مجلة الرسالة/العدد 798/رحلات في ديار الشام في القرن (الثامن عشر
→ شعوب القوقاز | مجلة الرسالة - العدد 798 رحلات في ديار الشام في القرن (الثامن عشر [[مؤلف:|]] |
أذلاء صهيون. . . ← |
بتاريخ: 18 - 10 - 1948 |
الهجري)
اردان حلة الاحسان في الرحلة إلى جبل لبنان
لمصطفى البكري الصديقي
(1099هـ - 1163هـ - 1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
لا شك أن الدافع لرحلة الشيخ هذه وغيرها من الرحلات، ولتنقلاته المستمرة في المدن والقرى، إنما كان حرصه على نشر الطريقة الخلوتية والاتصال بأعوانه ومريديه. ولقد كان الشيخ مكثارا في النظم والنثر، بل إنه أؤلف الكتاب أو الرسالة في أية مناسبة. ولا شك أن نظمه ونثره يمثلان عصره أصدق التمثيل فقد امتاز هذا القرن بالسجع، والركاكة في الأسلوب، كما تبين من دراسة رجال هذا القرن في كتاب أعيان القرن الثامن عشر للمرادي.
ولقد انتقل الشيخ من دمشق إلى القدس وتزوج فيها وتتلمذ على شيوخها وامتد نفوذه فيما بعد إلى جمع أنحاء فلسطين، وإلى سوريا بل وحتى إلى مصر والعراق.
وقد ساهم في الحياة العامة في فلسطين فعمر الحرم القدسي خلوة، وبئراً، وحاول أن يصلح البراغتة شيوخ بني زيد وكانوا قد اختلفوا فيما بينهم، كما شوق الحاج حسن بن مقلد الجيوش لزراعة الأشجار المثمرة، حول قبة الصحابي سراقة في (كور) من أعمال قضاء بني صعب.
ويستدل من رحلته هذه أن حالة الأمن لم تكن مرضية في زمنه، فقد جاء ذكر تعدى الأعراب على القوافل بين الخليل وعسقلان، كما تعدوا على الشيخ القاقلاني مفتي الديار القدسية، فسلبوه بعض ثيابه وما كان يحمل من الكتب.
ويلاحظ أيضا أن الشيخ كان يغير طرق سيره، فبدلا من أن يسلك الجادة السلطانية بين القدس والخليل ماراً بيرك سليمان، غير طريقه إلى بني حسن وهي ناحية إلى الجنوب الغربي من القدس مخافة قطاع الطريق.
ويستدل من وصف الشيخ لبعض المدن التي اجتازها أن (حاصبية) كانت حينذاك قرية يقطنها الدروز وهي الآن مئة وخمسون ألفا، لم تكن سوى قلعة حصينة على ساحل البحر المتوسط. ووصفه هذا لحيفا ينطبق على وصف معجم البلدان، بعض الشيء. فقد جاء في معجم البلدان (ج2 - ص382): (حيفا غير ممدود، حصن على ساحل بحر الشام قرب يافا، لم يزل في أيدي المسلمين إلى أن تغلب عليه كندفري الذي ملك بيت المقدس سنة (494هـ) وبقى في أيديهم إلى أن فتحه صلاح الدين في سنة (573هـ) وخربه).
ويصف لنا الشيخ زيارته أكثر من مرة للخليل، ويذكر كرومها، ويستدل من هذا أنها كانت محاطة بكروم العنب وهو حالها اليوم.
