الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 791/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 791/الكتب

بتاريخ: 30 - 08 - 1948

ُتبُ

من الأدب

تأليف الأستاذ قدري العمر

مدير معارف الجزيرة

(هذا الكتاب نتاج دراسة تزيد على ثلاثين سنة، لكن تأليفه تم في شهر واحد، وما أدري أي آرائه يتصل بما قرأت من الكتب وأيها يتصل بنجوى متجاوبة بين النفس والحياة).

هذا ما بدأ به المؤلف المقدمة التي صدر بها كتابه هذا ليعرفه ويعرف القراء نفسه، والقراء لا يعنيهم أن يكون كتاب - مهما يبلغ من الضخامة - قد ألف في شهر أو يوم أو نصفقرن بل يعنيهم أن يجدوا فيه ما ينفعهم ويزيد علمهم ولو كان بضع صفحات. وليست التواليف كما بل ماهية وكيفا، والمعارف تستوي في ذلك فرب علم خلد باكتشاف قانون واحد أو نظرية واحدة، ورب شاعر خلد في لغتنا العربية بقصيدة واحدة. والجدة في أسلوب البحث أو في موضوعه أو في اكتشاف حقائق جديدة تضاف إلى ما عرف منه، وقد يستغني عن الجدة بتبسيط الحقائق وتقريب بعيدها إلى الأذهان، وهذا الكتاب يخلو من الجدة في أسلوبه ومعلومته على السواء، ويكاد يخلو من تبسيط الحقائق وتقريبها.

وهو سبع عشرة مقالة تنقسم قسمين: أحدهما خاص بدرس فكرة أدبية. وثانيهما: خاص بموضوعات من تاريخ الأدب العربي، والقسم الأول أربع مقالات هذه عناوينها. ما هو الأدب؟، الأدب متعة وفائدة، الأسلوب، الابتكار في البيان والقسم الثاني ثلاث عشر مقالة أولها: عنوانها (العصر) وفيها يتحدث عن الثقافة الإسلامية في الشرق أثناء القرن (131 - 323هـ) تليها اثنتا عشرة مقالة في ثلاث شعراء وكاتب خص كل منهم بثلاث مقالات. فأما الشعراء فهم أبو نواس، وأبو العتاهية، وأبو تمام، والمقالة الأولى من الثلاث الخاصة بكل منهم في ترجمته والثانية في شعره والثالثة في أنواع شعره، وأما الكاتب فهو ابن المقفع، والمقالة الأولى من الثلاث الخاصة به في ترجمته، والثانية في كتابته والثالثة في رسائله وكتبه.

ومقالات النوع الأول الأربع التي تدرس كل منها فكرة مقالات مستقيمة منسقة الآراء تد على نضوج هذا الفكر في ذهن المؤلف وتثبته منها وإيمانه بها ولا سيما مقالته (الابتكار في البيان)، ولكن مقالات النوع الثاني الثلاث عشرة فيتاريخ الأدب لا تخلو من غموض واضطراب وتفكك: ففي مقالة (العصر) لم يزد المؤلف على إيراد حقائق التاريخ دون دراسة ولا غربلة ولا استنتاج وفي المقالات الخاصة بالأدباء لم يستطع أن يترجم لواحد منهم ترجمة واضحة ولا أن يرسم له صورة بارزة، ولا أن يربط بين حياته وآثاره ربطاً محكما مع أن كل جهاده انصب على بيان الصلات، بين حياة الأديب وإنتاجه شعراً أو نثراً ومن أجل هذا اهتم اهتماماً خاصاً بحياته.

وهذا المنهج - فيما أرى قاطعاً - أقوم المناهج في دراسة الأدباء والفنانين خاصة والناس عامة، وهو أهدى المناهج وأيسرها لاكتشاف الحقائق الخافية في حياة الإنسان وآثاره على السواء، وحسن الاستقامة عليه كفيل بأن يعصم الباحث من الشطط، وقد عصمه الغلط، فما أفكارنا الخاصة إلا وليدة حياتنا الخاصة: تأخذ عنها وتعطيها، وتتأثر بها وتؤثر فيها. غير أن المؤلف لم يحسن الاستفادة التامة من هذا المنهج الأقوم، وإن استحق التقدير لإيثاره إياه على غيره وصدق نيته في الاستهداء به إن قدرت (الأعمال بالنيات).

ولعل ذلك راجع إلى أن نزعة المؤلف الأدبية سليمة ولكن لا تؤازرها جلسة تاريخية نفادة، وإلى أن ذوقه الفني خير من اطلاعه على حقائق التاريخ وخفايا النفوس وفهمها فهماً علمياً صحيحاً، فإن يكن ذلك فلعل المؤلف منصرف عما خلق له إلى ما خلق، وفي مقالته (الابتكار في البيان) - وهو خير مقالات الكتاب عندي - غنية له عن الإطالة فيما أريد بيانه.

وفي الكتاب أخطاء تاريخية كقوله (ص57 - 58) إن عبد الله بن المقفع ترجم أرسطو. ولا دليل على ذلك وكل ما رجحه الباحثون أخيراً أن المترجم هو محمد بن عبد الله بن المقفع ومن الأخطاء قوله إن النظام اعتزل واصل بن عطاء (شيخ المعتزلة) وقال بتخليد صاحب الكبيرة في النار (ص62) وهذا خطأ من وجهين أحدهما أن واصلا أول قائل بهذا المبدأ وثانيهما أنه مات قبل مولد النظام.

ومنها قوله إن أبا نواس رثى المأمون وقد مات قبل المأمون بنحو عشرين سنة، فلعله يريد الأمين لا المأمون، ومنها (ص62) ذكره الأشعرية في كلامه في القرن (132 - 232هـ) ولم يولد الأشعري إلا بعد ذلك ولم يظهر متكلما إلا قبيل نهاية القرن الهجري الثالث. ومنها ذهابه إلى أن اسم صاحبة أبي العتاهية عبدة (ص151) وهي عتبة جارية الخليفة المهدي، وإنما عبدة صاحبة بشار بن برد. وفي الكتاب تحميل للنصوص أكثر مما تحتمل وتوليدها ما لا يمكن أن تلد (ص97، 102).

وفيه أخطاء ذوقية ففي قصيدة بائية لأبي نواس منها هذا البيت وكلها على منواله:

(يا غراب البين في الشؤ ... م وميزاب الجنابه)

يسمى هذا الشتم هجاء، والهجاء لا يسعى وهو خال من الفن وإلا لعد كل بذاء هجاء ومن ذلك تعقيبه على قصيدة أبي نواس التي منها:

يا قمرا أبرزه مأتم ... يندب شجوا بين أتراب

بقوله: (وما أرق المحب الذي يطلب الموت الدائم للناس ليرى حبيبته) (ص109) وليس قلب كهذا بالأرق ولا الرقيق بل هو قلب أناني مغلق وحشي. ومنها (ص162) وصفه أبا العتاهية بالزاهد ولو اقتصر على وصفه بالمتقشف لأصاب فهكذا كان الرجل، وفرق بين التقشف والزهد، فليس بالزاهد من كان من أحرص الناس على الحياة والمال وأشحهم بهما.

ومن أخطاء الفهم عده مدحاً ببيتي ابن المعذل في أبي تمام وهما:

يا نبي الله في الشع ... ر، ويا عيسى بن مريم

أنت من أشعر خلق الل ... هـ ما لم تتكلم

وهما من الذم المقذع فهو بقوله (يا نبي الله في الشعر) والبيت الثاني يخرجه من الشعراء، لأن الأنبياء - فيما تعورف - ليسوا شعراء وفيه إشارة إلى الآية الكريمة في النبي (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) وفي ندائه (يا عيسى بن مريم) اتهام لأبي تمام بأنه مجهول الأب.

وفي الكتاب قضايا سيقت بلا برهان، وأحكام قاطعة وهي بين الباحثين محل شك أو رفض، وفيه اعتماد على نظريات تربوية ونفسية لم تثبت ثبوتاً قاطعاً ولا راجعاً. وتقسيم أنواع شعر الشاعر إلى حكمة ووصف وهجاء. . . منهج قد يصلح للمبتدئين ولكنه لا يغني في البحوث التي تكتب للشداة فضلا عن الناضجين في المعرفة ولا سيما إذا كانت موضع دراسة (تزيد على ثلاثين سنة) كما قال المؤلف في مقدمته.

ويظهر أن المؤلف لم يطلع على ما كتب حديثاً في ابن المقفع وآثاره حتى ما ألف بالعربية أو ترجم إليها وإلا لما قنع بما اقتصر عليه (يراجع كتاب ابن المقفع للدكتور عبد اللطيف حمزة) والجزء الخاص بابن المقفع من ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي في كل من كتابيه: (تراث الفكر اليوناني، ومن تاريخ الإلحاد في الإسلام) وفي الكتاب أخطاء لغوية وتركيبية لا شك أنها من قلم المؤلف وأخرى ربما كانت منه أو منالتطبيع، هذا إلى كثير غيرها من التطبيع فبعضه لم يصححوبعضه صحح في جدول التصويبات آخر الكتاب ولعلنا ظافرون في الجزء

الثاني بخير مما وجدنا في الجزء الأول.

(القاهرة)

محمد خليفة التونسي