الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 794/محاكمات

مجلة الرسالة/العدد 794/محاكمات

بتاريخ: 20 - 09 - 1948


للدكتور جواد علي

كان امتحان (الحجاج بن يوسف الثقفي) لأهل العراق في إيمانهم أشد وقعاً عليهم من السيف الذي سلط عليهم في معركة (دير الجماجم) والمعارك التي تلتها.

دخل الحجاج الكوفة بعد انتصاره على ابن الأشعث فعقد مجلساً عظيما لامتحان الناس ولإذلال أهل الكوفة. فجلس هو في الصدر وأجلس (مصقلة بن كرب بن رقبة العبدي) إلى جنبه وكان خطيباً جهوري الصوت. وقد قال له:

إشتم كل امرئ بما فيه ممن كنا أحسنا إليه، فاشتمه بقلة شكره ولؤم عهده، ومن علمت منه عيباً فعبه بما فيه وصغر إليه نفسه.

وقد أدى هذا الخطيب الشتام عمله على خير ما يكون. فجاء بأقبح الشتائموأخرج آخر ما عرف من إحداث في هذا الفن. فكان الشخص يعرض عليه وبعد أن ينال نصيبه من الشتم على وجه يرضى الحجاج، يتعرض إلى مقالة الوالي وتقريعه، وبعد أن يشبع (الثقفي) نفسه يطلب منه التوبة والإقرار بالكفر بخروجه عليه ونقضه البيعة لأمير المؤمنين وإلا فالقتل.

وكان حرّاس الحجاجيقدمون الناس إليه واحداً واحداً، وكل رجل ونصيبه. فإما الإهانة والذل والإقرار بالكفر، وإما الفصل بين الرأس والجسد دون كلام ولا مناقشة. هذا رجل من خثعم قد جاوز الثمانين وقد كان معتزلا للناس جميعاً فيما وراء الفرات جاء به الحظ إلى الحجاج فيسأله الحجاج عن حاله فيجيب:

ما زلت معتزلا وراء هذه المنطقة منتظراً أمر الناس حتى ظهرت فأتيت لأبايعك مع الناس.

الحجاج: أمتربص؟ أتشهد أنك كافر؟.

الرجل: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر!.

الحجاج: إذاً أقتلك.

الخثعمي. وإن قتلتني فو الله ما بقي من عمري إلا ظمئ حمار وإني لأنتظر الموت صباح مساء.

الحجاج أضربوا عنقه.

فضربت عنقه أمام الحجاج، وقريش وأهل الشام يترحمون سراً على هذا الشيخ المسكين.

وهذا كميل بن زياد النخعي ينال حصته من الشتم ثم يعرض على الحجاج فيبادره الثقفي بقوله:

أنت المقتص من عثمان أمير المؤمنين؟ قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلاً.

كميل: والله ما أدري على آينا أنت أشد غضباً عليه حين أقاد من نفسه أم عل حين عفوت عنه؟.

أيها الرجل من ثقيف: لا تصرف على أنيابك، ولا تهدم على تهدم الكئيب، ولا تكشر كشران الذئب. والله ما يبقى من عمري إلا ظمئ الحمار، فإنه يشرب غدوة ويموت عشية، ويشرب عشية ويموت غدوة. أقض ما أنت قاض، فإن الموعد الله، وبعد القتل الحساب.

الحجاج: فإن الحجة عليك.

كميل: إن كان القضاة عليك.

الحجاج: بلى كنت فيمن قتل عثمان وخلعت أمير المؤمنين. اقتلوه. فيحتضنة الجلاد أبو الجهم بن كنانة الكلبي ويذبحه أمام سيده الحجاج ذبح النهاج.

ويدخل الحرس برجل آخر من طراز جديد، من أصحاب الدنيا، ممن يعرفون كيف يهربون من عزرائيل.

الحجاج: إني أرى رجلا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر.

الرجل: أخادعي عن نفسي؟ أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون ذي الأوتاد؟.

فيضحك الحجاج، ويشعر في نفسه بأن الرجل قد غلبه، وإنه ممن لا يستقرون على حال. ويأمر بإطلاق حريته.

ثم يأتي أهل الشام (بأعشى همدان) الشاعر الذي انضم إلى (ابن الأشعث) طمعاً في ماله والذي ينضم إلى كل أحد حتى إلى الشيطان إذا ما وجد عنده المال. الشاعر الذي كان يسير بين يدي (عبد الرحمن) في زحفه على العراق للقضاء على الحجاج وهو يقول:

شطت نوى من داره بالإيوان ... إيوان كسرى ذي القِرى والريحان

من عاشق أمسى بزابلستان ... إن ثقيفاً منهم الكذابان

كذابها الماضي وكذاب ثان ... أمكن ربي من ثقيف همدان يوماً إلى الليل يسلي ما كان ... أنا سخونا للكفور الفتان

الحجاج: إيه يا عدو الله! أنشدني قولك: بين الأشج بين قيس. . . أنفذ بيتك.

أعشى همدان: بل أنشدك ما قلت لك.

الحجاج: بل أنشدني هذه.

أعشى همدان ينشده:

أبى الله إلا أن يتمم نوره ... ويطفئ نور الفاسقين فنحمدا

ويظهر أهل الحق في كل موطن ... ويعدل وقع السيف من كان أصيدا

إلى أن يقول:

فكيف رأيت الله فرق جمعهم ... ومزقهم عرض البلاد وشردا

فقتلاهم قتلى ضلال وفتنة ... وحيهم أمسى ذليلاً مطردا

ولما زحفنا لابن يوسف غدوة ... وأبرق منا العارضان وأرعدا

قطعنا إليه الخندقين وإنما ... قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا

وهي قصيدة تزيد على الثلاثين بيتاً من شر ما تكلم في ذم أهل العراق وأحسن ما قيل في مدح الحجاج وأهل الشام حتى اهتز أهل الشام طرباً وصاحوا: أحسن، أصلح الله الأمير. وظن الشاعر أنه تغلب على غضب الحجاج بهذه القصيدة ونجا، وأنه سيعيش. ومن يدري فلعله كان يأمل هجاء الحجاج من جديد وقد تعود من قبل مدح الناس وهجاءهم في آن واحد.

الحجاج: لا، لم يحسن. إنكم لا تدرون ما أراد بها.

يا عدو الله! أنا لسنا نحمدك على هذا القول إنما قلت نأسف أن لا يكون ظهر وظفر. وتحريضاً لأصحابك علينا وليس عن هذا سألناك. أنفذ لنا قولك: بين الأشج وبين قيس قيس بأذلخ.

فينشد أعشى همدان إلى أن يصل إلى قوله:

بخ بخ لوالده وللمولود.

الحجاج: لا والله لا تبخبخ بعدها لأحد أبداً. أضربوا عنقه. فتضرب عنقه. ويفصل رأسه عن جسده وينال جزاء تقلبه وتلوثه وهجاء الناس ومدحهم طمعاً في الدنيا والمال.

ويدخل الحاجب بالأسرى ممن أرسلهم يزيد بن المهلب.

الحجاج: جئني بسيدهم:

الحاجب: قم يا فيروز، وكان رجلا غنياً من أصحاب الملايين له ثروة عريضة لا تقدر بثمن:

الحجاج: أبا عثمان! ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم ولا دمك من دمائهم!.

فيروز: فتنة عمت الناس فكنت فيها.

الحجاج: اكتب لي أموالك.

فيروز: ثم ماذا؟

الحجاج: اكتبها أول.

فيروز: ثم أنا آمن على دمي؟

الحجاج: اكتبها ثم أنظر.

فيروز: اكتب يا غلام: ألف ألف ألفي ألف وذكر له مثلاً كثيراً، وهو يقصد من وراء ذلك إغراء الحجاج ودفع غائلة الموت عنه.

الحجاج: وقد استهوته هذه الأموال: أين هذه الأموال؟

فيروز: عندي.

الحجاج: أدها.

فيروز: وأنا آمن على دمي؟

الحجاج: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك.

فيروز: والله لا تجمع مالي ودمي.

الحجاج للحاجب: نحه.

الحجاج: ليدخل أسير آخر.

يدخل محمد بن سعد بن أبي وقاص:

الحجاج: أيها! باطل الشيطان أعظم الناس تيهاً وكبراً. تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتشبه بحسين وابن عمر ثم صرت مؤذناً لابن كناز عبد بني نصر (يعني عمر بن أبي الصلت).

وأخذ الحجاج عوداً وصار يضرب به رأس محمد حتى أدماه.

محمد: أيها الرجل ملكت فأسجح.

فكف الحجاج يده.

محمد: إن رأيت أن تكتب إلى أمير المؤمنين فإن جاءك عفو كنت شريكاً في ذلك وإن جاءك غير ذلك كنت قد أعذرت.

يطرق الحجاج ملياً كأنه يفكر في أمر هام ثم يتغلب عليه طبعه فيخاطب الجلاد:

- اضرب عنقه. فضربت عنقه.

الحجاج: يدعى آخر.

(يدخل عمر بن موسى)

الحجاج: يا عبد المراءاة! أتقوم بالعمود على رأس ابن الحائك وتشرب معه الشراب في حمام فارس، وتقول المقالة التي قلت؟.

لتضرب عنقه.

ثم أدخل (ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن سمرة) وكان علاماً حدثاً فدخل وهو مرتبك خائف:

أصلح الله الأمير! مالي ذنب، إنما كنت غلاماً صغيراً مع أبي وأمي لا أمر لي ولا نهي وكنت معهما حيث كانا.

الحجاج: وكانت أمك مع أبيك في هذه الفتن كلها؟

الغلام: نعم.

الحجاج: على أبيك لعنة الله.

الحجاج: ليدخل الهلقام بن نعيم:

الحجاج يخاطب الهلقام:

اجعل ابن الأشعث طلب منك ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟.

الهلقام: أملت أنه يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك.

الحجاج: قم يا حوشب فاضرب عنقه. وليدخل عبد الله ابن عامر.

عبد الله: لا رأت عيناك يا حجاج الجنة إن أقلت ابن الملهب بما صنع.

الحجاج: وما صنع؟

ابن عامر:

لأنه كاس في إطلاق أسرته ... وقاد نحوك في أغلالها مضراً

وفي بقومك ورد الموت أسرته ... وكان قومك أدنى عنده خطرا

يطرق الحجاج ملياً وقد وقرت الكلمة في قلبه. ثم تتغلب عليه روح الانتقام فيقول: وما أنت وذاك؟.

اضرب عنقه، فتضرب عنقه.

ثم أمر الحجاج بتعذيب (فيروز) بعد أن يئس من الحصول على ثروته وأخذ أمواله. فكان فيما عذب به أن كان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق ثم يمر عليه حتى يخرق جسده ثم ينفضح عليه الخل والملح. فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أني قد قتلت، ولي ودائع أموال عند الناس لا تؤدى إليكم أبداً، فأظهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال. فأعلم الحجاج، فقال أظهروه فأخرج إلى باب المدينة. فيروز: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن أنكرني فأنا فيروز حصين؛ إن لي عند أقوام أموالا فمن كان لي عنده شئ فهو له وهو منه في حل، فلا يؤدين منه أحد درهماً. ليبلغ الشاهد الغائب.

الحجاج: وقد اغتاظ وهاج لحرمانه من ثروة (فيروز) تضرب عنقه. تضرب عنقه.

وبينما الحجاج في مجلس من مجالسه إذ بعامر بن شراحيل الشعبي يدخل عليه، وكان ممن طلبهم الحجاج وأراد قتلهم لأنه كان ممن يحرضون القراء على حرب الحجاج، وهو القائل في وسط المعركة:

يا أهل الإسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فو الله ما أعلم قوماً على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجود منهم في الحكم، فليكن بهم البدار.

الحجاج متعجباً: الشعبي!!؟

الشعبي: نعم أصلح الله الأمير.

الحجاج: ألم أقدم البلد وعطاؤك كذا وكذا فزدنك في عطائك ولا يزاد مثلك؟.

الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.

الحجاج: ألم آمر أن تؤم قومك ولا يؤم مثلك؟ الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.

الحجاج: ألم أعرفك على قومك ولا يعرف مثلك؟

الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.

الحجاج: ألم أوفدك على أمير المؤمنين ولا يوفد مثلك؟

الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.

الحجاج: فما أخرجك مع عدو الرحمن؟

الشعبي: أصلح الله الأمير، خبطتنا فتنة فما كنا فيها بأبرار أتقياء، ولا فجار أقوياء، وقد كتبت إلى يزيد بن أبي مسلم أعلمه ندامتي على ما فرط مني ومعرفتي بالحق الذي خرجت منه وسألته أن يخبر بذلك الأمير ويأخذ لي منه أماناً فلم يفعل.

الحجاج إلى يزيد: أكذلك يا يزيد؟

يزيد: نعم أصلح الله الأمير.

الحجاج: فما منعك أن تخبرني بكتابه؟

يزيد: الشغل الذي كان فيه الأمير.

الحجاج للشعبي: أولا انصرف.

وانصرف الشعبي. وعاش عيشة راضية حتى وافاه أجله المحتوم.

وكان سعيد بن جبير (سيد التابعين) ممن انضم إلى حركة ابن الأشعث وحرض القراء والناس على الحجاج وشهد معركة (دير الجماجم) مثل سائر فقهاء العراق أمثال عبد الرحمن بن أبى ليلى وأبو البحتري والشعبي وغيرهم. وهو القائل مخاطباً جيش أهل العراق: (قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم وتجبرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة).

وكان معروفاً بصلابته وصراحته وعدم مبالاته، وهو القائل (لا تقية في الإسلام). ولو استعمل بن جبير شيئاً من المرونة لكان من الناجين بأنفسهم من عقاب الحجاج حتما. غير أنه لم يكن من الراغبين في هذه الدنيا. وقد طلب منه حارسه الذي جاء به من مكة إلى الحجاج أن ينجو بنفسه وأن يهرب والحارس راض في ذلك شاكر، ولكن ابن جبير لم يقبل أن يكون من الهاربين ولا من الذين يكونون سبباً في نكبة الغير.

ولما مثل بين يدي الحجاج قال به الحجاج: ما اسمك؟

سعيد: اسمي سعيد بن جبير.

الحجاج: بل شقي بن كسير.

سعيد: أبي كان أعلم باسمي منك!

الحجاج: لقد شقيت وشقي أبوك!

سعيد: الغيب إنما يعلمه غيرك!

الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى.

سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلهاً غيرك.

الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟

سعيد: لست عليهم بوكيل.

الحجاج: اختر أي قتلة تريد أن أقتلك؟

سعيد: بل اختر يا شقي لنفسك! فو الله ما تقتلني اليوم بقتلة إلا قتلتك في الآخرة بمثلها!.

الحجاج: ليقتل، فلما ولى ضحك، فأمر الحجاج برده وسأله عن ضحكه، فقال: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عنك! فأمر به فذبح! فلما كب لوجهه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الحجاج غير مؤمن بالله، اللهم لا تسلط الحجاج على أحد يقتله من بعدي! فذبح واحتز رأسه!.

لقد قتل الحجاج ما يزيد على المائة والعشرين ألفاً. ولكنه لم يتأثر بمقتل أحد تأثره بمقتل سعيد بن جبير. لقد التبس عقل الحجاج كما يقال منذ اللحظة التي شاهد فيها رأس سعيد ينفصل عن جسمه. فلم يذق النوم بعد ذلك فكان يرى في منامه سعيد ابن جبير وهو يقول له: يا عدو الله فيم قتلتني؟ فكان الحجاج يصرخ ويستغيث قائلا: يا قوم مالي ولسعيد بن جبير؟ كلما عزمت على النوم أخذ بحلقي. وصدقت نبوءة سعيد فلم يعش الحجاج بعده إلا خمس عشرة ليلة.

أراد الحجاج أن تستقيم الأمور عن طريق الضغط والإكراه وإجبار الشعب على التسليم، وأبت الأمور أن تستقيم عن هذا الطريق فأفلت الأمر بعد وفاة الحجاج.

(دمشق) جواد علي