ويذكر الشيخ فيما يذكر أن الأمر السلطاني صدر باسم والدته لتعير قناة الماء إلى الحرم القدسي. وهذه القناة ليست حديثة فقد جاء في الأنس الجليل ج2 - ص387 عند ذكر الأمير تنكر الناصري نائب دولة المماليك في الشام (وهو الذي عمر قناة الماء الواصلة إلى القدس، وكان ابتداء عمارتها في شوال سنة (727هـ) ووصلت إلى القدس ودخلت إلى وسط المسجد الأقصى في أواخر ربيع الأول سنة (728هـ) وعمل البركة الرخام بين الصخرة والأقصى) وتعرف هذه الآن بالكأس، ويظهر ان هذه القناة خربت، فعمرت مدة ثانية كما يذكر الشيخ. وهذه القناة تمتد من برك سليمان إلى الحرم وتسيل بالانسياق لعلو برك سليمان عن الحرم القدسي، وهي من حجر.
والظاهر أن الشيخ كان أباً عطوفاً، فقد سر كثيراً بابنته (علما) وحزن حزنا عميقا عند وفاتها وهي لا تزال طفلة، فقد سر وقد رزق ولده محمد كمال الدين في القدس. ولقد كان الشيخ يزور مقام (علي بن عليل) وهو من نسل عمر بن الخطاب، ويعرف بسيدنا علي بن عليم عند العامة، وله موسم يقصده الزوار كل عام.
ويسجل الشيخ بألم ظاهر في هذه الرحلة وفاة فطبين عظيمين تتلمذ عليهما، وكان يحترمهما أبلغ احترام أولهما الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي القطب الكبير وصاحب الرحلة إلى القدس سنة (1101هـ) ويعتبر الشيخ من أخلص تلاميذه، والثاني العمراني، والمؤلف القطب، وهو من أبرز رجال القرن الثاني عشر في فلسطين.
وفي الرحلة فوائد أخرى على رغم ركاكة الأسلوب، وتكرار السجع الممل، وانصراف الشيخ إلى نزعته التصوفية القوية، وفيها بعض معلومات عن أصل سكان (الطيبة) من أعمال طولكرم، ونسب البراغثة في جبل القدس، وعن وقف قرية (عابور) في بني زيد للحرمين الشريفين، وما إلى ذلك.
ومن لطائف المصادفات أن يحضر إلى الديار القدسية الرحالة المصري الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي، سنة (1143هـ) وينزل عند الشيخ، ويأخذ عنه الطريق ثم يصف لنا لقاءه الشيخ في رحلته المخطوطة، (سوانح الأنس في رحلتي لوادي القدس) وقد أثبتنا رأى اللقيمي في الشيخ البكري.
وخلاصة القول أن هذه الرحلة المخطوطة التي لم تزد معلوماتنا كثيراً عن لبنان الجنوبي، شيقة برغم جميع مآخذها، فإنها تمثل القرن الثاني عشر، وهو قرن تنقصنا عنه المعلومات والمصادر الوافية، فتصف لنا بعض نواحي الحياة الفكرية، وبعض أحوال البلاد القدسية وعمرانها، ورجالها ولو كان أكثر من اجتمع به الشيخ من رجال التصوف والزهد.
ويظهر أن الملاريا (الحمى الربيعية) أصابت الشيخ لردده على مقام سيدنا علي، وهي منطقة موبوءة بهذا المرض إلى عهد قريب، فضايقته وأنهكته، وحاول أن يتلخص منها بالدعاء والالتجاء إلى مقام سيدي داود!
