيراً ما تغير وجه التاريخ لأسباب مجهولة نبعت عن دوافع لا شعورية عند بعض الزعماء وعظام الرجال، ولكن ماركس كان متأثراً بآراء علماء النفس في القرن الثامن عشر حينما كان يبحث عن أسباب معقولة يفسر بها حوادث التاريخ فهداه البحث إلى العامل الاقتصادي وعليه بنى نظريته في الاشتراكية زعماً منه أن المساواة الاقتصادية تدعو إلى إيقاف التطاحن والحرب بين البشر.

محمود محمود محمد. ليسانسيه في التربية والتاريخ