مجلة الرسالة/العدد 792/الموشحات وموسيقانا الحديثة
→ من ذكرياتي في بلاد النوبة: | مجلة الرسالة - العدد 792 الموشحات وموسيقانا الحديثة [[مؤلف:|]] |
لقد طار لأول مرة. . ← |
بتاريخ: 06 - 09 - 1948 |
للأستاذ حسني كنعان
ظن بعض الناس، وإن بعض الظنِّ إثم، أني بما كتبته عن المعهد الموسيقي الشرقي بدمشق وعن النهضة في الموشحات ولزوم إحياء موات موسيقانا القديمة أنني انبعثت أدعو الناس إلى تعلم هذه النوع من الفن البالي على زعمهم، والعزوف عن الحديث ولزوم مقاطعته، ولذا أخذوا ينعتونني بالرجعي الجامد. ودفعاً للالتباس أريد في كلمتي هذه أن أضع النقط على الخطوط التي تعتلج في ضميري لإحياء قديم هذه الفن والنهوض به فأقول:
ليست الموشحات وحدها هي التي تبعث الموسيقى من رقادها وجمودها، ولا الأدوار والقصائد الموقعة على الأوزان مثل التي كان ينشدها الشيخ أبو العلاء محمد أستاذ الآنسة أم كلثوم، ولا المنولجات الحديثة والأغاني الدارجة التي تسمى (طقاطيق) ولا المواويل والأغاني الشعبية الطاغية في هذا العصر، وإنما الذي ينهض بالفن الجمع بين هذه العناصر جميعها، فحفلة تقوم على نوع واحد ولون خاص من هذه الألوان والأنواع الفنية يكون مآلها الإخفاق والضجر والملل. ولا بد من التنويع، وعدم الاكتفاء بنوع واحد، فالآذان والأرواح تتغذى بالفن كما تتغذى الأبدان، والاقتصار على نوع واحد من أنواع الطعام يفسد المعدة ويدفعها إلى الملل والعزوف عن الأكل. ولقد كان الأقدمون يجعلون الموشحات في المقدمة من حفلات السمر والتلهي، ويليها الدور والقصيدة، والأغنية (الطقطوقة) والموال، وبهذا الترتيب والتنويع كانت تحصل النشوة والطرب وتدوم الحفلات لديهم من مغيب الشمس حتى مطلعها دون أن يعتري السامعين السامرين المغتبطين شئ من الإملال بعكس ما هي عليه حالنا اليوم. نكتفي بعرض قطعاتنا التجارية الرخيصة المبتذلة المخنثة نقلد فيها أبطال مطربي الأفلام السينمائية، فتارة نتغزل بالبنزين: يا أو تمبيل يا جميل ما أحلاك، وتارة بالقطار: يا وبور قل لي رايح على فين. . . وتارة وتارة. . . فلا ينتهي الهزيع الأول من الليل على السَمار حتى يأخذهم من الملل وضيق النفس التثاؤب ويرنق النوم على أجفانهم فيتركون الحفلات دون أن يتمموا المدة المخصصة لختامها.
وهذا ما دعانا إلى امتداح الموسيقى القديمة وطرق عرضها ولزوم إحياء مواتها لنعيد بها ليالي السلف، فنتذوق طعم هذا الفن كما كانوا يتذوقون، ونطرب له كما كانوا يطربون، فأين ليالي اليوم من ليالي أمس في عهد الحمولي، والمنيلاوي، وسلامة حجازي، والبولاقي، والسفطي، وغيرهم من كبار فنانينا الأقدمين؟ وأين الأنس والطرب فيها من ليالينا القاتمة؟ فهذه تنتهي بأسرع وقت، وتلك كانت تدوم حتى مطلع الفجر فلا يعرف السامرون اللاهون كيف كانت تمرُّ لياليهم من شدة لهوهم وهيامهم. ولقد كانت تستغرق آه واحدة من آهات الحمولي كما روي لنا المعاصرون له ساعة كاملة على التحقيق وهو يكررها بمختلف الأنغام، وكل نغمة منها كانت تحدث في السامرين من الشجو أضعاف ما تحدثه سابقتها، ولذا خلده أمير الشعراء ساكن الجنان بقوله فيه:
يتمنى منه أخو الشجو آها ... حين يلحي تكون من أعذاره
يسمع الليل منه في الفجر يا ليل ... فيصغي مستمهلا في قراره
هكذا كانت ليالي الأقدمين، وهكذا كان سحر فنهم. أما ليالي اليوم فإنك لا تكاد تجلس لتسمع فيها إلى صوت مغنية أو مغن، حتى تخالك في مأتم تصغي فيه إلى أصوات النادبين والنادبات والنائحين والنائحات لفسولة غناء هذا العصر وبعده عن مواطن الطرب. . .
فجل الغناء العصري إن لم نقل كله من النوع الحزين الباكي الذي يقتل الشعور المشبوب والعواطف الفياضة. فإذا كنا نحن دعونا الناس فيما كتبناه إلى إحياء موات القديم فذلك لاعتقادنا أن الموشحات القديمة والأدوار تعد قواعد أساسية للفن الموسيقي كالنحو والصرف للتمكن من اللغة العربية، فإذا قدر لمثل صاحب قطعة (بلاش تبوسني بعينيَّ) ولمثل صاحبة قطعة (نامي ياملاكي) الخلود فلن يخلد إلا بالقطعات التي جاريا فيها الأقدمين، كقطعة (يا جارة الوادي) البياتية النغمة، وتلفتت ظبية الوادي، من نغمة الحجاز، وقطعة وحقك أنت المنى والطلب من نغمة السيكا، وقطعة سلوا قلبي، من نغمة الرصد. فهذه قطعات ذات نغمات شرقية جارى بها أصحابها الأقدمين وساروا باللحن على غرارهم؛ فيها وبلحنها لا بغيرها تخلد أسماؤهم وهذا ما حفز الآنسة أم كلثوم على الإيعاز لملحنيها أن يكثروا من تلحينهم لها القطعات ذات الأنغام العربية المعروفة المألوفة، فجددت بهذا شباب فنها الهرم ذي اللوثة الإفرنجية الدخيلة. أما الموشحات التي مرَّ معنا ذكرها في البحث السالف فليست كلها أندلسية، ومعظم المتداول منها الذي يُنشد في الحفلات ويُذاع على الناس من الموشحات التركية المستعربة، ودليلي على ذلك أنه لا يخلو موشح فيها من قولهم في تقاطيعه وطياته من كلمتي (جانم وأمان، يللي ويللالي) ولا جرم أن الموشحات الأندلسية لها قيمتها وروعة معانيها وأنغامها بالنسبة إلى التركية المتداولة المعروفة: وإليك نوعا من هذه الموشحات من النغمة الجهاركاه يُنبئك عن روعة هذا الفن القديم الأندلسي. . .
كللي يا سحب تيجان الربا بالحلي ... واجعلي سوارك منعطف الجدول
يا سما، فيك وفي الأرض نجوم وما ... كلما، أغربت نجماً أشرقت أنجما
وهي ما، تهطل إلا بالطلا والدما ... فاهطلي على قطوف الكرم كي تمتلي
من ظلم، في دولة الحسن إذا ما حكم ... فالسدم، يجول في باطنه والندم
لا أريم، عن شرب صهباء وعن عشق ريم ... فالنعيم، عيش جديد ومدام قديم
أسفرت ليلتنا بالأنس منذ أقمرت ... بشرت بلقا المحبوب واستبشرت
طوِّلي، يا ليلة الوصل ولا تنجلي ... واسلبي سترك فالمحبوب في منزلي
فأين روعة هذا الموشح الأندلسي المقتضب بتصرف من موشحاتنا اليوم. ولو استعرضنا جميع ما تقع عليه العين من الموشحات القديمة لألغيناها من هذا النوع الساحر الأخاذ، وهذا ما حدا بنا إلى الدعوة لإحياء مواتها والعناية بها. فإذا كان الحمولي قد كتب له الخلود فلم يكتب له عن طريق الفنِّ وحده، وإنما كتب له عن طريق التجويد في ابتكار أروع القطعات الأخاذة المعاني، وإليك نموذجاً من أدواره في نغمة الحجاز كار:
الله يصون دولة حسنك ... على الدوام، من غير زوال
ويصون فؤادي من جفنك ... ماضي الحسام، من غير قتال
أشكي لمين غيرك حبك ... أنا العليلي، وأنت الطبيب
أسمح وادويني بقربك ... واصنع جميل، إياك أطيب
وأنا أعرف مغنياً من هذه الطبقة سمعته في حداثتي يدعى محمد سالم، وكان يزيد عمره على المائة سنة، سمعته في حفلة سمر خاصة، وأذكر أن أحد الحاضرين قد استخفه الطرب فقذف بنفسه في نهر يزيد في الربوة بملابسه من شدة ما عراه من الطرب والشجن، وما فتئت إلى الآن أتخيله كالأخطبوط يغوص في النهر يضرب وجهه من غير شعور كأني أشاهده الآن. أما البعض من مطربي هذا العصر فإنك لتهم أن تلقيهم في النهر وتبيدهم تخلصاً منهم، أو أن تلقي بنفسك منتحراً إذا كان ليس بمقدورك أن تلقيهم وتبيدهم فراراً مما تسمعه وتراه. . .
(دمشق)
حسني كنعان