ونحن بعد ذلك نترك الشيخ أن يتكلم، إذ أنه بعد أن ختم الرحلة الرومية وبدأ في العراقية أراد أن يبتدئ برحلة بقاعية لبنانية فأسماها (ارادن حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان) فيقول: (اعلم أيها الأخ الواقف على هذه المواقف أن هذا الجبل المعظم المبجل المقصود بالزيارة، جبل مبارك له خواص عند الخواص أهل الإشارة، إذ من المعلوم، لدى أرباب الفهوم والاختصاص، إن الله تعالى اختص بعض الأمكنة والأزمنة والأشخاص، وقد طرق السمع، من أهل المعرفة والسمع، أن لهذا الجبل، الذي ينفي الخبل، حلا ظاهر الرجحان، وإنسا باهر الميزان، وأن كل من حوله ممن له قدم في الولاية يأتيه زائرا ولو بالروحانية وهذه على فضيلته آية)
وكان كثيرا ما يجول في الخاطر، ويتكرر وروده على الضمير المخاطر، أن يشد الشيخ الرحل على عيسى السري إليه، لعله يحظى من بر أهله ومما لديه، ولكن الأقدار كانت تمنع. ولما آن الأوان، قصد البقاع العزيز ملتجئا لحمى المهيمن الملك العزيز، وبعد ما ودع الخلان والأصحاب والإخوان والأخدان يقول:
(وتوجهت مستعينا بالديان، نحو الديماس، مع رفقة حسان يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة عا أربعين ومائة ألف (1717م) وقصدت حمى الصالحية. وقرأت الفاتحة لسكانها أهل الرتب الفلاحية، ثم صعدت إلى جبل قاسيون، وحصلت نفحة إقبال من هداة فتحه وتجاوزت فيه السيارة الشائقة، التي تحت قبة المصر الشاهقة وممن رافقنا لهذه الزيارة والقدس الفياح، الصديق الشيخ عبد القادر الموصلي ثم البغدادي السياح، المنتمي للعصابة السهروردية المتصلة أنسابهم بالأسرة الصديقة، والأخ السيد محمد السليفتي العباسي، المحب الآسى والصديق المواسي، أول آخذ للطريق في الخطرة الأولى، وقد ذكرته في الخمرة المحسية في الرحلة القدسية، وفي غيرها من الرحلات الأنسية، وكان الأخأكبر مساعد ومعين على إظهار الطريق في الديار المقدسة، وكنت قبل هذا التوجه الطويل المسافة أدنت له بلبس الكسوة والإرشاد لطلاب الإضافة. وممن صحبني أيضا زوج الوالدة، لا برحت في الجنان خالدة، والأخ من الرضاع، الحاج إبراهيم جميل الأوضاع، المستقيم على قدم الحب من الصغر، كأنما نقش على فؤاده نقش الججر، فلم يتغير بتوالي الزمان، لأنه ذوباع فيه طويل، قد عرف بابن الطويل في النسب. وممن صحبني أيضا الأخ الواعي، الشيخ محمد البقاعي، خفيف الحركة، ثقيل البركة، فجعلته للنسبة الوطنية دليل الركاب، وسرنا نتملى بشهود وجوه أولئك الأحباب، ولما أظلنا وادي برذ (بردى) الظليل، قابلنا بعده أول قتيل هابيل النبيل، فقرأنا له الفاتحة. وأفسدت الدليل قرب الديماس. مرتجلا بقصيدة مفيد الإيناس:
قد أتينا لقربة الديماس ... نرتجي رشف حمرة الإقباس
ونزلنا بها مع الرفاق (زاوية بني تغلب) وبعد أداء الصلاة الوسطى وختام ورد العصر البسام، ورد كتاب من الصهر الهمام الشيخ إسماعيل العالم النبيل المقدام، مصدراً له بأبيات جسام وهي:
فرقة للحبيب يوم الخميس ... أورثت في الجنان رعب الخميس
أهل ودي زاد التلهف مني ... حيث فارقتكم لدى التفليس وتوجهنا للبقاع وهو جمع بقعة موضع له يقال له بقاع كلب قريب من دمشق. قال في المراصد: وبهذا البقاع قبر إلياس ولما وصلنا باب وادي القرن أنشدت مواليا:
