مجلة الرسالة/العدد 793/لمحة من سيكولوجية الطفل
→ ماليَ لا أكتب؟ | مجلة الرسالة - العدد 793 لمحة من سيكولوجية الطفل [[مؤلف:|]] |
الاتجاهات الحديثة وظهور الإسلام: ← |
بتاريخ: 13 - 09 - 1948 |
للدكتور فضل أبو بكر
غاية كل كائن حي مما يبديه من مجهود وما يبذله من حركة إنما ترمى إلى هدف واحد هو الحصول على شئ من التوازن، لملاءمته للبيئة التي تكتنفه والوسط الذي يعيش فيه وهو شرط أساسي لبقائه وحفظ نوعه، وكلما كان الكائن معقد التركيب دقيق الصنع كانت بيئته معقدة صعبة وكان مجهوده أكبر وعناؤه أشد لملاءمة تلك البيئة.
والبيئة فيما يتعلق بالإنسان الذي نحن بصدد دراسة جانب من سيكولوجية طفله - تنقسم إلى قسمين هما:
1 - البيئة الطبيعية
2 - البيئة الاجتماعية
فالأولى تشمل الأرض التي يعيش فوق أديمها من خصبها وجدبها ومن نجدها وغورها ومن ماء عذب وأجاج ومن طقس رطب وجاف، ومناخ حار ومعتدل وبارد إلى غير ذلك من المحيط الطبيعي. والثانية أي الاجتماعية هي اصطناعية عرفية من خلق الإنسان نفسه؛ لهذا تختلف باختلاف الأمم والأجناس والعادات والبقاع، وتخضع لمجموعة من القوانين السماوية والوضعية تلزم الإنسان بما عليه من واجبات نحو غيره وبما له من حقوق لدى المجتمع، وهى بيئة أكثر تعقيداً من الأولى لأنها كما سبق ذكره من عمل الإنسان وهو عمل ناقص إذا قورن بعمل الطبيعة؛ ومن هنا كانت مضطربة دائمة التحول والتبدل تنشد الكمال بقدر المستطاع.
فالإنسان يؤثر في محيطه بنوعيه من طبيعي واجتماعي، ويحاول إخضاعه لحد ما ليكون ملائماً له وهو ما يحدث بظاهرة الإخضاع (والتمثيل) كما أن بيئته نفسها تحاول أن تؤثر فيه وتخضعه لحد ما ليكون ملائما لها وهو ما يحدث بظاهرة الخضوع والتكييف وهو تحوير وتبديل جسماني ونفساني لذلك الغرض.
فهو لهذا في كر وفر مع بيئته يخضعها ويخضع لها حتى تناسبه ويناسبها، ولكن المناسبة المنشودة لا يمكن أن تتم وتكتمل وإنما هي نسبية وغير مستقرة، ومن هنا كانت حركته الدائمة وتغيره المستمر، وهما أبرز مميزات الحياة، وما نمو الطفل وتغيره الجسمي والعق إلا سعياً وراء ملاءمة البيئة.
يعلم مما تقدم أن ظاهرتي التمثيل والتكييف، أو بعبارة أخرى الإخضاع والخضوع، تحدثان في آن واحد ولكن بنسبة غير متساوية، أي أن أثر إحداهما قد يكون أقوى من أثر الأخرى؛ (فدارون) مثلا يؤمن بأن إخضاع الكائن؛ الحي لبيئته هو أقوى من خضوعه لها، وعلى ضوء هذا الاعتقاد يشرح لنا نظرية التطور والتنافي الحيوي من أجل البقاء والخلود، وأن طائفة من علماء الطبيعة تؤيد (دارون) وتحذو حذوه.
وهنالك فريق آخر من العلماء يخالفون (دارون) ويعتقدون عكس ما يعتقد وعلى رأسهم العالم (لامارك) وفى نظرهم أن البيئة هي التي تخضع الكائن أكثر مما تخضع له، وأن على الكائن أن يبدل من ذاته، ويغير مما بنفسه حتى يكون أكثر ملاءمة لها.
