مجلة الرسالة/العدد 795/الجامعة والأساتذة
→ من ذكرياتي في بلاد النوبة: | مجلة الرسالة - العدد 795 الجامعة والأساتذة [[مؤلف:|]] |
رسالة الفن ← |
بتاريخ: 27 - 09 - 1948 |
للأستاذ وديع فلسطين
أثار الصديق الأستاذ عباس خضر - في تعليقه على كلمة للأستاذ توفيق الحكيم - موضوع اختيار الجامعة المصرية (ونعني جامعتي فؤاد وفاروق) لأساتذتها، فقال إن الجامعة لا تزال تقصر أمرها على أساتذتنا (ولست أدري هل فكرت في الارتفاع بأعلام الأساتذة غير الرسميين أو لم تخطر لها هذه الفكرة بعد؟ والواقع أن هؤلاء الأعلام اساتذة في جامعة ليس لها مكان محدود ولا نظام موضوع).
وللتفكهة أذكر أن معهد التحرير والترجمة والصحافة في جامعة فؤاد فكر من بضع سنين في الأستعانة ببعض كبار الصحفيين المصريين للاشتراك في موسم محاضرات معهدية فيلقى كل منهم محاضرة عن اختباراته وتجاريبه في الصحافة العملية ليكون للطلاب إلى جانب دراستهم النظرية إلمام عملي بالمهنة التي تهيئهم الجامعة لها بعد التخرج.
وأعدت قائمة بأسماء الأعلام من الصحفيين فذكرت فيها أسماء الأساتذة: مريم ثابت بك، وعباس محمود العقاد، وفؤاد صروف، وطائفة أخرى. فأعترض المسؤولون في المعهد على هاته الأسماء الثلاثة قائلين: إن أصحابها لا يحملون مؤهلات جامعية، ولا تقرن أسماؤهم بألقاب مما تسبغه الجامعة على طلابها. وقد أستبعد هؤلاء الثلاثة فعلاً، ولم يدعوا للاشتراك في هذا البرنامج الموسمي!
وبعد ذلك، هل للمرء أن يسأل: كم من الصحفيين اللامعين الناجحين اخرجهم هذا المعهد الذي اقتصرت تبعة التدريس فيه على الأساتذة الجامعيين.
وبهذه المناسبة أذكر أن جامعة أمريكية سمعت أن صياداً بارعاً قريب من دارها، وأنه تضلع في صيد الحيوان البري والحيوان المفترس، حتى سجل في هذا المضمار أرقاماً قياسية غير مسبوقة. فما كان من إدارة الجامعة إلا أن تعاقدت مع هذا الصائد الأمي ليلقى على طلاب علم الحيوان سلسلة من المحاضرات بلغة مفككة متخاذلة وركيكة يبسط عليهم فيها عادات الحيوان ومغامراته في صيده ومقابلات بين القوى البدنية لكل من هذه الكائنات الحية؛ ولم تجد الجامعة ولا مجلس إدارتها ولا أساتذتها في هذا التصرف عيباً ينتقص من قدرها، وإنما عدته سبقاً وكسباً لم يتح مثلهما لجامعة أخرى.
ومن يدري، فقد يقوم بين رجال الجامعة من يسأل: وما هي مؤهلات شوقي الجامعية حتى ينشأ له كرسي باسمه في كلية الآداب؟ هل تخرج في كلية الآداب؟ أو هل منح درجات علمية معترفاً بها؟.
إن الحياة كثيراً ما تكون أقدر على إعداد المرء ثقافياً وعلمياً من الجامعة. وقد أعترف جورج برنادشو بأنه لم يدخل جامعة ولا معهداً عالياً، وأنه كان خامل الذكر في دراسته الابتدائية. وعندنا في مصر الأستاذ سلامة موسى، فقد اعترف بأنه لم يهيئ لنفسه دراسة عالية نظامية في جامعة أو في سواها من معاهد الثقافة الرفيعة، وإنما غرف ثقافية من العلم المشاع في المكتبات مرتكناً على قوة ذاتيته وصدق عزيمته.
وأمامنا الأستاذ عباس محمود العقاد، الذي يكفي أن يقدم كتاباً من كتبه - بغير اختيار - إلى الجامعة لينال عليه درجة الدكتوراه. ولكن هذا لن يحدث في مصر، لأن على الأستاذ قبل ذلك إن ينال درجة الليسانس، تتلوها درجة الأستاذية، ثم مرتبة الدكتوراه!