لقد قرنا الصفا بالبسط أيا قرن ... لما أتينا صباحاً باب وادي القرن
ومذ عذول الحشا قد غاب ذاك القرن ... دام التصافي لي ما بعد نفح القرن
وجاءني الأخ البقاعي، بشيخ نشره عابق للبشر داعي، فكتبت وأنا على الدابة أسمعه ما يجري على القرطاس
يا خليليَّللبقاع فسيحا ... تزيا مربعاً هناك فسيحا
واسقياني كأس المدام لديه ... وانشقاني فيه خزاماً وشيحا
ولما أشرفت على الجبل، إذ زال الخبل قلت:
يا ساكنين السفح من لبنان ... هيجتمو بسناكم أشجاني
حولتمو قلباً أحب وقالباً ... فأبيتكم أسمى على أجفاني
وقد اقتفينا من الدليل العزيز الجليل الإبر، الأثر، لأنه أسلم وما زال يصعد بنا العقاب التي هي صعود للجوزاء بلا سلم، لكن راقيها بإمداد من حل فيها للعناية والرعاية والحماية والكفيةاية يسلم، حتى أتينا قرية نبي الله زريق فقلت:
يا نديميّ من منام أفيقا ... علَّ أن تلتقيا لوصل طريقا
وانهجا منهج الحماة وسيرا ... للمعالي كي تنشقوني عبيقا
ثم زرنا في القرية مقاما للخضر أبي العباس، وسب تعدد مقاماته، شهوده فيها لكثرة تطوراته، وهذه علامة على حياته، خلافا لمن دندن بوفاته، وللدليل قريب في القرية ثغره بسام، أنزلنا لديه فقدم ما قدر عليه من من إكرم، وعزمنا في الصباح أن ينزل سهل البقاع، فرأيت مناماً دل على توديع السكان، من ذلك المنزل لعارض حر وعدم أركان، فأتيت مع الرفاق إلى تل مشرف، وأهديت النازلين من عمد وأركان الفواتح، وقلت:
يا سراة نحو العزيز الخفير ... بلغوه سلام سب حقير
خبروه بأنني مستهام ... في هواه بحرقة وزفير الخ
وبعد أن ودعنا المضيف بالأمس، جزنا إلى الشيخ يعقوب المنصوري، وهذا الدى صنع البركة الإبريزية للملك الرشيد نور الدين الشهيد فعمل منها أوقافا على عد عين تورا ويزيد، ومنها قاعة الفقراء في الربوة بين ثورا ويزيد، وزرنا أولاد شيخنا الجيلاني، ثم تقدم بي الدليل بعد الزيارة إلى قرية (كوكب) قاصدا فيها صلة رحم وقرب أحباب، فأنشدته مرتجلا لما غيم الكدر اتجلى:
إنني في سفرتي هذى التي ... فاق محياها سراجاً كوكبا
لم أزل أرقى العلا مع رفقتي ... ولهذا قد رقينا كوكبا
وسرنا إلى (الذنبة)، بهمة طيبة الحضور والغيبة، ولما امتلأت بالسرور العيبة، فتقت بالحبور الموفورة الجيبة، قصدنا بجمعنا قرية (حاصبية) فإذا هي قرية كبيرة مملوءة الأكتافبالطائف الدرزية، ومضينا للخان ونزلنا لديه، وعنه جدينا السري حتى أتينا قرية (ميس)، الحاملة أهلها لواء ربيعة لا قيس، الشعة المائسين بحب الآل أي ميس. وهذه القرية من بلاد بشارة فأنشدت:
جاء ممن أحب ليلا بشارة ... مذ حللنا يوماً بأرض بشارة الخ
وصعدنا محلها العالي ذو الامتناع، ونزلنا عند صديقنا الغالي على بقاع، وأمسكنا لديه معاملا باكرام، وسرنا للدير والقاسي بأنس تام، ونزلنا عند أحبابنا في القاسي، وحبب لي أن أمدح أهل الدير والقاسي، لأنهم أهل قرب وقرابة كل منهم لا يرى تشفيعا فقلت:
إذا رمت أن بسقيك سمعان في الدير ... أنخ جمل الترحالي في القاسي والدير الخ
وأشرت بصالحها صالح أكبر أولاد مراد فإنه صالح.
(لها بقية)
أحمد سامح الخالدي