كذلك الفلاسفة من علماء الاجتماع والأخلاق ينقسمون إلى قسمين بالنسبة للبيئة الاجتماعية:
فالفريق الأول ورائده الفيلسوف (نيتشه) يرى ما يراه (دارون) في البيئة الطبيعية، وهى فلسفة القوة والبطش وأن (الرجل المثالي) في نظره الذي يستحق شرف هذا اللقب هو الذي يخضع العالم ويبطش بالرجال حتى يدينوا له وينقادوا إليه، وأن المسالمة والتسامح والعطف والعفو ما هي إلا صفات العاجز الضعيف وهى تباعد ما بين من يتصف بها عن المجد والسلطان على حد قول أبى الطيب:
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
والفريق الثاني وزعيمه (أبيقور) ومدرسته ينادى بعكس ما ينادى به نيتشه وهى فلسفة الخضوع والمداراة والمصانعة، فلسفة (الدهريين)، و (الرجل العاقل) في نظره هو الذي يخضع لبيئته ويتماشى مع دهره على حد قول من قال:
ودر مع الدهر وانظر في عواقبه ... حذار أن تبتلى عيناك بالرمد
والبس لكل زمان بردة حضرت ... حتى تحاك لك الأخرى من البرد
هذه مقدمة موجزة لابد منها لتفهم بعض مظاهر سيكولوجية الطفل لأن نموه وتطوره ما هما إلا نوع من ضرورة ملاءمة البيئة، وهذا النمو نفسه هو تغيير مستمر في الشكل (مورفولوجي) ووظيفي (فسيولوجي) ونفساني (سيكولوجي)، فالحاجة أو الوظيفة تخلق العضو وتكيفه بشكل خاص , وكذلك العضو يخلق الحاجة أو الوظيفة ويطبعها بطابعه ,
نرى مما تقدم أن (المورفولوجى) مرتبط (بالفسيولوجى) كما أن الأخير مرهون (بالسيكولوجي) ومن هنا يحق لنا القول بأن البيئة و (المورفولوجى) و (الفسيولوجى) و (السيكولوجي) هي وحدة - كوحدة وادي النيل - لا تقبل التجزئة، ونسج واحد متناسق متجانس لحمة وسدي.
نمو الطفل:
هنالك ظاهرة تسترعى الانتباه وتلفت النظر فيما يتعلق بنمو الطفل، أو بعبارة أخرى ملاءمته لبيئته، وتلك الظاهرة هي طول المدة اللازمة لذلك ولاسيما إذا قارناها بمتوسط عمر الإنسان (نحو خمسين عاماً في الغرب وأربعين عاماً في الشرق) فهو يستغرق أكثر من ثلث متوسط عمره كرجل ليبلغ القمة من نموه الجسمي وهى سن العشرين أو الواحد والعشرين، ومن هنا يمكن أن نستخلص قانوناً عاماً يمكن تطبيقه على الإنسان والحيوان، وفحواه أنه كلما كان الحيوان دقيق الصنع معقد التركيب كانت المدة اللازمة لنموه طويلة بالنسبة لمتوسط عمره.
ويمكننا أن نعتبر بأن الطفل يمر بأربعة أطوار:
1 - الطور الأول منذ وقت ظهوره إلى عالم الوجود إلى الثانية من عمره.
2 - الطور الثاني منذ أول العام الثالث إلى السابعة من عمره.
3 - الطور الثالث من أوائل العام الثامن إلى آخر الحادي عشر.
4 - والرابع منذ آخر الحادي عشر إلى آخر الثامن عشر.
الطور الأول:
يبلغ متوسط وزن الطفل عند الولادة نحو ثلاثة كيلوجرامات وهذا الوزن يبلغ ثلاثة أضعافه بعد نهاية العام الأول، وأربعة أضعافه لما يكمل الطفل عامين من عمره، ومن هنا نرى أن هذا الدور من عمر الطفل يمتاز بسرعة النمو ولا سيما من حيث الثقل، ويأتي بعده الطور الرابع فيما يتعلق بسرعة النمو وخصوصاً من ناحية طول القامة، أما الثاني والثالث فهما أقل أهمية من سابقيهما إذ يبطؤ فيهما النمو نسبياً.
طور المراهقة:
يبدأ لدى الطفل في نحو العام الثاني عشر ويستمر إلى السابع أو الثامن عشر من عمره، ولدى الطفلة من الحادي عشر إلى السادس عشر، ولكن هذه الحدود والمقاييس نسبية تختلف اختلافاً كبيراً بالنسبة للأجناس والأماكن، وهى عندنا في الشرق أكثر بكوراً منها في الغرب. يسرع النمو في ابتداء المراهقة من حيث القامة والأطراف وخاصة السفلي منها، وفى هذا الطور يضعف الطفل ويعتريه شئ من الهزال والكلال كما تقل مناعته وتختل توازن الجسم، ومن هنا كان هذا الطور أخطر الأطوار إذ هو دور انقلاب جسماني وعقلي ونفساني مما يحتم على الوالدين والمربين ملاحظة الطفل والعناية به من حيث الغذاء والرياضة البدنية والنفسانية!
تظهر على الطفل عوارض وسمات الجنس تدريجياً - من رجولة أو أنوثة ويبدأ التناسق في أعضاء الجسم كما تبطؤ حركة النمو الجسمي من السابع عشر أو الثامن عشر إلى العشرين أو الواحد والعشرين على وجه التقريب وهو الحد الأعلى للنمو الجسمي.
تمركز اهتمام الطفل حول ذاته:
هو بدء الحياة العاطفية والعقلية لدى الطفل وهو شعور غريزي وغير واع لا يميز الطفل في بدايته بين ذاته وبين ما يحيط به بل يخلط بينهما خلطاً. بيد أن هذا الخلط نفسه آت من ارتباط الطفل ببيئته وتكوينه وحدة معها، كما أن هذا الشعور نفسه يقع تحت بند ظاهرة الإخضاع والحيازة إذ الطفل يحاول أن يجتذب كل شئ ويمتلكه وليس في ذلك من شذوذ، ولكنها تخضع لقانون حيوي، ثم يتطور ذلك الشعور ونقصد به تمركز اهتمام الطفل حول ذاته ويبدأ بالتفريق ما بين ذاته وغيرها مما يحيط بها، كما تبدو عنده الظاهرة الثانية ونعني بها الخضوع و (التكييف) ال وعند ظهورها فقط يمكن أن نقول بأن الطفل بدأ يلائم بيئته ملاءمة حقيقية.
تطور عقلية الطفل: يقول (بياجيه) في كتابه (الحكم والاستنباط لدى الأطفال) وكتابه (فهم الطفل للعالم) وكتابه (بدء الحياة العقلية عند الأطفال) بأن أهم ما يميز عقلية الطفل ثلاثة خواص هي: (الواقعية) و (الحيوية) و (الاصطناعية)
فالواقعية لدى الأطفال ليست بواقعية الكبار، بل تختلف عنها اختلافاً كبيراً، فهي نظرة مغرضة متحيزة لما يحيط بهم من أشياء، وكل ما يقع تحت حواسهم - وما يكون منها خاصاً لتلك الحواس فقط - ينظرون إليه بلغة عواطفهم وبما يشتهونه أن يكون، كأنما كل شئ خلق لهم ومن أجلهم، وبعبارة أخرى لا يفرقون بين ما لهم وما لغيرهم.
والحيوية استعملها لأول مرة بعض علماء (الأنثروبولوجي) أي علم الإنسان، إذ وصفوا بها عقلية بعض الشعوب الفطرية التي لم تتطور عقليتها بعد، بل وقفت عند هذا الحد الصبياني؛ والذين يعبدون الجماد من أصنام وتماثيل أو الشمس والقمر، ويعتبرونها كائنات حية ذات حول وقوة.
كذلك الطفل في أول طفولته ينظر إلى بعض الأجسام من جماد كأنها كائنات حية ذات إرادة، فالقمر ينظر إليه ويتبعه، والسيارة تنقله من مكان لآخر لأنها منقادة مطواعة تقدم له خدمات عن وعي وإرادة. وقد يصطدم رأسه بالحائط فيتألم من ذلك وتثور ثورته فينهال على الحائط ضرباً عقاباً له على ما اقترف من ذنب، كما يغضب لأن لعبة من لُعبه لم تطاوعه ولم تسر على هواه فينهال عليها ضرباً ويوقع بها العقاب، وربما حطمها وهو يعتبرها كائنات حية ذات إرادة.
كذلك المعنويات لدى الأطفال ما هي إلا كائنات حية، فقد يتخيل الله كرجل وقور ذي لحية بيضاء وسيما جسيما، وليس فيما نذكر من غرابة أو شذوذ إذا علمنا بأن الإنسان الأول مر على هذا الطور، وما زالت بعض الشعوب البدائية تقف عنده في تطورها العقلي. فقدماء الإغريق والمصريين كما ورد في الإلياذة وما ارتسم على الجدران وأوراق البردي من نقوش، كانوا يتصورون الآلهة في صورة بشرية مجسدة حية لها خواص البشر إلا أنها تختلف عنهم في بعض الأوجه كالسيطرة والسلطان المطلق لتصريف أمور الكون وتنعم بنعمة الخلود والحياة السرمدية!.
أما الاصطناعية فهي تتلخص في اعتقاد الطفل أن كل ما يحيط به ويقع تحت حواسه ما هو إلا اصطناعي من خلق الإنسان ولا سيما والديه وهو شعور منشؤه الحياة الاتكالية وتمركز اهتمام الطفل حول ذاته. فالشمس صنعت لإنارته ودفئه، والبقرة صنعت لكي تدر عليه اللبن كما لو كان لسان حاله يقول (من بعدي الطرفان).
العواطف عند الطفل:
هي وليدة الحاجة تتكون من مجموعة انفعالات عمياء غير واعية، ومن هنا كان الاضطراب الذي يسودها، كما أنها تنمو مع الطفل وتتهذب وتصقل ويتوجه كل منها في اتجاه معلوم، كما تلتقي الانفعالات المتشابهة المتجانسة في (بؤرة) واحدة، وفي هذه الحالة فقط يصح لنا تسميتها (بالعواطف)، وهذه العواطف الطفلية ترمي إلى غرضين مختلفين: أولهما عامل النمو والتطور وتتحكم فيه الأنانية والاستيلاء على كل شئ، وعدم الاعتراف بما يخرج من محيط (الذات) كما يمتاز بالخلط ما بين وغيرها مما يحيط بها. والثاني هو عامل ملاءمة البيئة ملاءمة حقيقية لتميزه عن العامل الأول حيث الملاءمة لا تكون إلا جزئية، ومن ناحية واحدة هي ناحية الحوز أو الإخضاع أو التمثيل، وفي هذا الطور يحدث عند الطفل ما يشبه التضحية وإنكار الذات لحد ما، إذ يبدأ التفريق ما بين ذاته وغيرها، ويعترف بوجود ما حوله. ويسمي الاجتماعيون الطور الأول بطور الحيوانية والثاني بطور الإنسانية
عاطفة الأنانية:
هي أثر من آثار تمركز الاهتمام حول الذات لأن هذا الاهتمام لم يتطور أو يتبدل إلا جزئياً وهي عاطفة غريزية وضرورة (بيولوجية) لازمة لنمو الطفل وحفظ النوع، كما أن آثارها تبقى حتى عند الكبار، تتفاوت في الدرجات ولكنها لا تزول نهائياً حتى في نفوس أكثر الناس تضحية وإنكاراً للذات، وما هذا الإنكار إلا نسي، وأن المبالغة في إظهاره وتجسيمه ما هو إلا نوع من حب الظهور تمليه عاطفة دفينة هي الأنانية نفسها التي نحاول أن نخفيها ونظهر عكسها والمضاد لها من الصفات. ويزعم الكاتب الاجتماعي (دانتك) بأن الأنانية هي الترياق الشافي لذلك السم الاجتماعي ونقصد به التطفل والحياة الاتكالية التي تعتمد على الغير، وقد ذهب هذا الكاتب إلى أبعد من ذلك في زعمه، وألف كتاباً في هذا الصدد عنوانه (الأنانية هي الأساس المتين الذي يجب أن تقوم عليه الهيئة الاجتماعية).
والأنانية تتطور عند الطفل وتأخذ صورة اجتماعية معينة هي بدء الشعور بعزة النفس والكرامة؛ يشعر الطفل في هذه الفترة بحاجة ملحة إلى الإطراء والثناء من جانب الغير، فتراه تواقاً لعرض ما يمتلك من أدوات اللعب وما يرتدي من ثياب في شئ من الزهو والمباهاة، ثم يقوم أمامك بما يحسن وما لا يحسن من ألعاب، أو يلقي على مسمعك ما وسع اجتهاده وما وعت ذاكرته الضعيفة من دروس أو أغاني، وهو في كل ذلك حريص كل الحرص على أن ينال منك أكبر قسط من الثناء والتهاني، كما يسيئه أن تمتدح أمامه طفلا آخر فيشعر بشيء من الغبن ويتألم لجرح كبريائه.
هذا والشعور بالكرامة نفسه يتطور إلى غيره من الصفات، فهو إذا صادف تشجيعاً من الغير وسلم من عوادي التجريح سما إلى شئ من الاعتماد على النفس والشجاعة والكبرياء، وهي صفات مصدرها الشعور بالقوة؛ أما إذا حال حائل دون نموه الطبيعي بمعنى أن أصيب بالكبت والقهر من جانب القساة من الوالدين او وجه توجيهاً خاطئاً بواسطة الجهلاء من المربين، فإن هذا الشعور ينحرف ويشذ ويصبح الطفل خجولا أو جباناً كما تولد في نفسه عاطفة الحسد والحقد على الغير وهي صفات منحدرة من الضعف وعدم الاعتداد بالنفس.
ظهور الشخصية واكتمالها عند الطفل:
يبدو هذا الطور عند الطفل في نحو الثالث من عمره كشخصية قائمة بنفسها ويمر الطفل أثناءه بطورين متضادين:
الطور الأول سلبي: يكون فيه الطفل عصياً شديد العناد يعمل في معظم الأحيان بعكس ما يلقى عليه من تعليمات على حد المثل (خالف تعرف) ويجد في ذلك لذة نفسية تنتج عن شعوره بشخصية مستقلة عن الغير تعمل حسب ما يوافق هواها، كما يبدأ التفريق بين ماله وما لغيره وهو شديد الضن والحرص على ما يمتلكه إذ تلك الممتلكات خاصة بشخصه يرى فيها مكملا لتلك الشخصية ومساعداً لبروزها.
والطور الثاني إيجابي: يحاول الطفل فيه جلب أنظار الغير بشتى الطرق، ثم يبدأ بتقليد الغير لا من الصغار أو من هم في مثل سنه ولكن بالكبار من مختلف الأوساط والهيئات تشبهاً بهم.
ثم يستجد في حياة الطفل حادث له أهمية كبيرة من حيث الشخصية، وذلك حين يبلغ السادسة من عمره وهي سن التي يغادر فيها (مدرسة الأم) المنزلية ويختلف بغيره من الأطفال في المدارس الأولية، إذ تضطره قوانينها للخضوع كما يشعر بشيء من تلاشي الشخصية وضعفها لحد ما، ويقل تفكيره في (الأنا) وتطغى ظاهرة الخضوع والمطاوعة على ظاهرة الإخضاع ويستمر الحال كذلك إلى أن يبلغ العاشرة من عمره، وهي السن التي يحصل فيها على شئ من التوازن.
بيد أن هذا التوازن لا يدوم طويلا إذ يختل ويضطرب في طور المراهقة الذي يبدأ في نحو العام الثاني عشر إذ تتغلب ظاهرة الإخضاع مرة أخرى ويشعر المراهق بحاجة شديدة لإثبات شخصيته وفرضها على الغير مثل ما يحدث عنده وهو في الثالثة من عمره ولكن بصورة أوضح، وكذلك يمر على طورين:
الطور الأول سلبي: وهو طور العصيان والتمرد، ولكنه تمرد أكثره على المعنويات منه على الناس والأشياء ينتقد فيه آراء غيره، ويتوق إلى الهدم ويخالف العرف كما يجنح إلى (المثالية) كذلك تكثر عنده أحلام (اليقظة).
والطور الثاني إيجابي: يعتني فيه المراهق بهندامه كما يكون شديد الغرور بمحاسنه الجسدية أو المعنوية والرغبة في إظهارها للغير كلما وجد إلى ذلك سبيلا.
اكتمال الشخصية:
لا يمكن للشخصية أن تكتمل إلا إذا تم التوازن في شكل متآزر متناسق بين ما ذكرنا من مظاهرات وانفعالات وصفات، ومن خطأ الرأي أن نعتمد على الطبيعة كل الاعتماد لتهب لنا ذلك التوازن المنشود، بل يجب علينا أن نعينها على أداء وظيفتها بكل ما في وسعنا وهي المسئولية الجسيمة التي تقع على عاتق الوالدين والمربين والمرشدين، فيجب عليهم - والحالة هذه - أن يكونوا أهلا للقيام بها على أحسن وجه.
وليس المجال هنا بمتسع لسرد ما يجب اتباعه حتى ينشأ الطف متزن الشخصية كاملها وبارزها، وقد عالج ذلك علماء التربية الحديثة والاجتماعيون بمقدرة تامة وليدة التجارب والعقل الذكي.
هذه نبذة مختصرة ولمحة خاطفة من سيكولوجية الطفل وبدء سوف يعقبه عود قريب والعود أحمد.
(باريس)
فضل أبو بكر
بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا