مجلة الرسالة/العدد 792/طاغور وغاندي بين الشرق والغرب
→ أنقذوا اللاجئين أولا! | مجلة الرسالة - العدد 792 طاغور وغاندي بين الشرق والغرب [[مؤلف:|]] |
رحلة إلى ديار الشام في القرن الثامن عشر (الثاني ← |
بتاريخ: 06 - 09 - 1948 |
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
- 1 -
لقد أخذ الشرق العربي يتخوف من الدول الغربية الكبرى وأخذ يشك في قيم حضارتها المادية، بعد أن خانت عهودها معه، وسخرت من عواطفه القومية، وداست على رغباته في الرقى والتقدم ويود اليوم كل عربي استكان في فترة من الزمن لثقافة الغرب ومدينته، ورضى أن يعتمد عليها في حياته المادية والمعنوية، أن يغير نظرته إلى الغرب، ويفكر في الاستغناء عنه في كل شئ. ولقد سبق طاغور وغاندي العالم العربي في هذه المشاعر، بعد أن عانت الهند ما عانت من الاستعمار الإنجليزي. فوهب طاغور العالمي النزعة والتفكير، جميع طاقاته العقلية في سبيل وضع تصميم حديث للحياة الإنسانية، استوحاه من فكرة وحدة الوجود الهندوكية، ودمج فيه حضارات الشرق في حضارات الغرب، وجمع بين زبدهما الثقافي، وأراد به أن ينشئ عقلية عالمية تخلص من ناحية من مادية الغرب وأنانية شعبه وحبه للسيطرة وإمعانه في الإباحية التي تجعل استتباب الأمن ونشر السلام في العالم مستحيلاً، وتنشر التذمر والضيق في جميع البلدان. وتتحرر من ناحية أخرى مما علق بالحياة الهندية من تقاليد قديمة عرقلت نهضة الهند وعاقت تقدم شعبه؛ فإن التشاؤم واحتقار الحياة وتحاشى الانغماس فيها، قضى على نشاط الهنود المادي، وأدى إلى تأخرهم في مختلف نواحي النشاط الإنساني، فأنتج نتاجاً فكرياً روحياً إنسانياً عالمياً، يخلو من شوائب الحضارات الهندية وضلالات الحضارات الغربية، ومن نقائض المدنيات القديمة والحديثة والمعاصرة جميعاً، وتدعمه الأصول الروحية، ويرفع من صرح الأخلاق والفضيلة والدين، ويعطى للعلم والفن والعمل قيمة جليلة في الحياة البشرية. بينما هب غاندي الزعيم الوطني، يجاهد في سبيل حرية الوطن بسلاح معنوي استلهمه من فكرة الحب والتسامح التي تكاد تنادى جميع كتب الهند الدينية بضرورة اتباعها؛ واستغلها بدهائه الروحي في مقاومة الاستعمار البريطاني في الهند، واتخذ من المقاومة السلبية التي أقامها على اللين وعدم الانتقام، سبيلاً دينياً لإشعال الحمية الوطنية وتقوية الحماسة القومية، ونهجاً سياسياً يرد به للهند استقلالها، ويمنحها حريتها المسلوبة.
وقبل أن يحدد طاغور الهندي موقفه من حضارات الغرب والشرق، تأمل في تراث الحضارات الغربية القديمة فوجدها جميعاً قد نشأت بين جدران مدن أشادها الإنسان ليحمى نفسه من شر أخيه الإنسان، أو ليلقى حياته من هياج قوى الطبيعة. فمنعت هذه الجدران اتصال الشعوب بعضها ببعض، وعاقت اختلاط الثقافات وتمازجها، وقضت على تبادل الحب والمنفعة؛ كما حالت دون ائتلاف الإنسان بالطبيعة. فشب الغربي أنانياً، يوجه كل اهتمامه نحو نفسه، أو نحو بنى مدينته يفضلهم على القرباء عن وطنه الذين ينظر إليهم كمنافسين خطرين له ولأهله، يجب عليه أن يغتصب منهم كل ما يستطيع أن يغتصبه قبل أن يغتصبوا منه شيئاً مما يملك، ونشأ ساخطاً على الطبيعة، يخاف غضب قواها، ويتصورها عدواً له، يجب أن يحذره، ليحفظ كيانه من شدة تقلباتها، وليبعد خطر زوابعها عنه. فغرست هذه الحياة في نفوس الغربيين الأنانية وحب السيطرة، وصرفت نشاطهم إلى بسط نفوذهم على ما يحيط بهم من بلدان وشعوب، وصرفت أعمارهم لمكافحة الطبيعة والسيطرة عليها، ودفعتهم إلى أن يعتنوا عناية فائقة يشحذ مختلف مواهب الإنسان وملكاته سواء أكانت عقلية أم فنية، وبكسب مهارات صناعية، وقدرات يدوية لتساعدهم على محاربة الطبيعة، واستغلال الفقراء، وإذلال الشعوب الضعيفة. وكان ذلك كله سبباً في تفوق الغرب في العلوم والفنون، وعله تأسيسه حضارة استكملت نهضتها بتقدم البحث العلمى، وأختراع شتى الآلات الصناعية والأدوات الحربية التي تشهد بمقدرة الغربيين في الصناعة والحرب، وتدل على مهارتهم في توزيع مصنوعاتهم وترويجها في أسواق الأمم القريبة والبعيدة. فعادت عليهم بأرباح وفيرة وثروات طائلة أقنعتهم بأن تصريف أمور الحياة الأرضية لا تخضع إلا للمال. فآمن الغرب بأن المال هو الغاية القصوى، التي يجب أن يبذل الإنسان كل قواه في سبيل الإكثار منه، واعتبره الوثن الأوحد الجدير بالعبادة والتقديس.
فأعجب طاغور بنشاط الأمم الغربية، وقدر مساعيها الجليلة في تقدم العلوم والفنون، وسر من جدها الدائم في ترقية مستوى الحياة الإنسانية، ولكنه في الوقت نفسه سخط على أنانية الغرب وماديته، واشمأز من جربه القبيح وراء المال، واحتقر تفضيله الرذيل لبنى جنسه، وتقزز من استعماره المشين للشعوب الوديعة. لأن ذلك يخالف ما جبل عليه، ويغاير ما تعود أن يعرفه عن الهند وما تعلمه من الهنود.
فلقد عاش أهالي الهند منذ القدم في غابات فسيحة غنية بشتى الغلات، فلم يجد الهندي صعوبة في العثور على طعامه وشرابه، وتيسر له بناء مساكن من أخشاب الأشجار، حمته من الحيوانات المفترسة، والطبيعة الهائجة. فتأثر الهنود بحياتهم الأولى في أرجاء غابات تحتوى على مختلف الخيرات، وتبلغ من الأتساع بحيث يمكنها أن تحتضن ملايين الناس، وتمدهم جميعاً بالطعام والشراب، وتوفر لهم المسكن. فنشأ الهندي منذ القدم لا يعرف الكد في البحث عن غذائه، ولا النصب في الحصول على مواد بناء مسكنه، لأن الغابات تضع كل ذلك في متناول يديه. فلم يشعر بعداوة الطبيعة، لأنها مهدت له سبل الحياة، كما لم يجد ضرورة لأن يمتلك أرضاً معينة، يقيم حولها حواجز وتخوما تقيها من طمع الآخرين، وتفصلها عما يمتلكه الغير، لأن كثرة ما في الغابات من خيرات متنوعة يسهل الحصول عليها، لم يدع أحداً يفكر في أن يخص نفسه بامتلاك شئ من دون بقية الناس، مادام كل شئ يحب أن يناله يمكن أن يفوز به بدون مشقة.
فلم يقف حائل بين الهندي والطبيعة فأحبها، وارتاح إلى الحياة في كنف حنانها، ودعا اتصاله الوثيق الدائم بها إلى ائتلافه بكل جزء من أجزائها، وإلى نجاة أفكاره من الرغبة الجامحة في بسط نفوذه على الطبيعة، أو امتلاك أرض يشيد حولها أسواراً خوفاً من أن يسطو عليها أخوه الهندي. ويعث جمال الطبيعة وتناسقها في نفسه شعوراً عميقاً بأن جميع مكونات الوجود في وحدة شاملة وأدراك أن كمال الإنسان في معرفة هذه الوحدة، وأيقن أن الطريق الوحيد الموصل إلى هذا الكمال، هو تلاشى فرديته في جميع محتويات الكون، أو بإدماجها في كل ما حوله من كائنات. فساقه هذا الشعور إلى أن يقصر حياته على تحقيق هذه الوحدة، واكتساب الوسائل الصالحة التي تساعده على إفناء ذاتيته في الوجود بأكمله. ولم يفكر قط في محاربة الطبيعة لأنه عرف أن الإنسان متحد بها، ولم يفكر قط في السيطرة على قواها، لأن أفكاره في اتحاد مع جميع الأشياء، ولأن قوى الإنسان متحدة مع قوى الطبيعة وأغراضه في الحياة تتفق وأغراض الطبيعة.
فتشبعت العقلية الهندية بحقيقة وحدة الوجود، وأصبح إدراك هذه الحقيقة الكبرى محور حياة قدماء الهنود، وموضوع دينهم، وغاية عبادتهم، وسبب سعادتهم القصوى. وأصبحت رغبة الاتحاد بالله الذي يتجلى في مختلف أجزاء الوجود شاغلهم الشاغل؛ فانصرفت كل مشاعرهم وأعمالهم إلى العثور عن هذه الوحدة لأنهم لن يجدوا الراحة أو الأمن أو السلام، ولن يذهب عنهم الخوف والقلق والاضطراب والشك والحزن، ما لم يدركوا فكرة اتحاد الكون التي يتطلب وعياً صادقاً حياة فكرية منعزلة طاهرة، لا تؤثر فيها مشاغل الحياة.
فاختار زهاد الهنود أماكن نائية عن صخب الحياة الاجتماعية ومغريات مفاتنها، وتبدو فيها الطبيعة على قسط كبير من العظمة والجمال، حتى تبهر الفكر، وتغريه بهجرة الحياة، والتحرر من حدودها المادية الضيقة، والتخلص من ضروراتها الزائفة؛ وحتى تنبسط في ربوعها الروح، وتتلمس في كنف روعة الطبيعة وجمال تناسق أجزائها مكانتها في الوجود.
ولم يجد الهنود مكاناً أفضل من غابات الهند الطويلة العريضة التي توفر الاعتكاف على النجاة من مفاسد الحياة وتتحلى بجمال رائع متناسق؛ فلجئوا إليها يمقتون ذاتهم، وحولها إلى معابد متنقلة يأوي إليها الزهاد والحكماء، يستوحون من عظمتها وجمالها حقيقة الوجود الأولى، وينشدون من عزلتهم حبس جهودهم على الفوز بأكمل مراتب الحياة الروحية.
فهيأت العزلة الفكرية للهنود فرصا للغوص في عوالم من المعاني الروحية أنارت نفوسهم، وكشفت لهم عن مثل إنسانية، ومبادئ أخلاقية وقيم دينية، ودفعتهم إلى سلوك طرق فاضلة، وإتباع نُهج طاهرة، بينت للبشرية أن الهند بروحيتها أفادت الفكر الإنساني، وأضفت عليه قبساً من النور السماوي، وأضافت إلى الحضارات حضارة تسمو عليها جميعاً في الروحية، وهذا كسب عظيم للإنسانية يشرف الهند. إلا أن الهند يجريها الحثيث وراء الروح أهملت الحياة الأرضية إهمالا معيباً جعلها لم تبال بتنمية مواهبها الفكرية، أو إنضاج استعداداتها الفنية، لكي تكتسب ملكات عقلية ومهارات صناعية، تظهر بها تفوقها في ساحات السياسة والاقتصاد والحرب، وهي دعائم السيادة الحديثة. فلم تعتن بالعلوم التي هي أساس كل تقدم مادي أو نفوذ سياسي أو سطوة حربية، فنشأ الشعب الهندي غير متمرن على أساليب الحرب، لا يتقن وضع خطط الدفاع والهجوم فاستولى الطغاة على بلاده، واستعمروا وطنه. وشب غير مدرب على الفنون الاقتصادية، جاهلا السبل العبقرية في جمع المال بعيداً عن جبل السياسة الملتوية؛ فخدعه المستعمر، واستغل موارده الطبيعية لمصلحته الخاصة من دون الهند صاحبة الحق الأول في الاستفادة من هذه الموارد.
فعاب طاغور على الهنود جهلهم بمقومات الحياة العصرية، وأنبهم على نفورهم من مشاكل الحياة الاجتماعية، وحثهم على الاندماج في ميدان الحياة العامة، يؤدي كل منهم خدمات تعود على أهله أو الهند أو البشرية بالنفع والفائدة، ما دامت هذه الخدمات لا تخرج على تعاليم الدين أو تهدم قيم الأخلاق. ورغبهم في الاشتغال بالعلوم والفنون، ما دام الاشتغال بها لا يتعارض مع تطهير الروح، أو يعوق خلوصها من الدنس. بل إن العلوم والفنون والأعمال التي يواغثها فاضلة تقود إلى الفناء في الله، وتوصل إلى أعلى درجات الكمال الروحي، فيجب على الهند أن تقلع عن تمسكها بتقاليد قديمة بالية أو هنت من عزيمتها، وتترك جانباً النظرات التشاؤمية التي عاقت سعيها في أي إصلاح، وزعزعت ثقتها في الحياة الأرضية فمهدت لاستعمارها واستغلالها.
وبتحليل طاغور الدقيق للحضارات الهندية والغربية، كشف بذهنه الصافي عن أخطاء الحياة الدولية، وعن مدى تأخرها في الروحية؛ ولكي ينقذها مما هي فيه من فوضى وإثم حرض الهند على رفع مستوى حياتها المادية والفكرية في حدود الأصول الروحية حتى لا تكون فريسة سهلة الاقتناص من جهة، وحتى لا يتفشى فيها وباء المادية وأمراض الحياة الغربية من جهة أخرى؛ وبين للغرب أن الإنسان يمكنه أن يفكر، ويكشف القوانين، ويخترع مختلف الآلات، ويبتكر في الفنون والصناعات، ويحافظ في الوقت نفسه على الميول الخيرة في الطبيعة البشرية، ويكون روحياً غيريا محباً للإنسانية، ويتخذ من علمه وفنه وعمله وسائل متعددة للفناء في الله وفي مختلف أجزاء الوجود. فحول طاغور الأنانية إلى غيرية، وحب سيطرة إلى تعاون وتآلف وتحاب، وحول العلوم والفنون والأعمال إلى إضراب متنوعة من العبادة بأن جعل محراب العلم لا يقل طهارة عن محراب المعبد، وسما بقداسة الفن حتى عادلها بقداسة الدين، واتخذ من العمل المنتج الصالح صلاة ترفع بالإنسان إلى خالقه. واعتبرها جميعاً سبلا طيبة تعمل على بلوغ نمط من الرقي الروحي، ينمحي فيه شعور الفرد بشخصيته، ويغمره إحساس عذب بفناء روحه في ذات الله العليا، ويستولي عليه إدراك عميق بوحدانية الوجود.
وعلى هذه الصورة الرائعة طهر طاغور الفكر الإنساني من أشرار الأنانية، وحب السيطرة، ومن نقائض العزلة الفكرية، ومساوئ تجنب الحياة الاجتماعية والعملية، وأخطار النظرات التشاؤمية. وجمع بين نبوغ الغرب في العلوم والفنون، وجده المستمر المتجدد في العمل، وبين عبقرية الشرق الروحية، وتعلقه الوطيد بالحب والتآلف، فوضع للإنسانية دستوراً شريفاً لو اتبعته لتذوقت طعم الراحة والسلام والأمن التي تحن إليها، وتحررت من كل ما ينغص عليها الحياة، وعاشت سعيدة في وئام، يشملها الحب والإيثار، ويضمها الخير والود، ويعلو من شأنها العلم والفن والعمل.
(للكلام بقية)
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات