مجلة الرسالة/العدد 797/انحراف المواهب
→ إميل لودفيج | مجلة الرسالة - العدد 797 انحراف المواهب [[مؤلف:|]] |
صلاة عصر في مسجد قرطبة عام ← |
بتاريخ: 11 - 10 - 1948 |
للأستاذ أنور المعداوي
قلت في عدد مضى وأنا في معرض الحديث عن الشخصية الأدبية إن من عناصر هذه الشخصية أن يعرف الكاتب أين يضع مواهبه، فلا يدفع بها إلى ميدان لم تخلق له، وأين يركز ملكاته فلا يوجهها التوجيه العقيم الذي لا ينتج ولا يثمر؛ عندئذ يجدي التركيز حيث لا يجدي التشتيت، ويغنى الجهد الذي يبذل في مكانه عن الجهد الذي يبذل في غير مكانه. . هذا الناثر الذي يعالج نظم الشعر فيخفق، وهذا الشاعر الذي يحاول كتابه القصة فلا يوفق، وهذا لقاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يخرج بشيء. . . كل هؤلاء ينقصهم هذا العنصر من عناصر الشخصية الأدبية، عنصر الدراسة لقيم المواهب والملكات!.
كلمات قلتها بالأمس وما أحوجها اليوم إلى شئ من الإفاضة والتطبيق، والخروج بها من دائرة انحراف المواهب في ميدان خاص إلى انحرافها في ميدان آخر يتسع فيه المدى، ويرحب الأفق، ويمتد مجال البحث والدراسة، وترد فيه الظواهر الملموسة إلى ما خفى من الدوافع والأسباب. . .
جورج ديهامل الكاتب الفرنسي الكبير وعضو الأكاديمي فرانسيز، كان يعمل في الحرب العالمية الأولى كطبيب في المستشفيات الحربية، وهو من الذين درسوا الطب في بدء حياتهم واشتغلوا بهذه المهنة جرباً وراء الكسب المادي كما يفعل الكثيرون، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها هجر ديهامل الطب إلى الأدب فنبغ فيه نبوغاً أهله لأن يكون عميداً من عمداء الأدب الفرنسي المعاصر. . . ظاهرة تستوقف النظر، وتغرى بالبحث، وتدعو إلى التأمل والمراجعة، وأعني بها ظاهرة انحراف المواهب!.
ولقد كنت أبحث هذه الظاهرة عند عباقرة ثلاثة غير ديهامل يمثلون ثلاثة ألوان من الأدب العالمي الرفيع؛ جمع بينهم في مستهل حياتهم ميل إلى العلم وانصراف إليه، ثم تحولوا عنه إلى الأدب فتهيأ لهم من النبوغ في ميدانه ما لم يتهيأ لهم في ميدان العلم. . . . اول هؤلاء الثلاثة وهو الشاعر الألماني جيته، كان عالماً يبحث في الألوان، ويضع الأصول للرسم والنحت، ويعالج التأليف في الأزهار وفلاحة البساتين. وثانيهم وهو الكاتب النرويجي إبسن، كان في شبابه عالماً في الكيمياء. وثالثهم وهو الكاتب الإنجليزي ويلز درس الكيمياء ايضاً في شبابه، ثم التحق بجامعة لندن ونال منها درجة في العلوم ثم عين بها استاذاً للباتولوجيا!.
ليس عجيباً أن يكون الرجل منوع المواهب فيكون عالماً وأديباً وفيلسوفاً في وقت واحد، ذلك لأن بعض المفكرين يمتازون بالجمع بين ألوان من العلم متعددة، وضروب من الفن مختلفة، لأنهم وهبوا من سعة الأفق وخصوبة الذهن وصدق الإحساس ووفرة التجارب ما يؤهلهم لأن يشقوا طريقهم في هذه الميادين جميعاً، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن الموهبة الأصيلة تطبع ناحية من نواحي التفكير بطابعها القوي المتميز فتطفي على كل ما عداها من مواهب، ويتجلى فيها الإعجاز في أروع مظاهرة وأخص مزاياه. . . والدليل على ذلك أن يتحول رجل مثل جيته من العلم إلى الأدب، فيصل بنبوغه فيه إلى الحد الذي دفع كارلايل إلى وصفه بأنه أعظم أدباء العالم بلا أستثناء، وأن يهجر رجل مثل إبسن العلم إلى الأدب ويعالج كتابه الدرامة فيعده النقاد واضع الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث، وأن يشفف رجل كويلز بالدراسات الأدبية، فتكون مؤلفاته في ميدان هذه الدراسات سلمه الوحيد إلى معارج الشهرة والنبوغ!
إن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: لماذا تهيأ لهؤلاء الأدباء من النبوغ وذيوع الأسم في رحاب الأدب ما لم يتهيأ لهم في رحاب العلم؟. . . ليس هناك غير جواب واحد هو أن مواهبهم الأصيلة كانت أدبية لا علمية، والدليل على ذلك أنهم انحرفوا بها في بادئ الأمر عن طريقها الطبيعي فلم تنتج الإنتاج المرتقب الذي يناسب ذكاءهم، وذلك في ميدان العلم. . . فلما عادوا بها إلى ميدانها الأصيل وهو ميدان الأدب، استطاعوا أن يشقوا طريقهم في قوة حتى وصلوا إلى مرتبة الخلق والإبداع! ومثلهم في رأيي كمثل البذور التي يلقى بها في تربة لا تلائم طبيعة نموها، فهي قد تنبت وتنمو ولكنها في الغالب لا تثمر. . . فإذا ما ألقى بها في التربة الصالحة نمت واشتدت أعوادها وأثمرت الثمر الشهي المرتقب في مثل حالتها هذه الجديدة، ومن الممكن أن نصف هؤلاء العباقرة الذين تمثلت فيهم ظاهرة انحراف المواهب في شبابهم، بأنهم كانوا بذوراً أدبية ألقى بها في العلم فلم تكتب لها الحياة.
وسؤال آخر يتبادر إلى الذهن في انتظار الجواب. . . لماذا ينحرف بعض أصحاب المواهب من الأدباء والفنانين عن طريقهم الطبيعي ليسلكوا طرقاً أخرى لا يجنون من ورائها إلا بعد الشقة بين ميدان لم يخلقوا له وميدان ما كان أحوجهم إليه؟!.
إن الجواب الذي يقبله العقل على هذا السؤال هو أن المواهب تستغل في غير ميادينها جرياً وراء المادة. . . وهذه الحضارة التي نعيش فيها قوامها المادة تبدأ منها وتنتهي إليها، وتدفع الناس إلى أن يتلمسوا الوسائل لكسب العيش عن طريق غير طريق الأدب والفن في كثير من الأحيان، لأنه طريق غير مرجو الفائدة ولا مأول العواقب في ميدان النضال مع الحياة. ومن هنا يتجهون باستعدادهم وملكانهم اتجاهاً يبغون من ورائه الكسب المادي والمكان الموموق، والفن في رأي الماديين لا يحقق لهم شيئاً من هذا؛ وماذا تجدي الشهرة في رأيهم مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان؟!.
إن صوت هربرت ريد في كتابه (الفن والمجتمع) ليضيع وسط ضجيج المادية الأهوج حين يقول: (يجب أن ننظر إلى الفن نظرتنا إلى كل شئ لا يستغني عنه، مثله كمثل الخبز والماء، وعلى أنه جزء من حياتنا اليومية لا يتجزأ. . . وينبغي ألا يعامل الفن كضيف عابر، ضيف يدفع أجر ضيافته، ولكن كواحد من أفراد الأسرة سواء بسواء!
أن الحضارة الحديثة وتعقد مشكلاتها قد استبدت بالمواهب والعقول فوجهتها تبعاً لهذه المشكلات، وما فيها من تعقد لم يدع لها من لحظات الفراغ ما يمكنها من استلهام الوحي في الفنون الرفيعة. . . وما أبعد الفرق بين الفنون في ماضيها الغابر وحاضرها المشهود! لقد كان الناس في الماضي يعيشون للفن ويطربون له، ويشجعون المواهب على أن تمضي في طريقها فلا انحراف ولا اعوجاج، وإنما اتصال مطلق بالطبيعة واستلهام لمظاهرها وروائعها، فلما تعقدت الحياة وطغت المادية على كل شئ طغيانها القوي الجارف انحرفت المواهب عن ميادينها الأصيلة وانحرفت معها الأذواق جرياً وراء المادة. . . وماذا تجدي الشهرة كما قلت في رأي الماديين مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان؟.
أنور المعداوي.
-