وعندنا كذلك الأستاذ فؤاد صروف الذي كان اول من كتب في مصر عن تحطيم الذرة، وفلق نواتها، وإطلاق الطاقة الذرية من عقالها واستخدامها في شؤون السلم وامور الحرب. وكان من اقدر الذين تعمقوا في درس علوم الطبيعة وسائر العلوم، وله في ذلك مؤلفات تنم عن تأصل وتثبيت واقتدار. وكان من الذين ابتدعوا مصطلحات علمية لمترادفات لها اعجمية، فقال عن الكلوروفيل (اليخضور)، وعن الهيموجلوبين (اليحمور)، وعن الأسمنت المسلح (الأبرق)، وعن الإيستوب (النظير) وما إلى ذلك. . . وكل سفر من مصنفاته يعده بدون أدنى شك للظفر بدرجة الدكتوراه من أكبر جامعات العالم، أما في مصر فلا.
وقد يذكر قراء الرسالة أنني اقترحت من نحو عام على جامعة فؤاد أن تمنح درجة الدكتوراه الفخرية لرواد الحركة الفكرية الحديثة في مصر ولأقطاب السياسة وفقائها المعاصرين. وذكرت يومها أسماء الأساتذة: فؤاد صروف، وأحمد أمين بك، وأحمد حسن الزيات، وأنطون الجميل باشا، وخليل ثابت باشا، وخليل مطران بك، ومحمود تيمور بك، وسابا حبشي باشا، وإسماعيل صدقي باشا، وعبد العزيز فهمي باشا، وقلت يومئذ: إن هؤلاء جميعاً يستحقون الدكتوراه الفخرية اعترافا من جامعات مصر بالخدمات الجليلة التي أسداها كل منهم في ناحية من نواحي الحياة العامة. ولكن الجامعة لم تأخذ بهذا الرأي، وإن كانت قد منحت الأستاذ أحمد أمين بك هذه الدرجة في ما بعد في غير احتفال ولا احتفاء.
وصفوة القول إن الجامعة في حاجة إلى شيء من سعة الأفق في التفكير، فالشهادة لا تقوم صاحبها ولا ترفع من قدره الثقافي الفكري. ومهمة القائمين على هذه المؤسسة العلمية الكبيرة أن ينقبوا عن ذوي الكفاءات ليستغلوها خير استغلال، وليكن هذا التنقيب في مصر اولاً، ثم في الخارج، لأن الفقهاء المصريين كثيراً ما يتميزون على أقرانهم من الذين (يستوردون) من الخارج. ولو ترك الأمر لي، لعينت مثل الأستاذ نقولا الحداد استاذاً لنظرية التطور في ذلك المعهد، وعينت الأستاذ فؤاد صروف أستاذا للعلوم الذرية، وعينت الأستاذ توفيق الحكيم أستاذا للسيكوباتية. . . . وهكذا. . . . فهذه الكفايات المهملة لا ينبغي إن تظل مبعدة عن النطاق الجامعي، ولا يصح إن تظل أما معطلة أو غير مستثمرة استثماراً ينفع الجيل الجديد.
ولقد قال لي الصديق الدكتور إبراهيم ناجي مرة: كان ينبغي إن تأسرني الحكومة مع الأستاذ سلامة موسى والدكتور سعيد عبده في مكتبة علمية وتطلب منا إن نصدر لها دائرة معارف طبية ومصنفات علمية طبية. فحرام أن تشتت الجهود أو توزع القوى هكذا.
إن مهمة الجامعة هي مهمة مزدوجة: التوجيه والإعداد. وفي مصر من ذوي الكفاية من يرفعون قدر البلاد و (يطيلون نحرها). وما على إدارة الجامعة إلا أن تضع هؤلاء في موضعهم ليتمكنوا من إعداد الطلاب إعداداً طيباً.
وحينذاك لن تجد من يختلف على هل يعين الأستاذ الزيات في كرسي شوقي بك استجابة لاقتراح الأستاذ توفيق الحكيم، أم هل يكون شاغله من نطاق الجامعة الحالي؟
وديع فلسطين.