مجلة الرسالة/العدد 795/الشعر في السودان
→ في ذمة الله | مجلة الرسالة - العدد 795 الشعر في السودان [[مؤلف:|]] |
دراسات تحليلية: ← |
بتاريخ: 27 - 09 - 1948 |
للأستاذ علي العماري
قلت في مقالي السابق إن التدين ظاهرة واضحة كل الوضوح في الشعب السوداني، وأن الشعراء قد استجابوا لهذه البيئة المتدنية فكانت صورتها فيما نظموا من شعر.
ولكن لا يمكن أن تخلو جماعة من الجماعات البشرية من الطيب والخبيث، والفث والسمين، وفي الشعب السوداني كما في كل شعب نقائص ومثالب دينية واجتماعية، فهل استجاب الشعراء أيضاً لهذا المظهر؟ وهل صوروا العيوب التي تقع عليها أعينهم كما صوروا المحاسن؟
نستطيع أن نلتمس الجواب فيما كتبه الشاعر حمزة الملك في مقدمة ديوانه (الطبيعة) قال: (إننا نجهل أنفسنا فلا أستبعد ألا يرضى بعضنا عن بعض أوصاف صادقة لبعض الأفراد والجماعات وفي هذا كل الخطر.
نحن مرضى، ولا خطر علينا من تشخيص الداء، ووصف للحصول على الشفاء، إنما الخطر كل الخطر في المكابرة والإدعاء، والزعم بأننا أصحاء أشداء. وإنه لمن أجدى الأمور لنا أن نعرف أنفسنا كما هي فنصلح ما فيها من عيوب، وهي وأن كانت عيوباً تمت إلى أسباب بعضها طبيعي، وبعض طارئ استوجبه اضطراب أحوال البلد في السنين الماضية، فإنها كالأمراض التي لا يستعصي علاجها.
ومع ذلك فإنني لا أنسى إن أذكر لهذه المناسبة اننا من أكثر الشعوب تهيؤاً للإصلاح بعد الهنود).
فهو - إذن - يرى عيوباً، وهو يعتقد أن من الصالح له ولقومه أن ينبه على هذه العيوب، وأن يصورها، ويدعو قومه إلى مجافاتها؛ وهو يشعرنا في كلمته بأنه يعتذر عن هذا الذي أقدم عليه من ذكر هذه النفائض، فلا شك أنه كان يشعر بحكم الوسط الذي يعيش فيه - بأنه من غير اللائق أن يتحدث الشاعر عن رذائل قومه، ولكنه يرى الشعر رسول الإصلاح، ويرى الشاعر طبيباً اجتماعياً من واجبه أن يقف من المجتمع - ولا سيما المجتمع المتدين - موقف الناصح الأمين. غير أننا لا نجد الشاعر نفسه عالج بشعره شيئاً مما تراه عيناه، ونجد من الشعراء الآخرين إجفالا عن الخوض في مثل هذا الحديث. نعم نرى من الشعراء من يصيح بقومه أن الدين قد وهى سلكه، وأنتثر عقده، وضعف سلطانه على النفوس، كأن يقول الشاعر الشيخ عبد الله عبد الرحمن صاحب ديوان (الفجر الصادق):
بعدنا عن الدين الحنيف وهديه ... فيا ويلنا إن دام هذا التباعد
أو يقول:
من أين يرجى للبلاد تقدم ... والدين لم ترفع له أعلام
أو يقول:
خذوا بيد الفضيلة وانشروها ... فإن من المعرة أن تهونا
وهنا قد يبدو سؤال لا بد منه، فإننا ذكرنا في مقالنا السابق أن من أظهر صفات السودانيين التدين، فكيف يتفق هذا مع ما يردده شعراؤهم في الحين بعد الحين من الشكوى المريرة والرثاء للفضيلة والبكاء على الدين؟
وليس من الصعب الجواب عن مثل هذا التساؤل، فإننا إذا قسنا حياة الناس اليوم بما كان عليه الشعب السوداني منذ خمسين سنة لوجدنا البون شاسعاً، والفرق بعيداً، فقد كانت أجواء السودان معطرة بأنفاس الزهاد والصالحين، وكانت لهم السطوة الروحية، والهيبة الدينية؛ أما الآن فإذا وجدنا فإنما نجد أفراداً يعدون على الأصابع، فإذا أضفنا إلى هذا أن بعض وسائل المدينة قد دخلت السودان، وأن المحافظين غير راضين عن هذه الوسائل، فالسينما والقهوة، وتعليم البنت، والألعاب الرياضية الكثيرة، كل هذه مما يرى فيه المتدينون المحافظون إبعاداً عن الدين، مع الفوارق - بطبيعة الحال - بين هذه المبعدات.
يبدو أن تعليم الفتاة في السودان كان يلقى جدلا طويلا عريضاً، وأن كثرة كاثرة كانت ترى فيه هدما للدين، فجعلت تجاربه، وتبدى مخاوفها من السفور المنتظر، وأن قوماً كانوا يؤيدون فكرة تعليم الفتاة. وأنا وإن لم أجد صورة واضحة في الشعر لهذا الجدل ألا إني قرأت هذه الأبيات للشاعر الشيخ حسيب علي حسيب في قصيدة عنوانها (دعوها) يقول فيها:
دعو في خدرها ذات الدلال ... فقد أرهقتموها بالجدال
تذوب وقد تناظرتم حياء ... بفحش اللفظ أو هجر المقال
ويعلو خدها خفر ينادي ... ألا ما للنساء من الرجال أحبا في مناجاة الغواني ... ترى أم ذاك زهد في المعالي
عجبت لحلمهم في كل خطب ... وإن ذكر البنات دعوا نزال
وتأخذ الموالد صورتها المعروفة في كل قطر من الأقطار الإسلامية، ويعيا الوعاظ والمصلحون برد القائمين بها عن هذه المخازي التي تكون فيها، فلا نعدم الشاعر السودان الذي يدلي بدلوه في هذا المضمار، فهذا الشاعر محمد القرشي يقول:
أرى بدعا تشيب لها النواصي ... إذا ما جاء ميلاد الرسول
ويتحدث عن مظاهر الاحتفال بهذا المولد من رايات وطبول وأنوار كثيرة، ثم يتحدث عن ساحات اللهو ويمضي فيذكر (ربات القلائد والحجول) ثم يقول:
تجر ذيولها متبرجات ... لتفتك بالتبرج والذيول
بمجتمع القمار مقامرات ... مع الشبان في الجمع الوبيل
مسار للظباء خرجن فيها ... مراسح للخلاعة والخمول
ثم يستطرد في وصف تمسك عنه حتى يقول:
مصائب في بني الإسلام حلت ... وفاجعة تجل عن المثيل
وحديث الشعراء السودانيين عن النفاق مستفيض، والنفاق - في ظني - أبعد الصفات عن الخلق السوداني الذي طبع على الصراحة والشجاعة، ولكن هكذا يقول الشعراء.
وأكثر ما اشكو النفاق فإننا ... لبسناه من دون النفوس ثياباً
تأصل وأستشرى وأمعن مفسداً ... ورد البيوت العامرات خراباً
وأنشب في روح الشباب مخالباً ... وأعمل في روح الشيبة نابا
ويقول الشاعر حمزة الملك:
أمة في غيها غارقة ... بعد أن جرعها الله الشقاء
قسمت أعمالها بين هوى ... ونفاق وخمول وإدعاء
تلك أدواء دهت أخطارها ... أمم الشرق سواء بسواء
ضاع شرع الله فيما بينهم ... مثلما ضاع وفاء وإخاء
أما أنا فأزعم أن هذا الشاعر كان ثائراً حين نظم قصيدته (الدويم) فطاش من يده القلم فقال ما قال مما يعف كاتب عن ذكره: ويحدثنا الشاعر الكبير الشيخ محمد سعيد العباسي عن بعض العيوب التي يراها:
وكائن رأينا من أخ قل خيره ... بطئ عن الجلى كأن به سقما
ضعيف كليل الفهم أكبر همه ... وأكثره ألا يجوع ولا يظما
وإن خف قوم للمعالي رأيته ... يجوس خلال الدور للشادن الألمي
وقد عابني من لا يقوم بمشهدي ... وليس له مثلي الغداة حمى يحمي
وجاء بأموال التعاويذ والرقي ... وأشياء أخرى لا أرى ذكرها حزماً
ونكتفي بهذا القدر في هذه الغرض، وموعدنا بالحديث عن الشعر الاجتماعي، والشعر الغزلي، والشعر الفكاهي، والحديث عن شعر المدرسة الحديثة، أحاديث تالية إن شاء الله.
(للحديث بقايا)
علي العماري