مجلة الرسالة/العدد 791/العزلةوأثرها في الأجناس
→ رحلة في ديار الشام في القرن الثامن عشر (الثاني | مجلة الرسالة - العدد 791 العزلةوأثرها في الأجناس [[مؤلف:|]] |
تعقيب: ← |
بتاريخ: 30 - 08 - 1948 |
للأستاذ مصطفى بعيو الطرابلسي
يهتم الجغرافيون بدراسة مناطق العزلة لأهميتها في الدراسات الجنسية ذلك لأن الأجناس البشرية مهما كانت تابعة لنوع واحد فإنها لا تخلو من وجود اختلاف بين الأفراد. فإذا عزلنا مجموعة خاصة من النوع البشري في إقليم منفصل وتركنا هذه المجموعة في عزلة تامة عما يجاورها لحد ما فلا بد لها بسبب هذه العزلة أن تكتسب صفات جديدة غير موجودة في المجموعة التي اقتطعت منها ثم تقوى هذه الصفات بمضي الزمن واستمرار العزلة حتى يأتي وقت نرى فيه تكوين جنس جديد في هذا الإقليم المنعزل وعلى هذا الأساس يظن بعض العلماء أن الأجناس الثلاثة من سوداء إلى بيضاء وأخرى صفراء قد تكون كل منها في عزلة عن الآخر بهذا الشكل. وتعرف هذه المناطق التي تتكون بها الصفات الجنسية بمناطق التكوين لهذا يجب أن تكون منطقة التكوين إقليما منعزلاً إلى حد كبير ومثل هذه الجهات يقصدها الإنسان إما بالمصادفة أو للبحث عن الرزق ثم يظل بها زمناً طويلا يكتسب فيها بحكم العزلة والبيئة الجديدة وما تتطلبه من حياة خاصة صفات جديدة تصبح فيما بعد من مميزاته الخاصة.
والإنسان بطبيعته شديد الرغبة في الانتقال وقد ساقته هذه الرغبة إلى الانتقال لغير موطنه وترتب على ذلك خلط بين الأفراد ونشأة أجناس وانقراض أجناس أخرى، وقد اشتد الخلط خصوصاً في العصور الحديثة بدرجة تعذر معها الحصول على فرد يمثل جنساً معيناً مع علمنا بأن هذا الجنس موجود في مكان خاص وذلك لأن الصفات الجثمانية لا تتوفر في شخص واحد وإنما توجد موزعة بين الأفراد جميعاً، ولهذا ففكرة وجود جنس نقي تماماً تكاد تكون خيالية حتى في الجهات البعيدة المنعزلة. فمثلا جزر الأندمان التي يظن أنها تقطن بأنقى الأجناس قد وجد في ثقافتها ما يدل على اختلاطها ولا يستبعد أن يكون هذا الاختلاط الثقافي قد حمل معه اختلاطاً جنسياً. والإنسان بطبيعته كسول فهو يتفادى المناطق التي لا يجد فيها راحته ولا يلجأ إليها إلا مضطراً، لذلك كانت الموجات الحديثة تطرد أمامها دائماً الموجات القديمة إلى الجهات السحيقة الغير محبوبة، ولهذا يمكن القول أن سكان مناطق الأطراف أو العزلة يمثلون أقدم العناصر بالنسبة لما يحيط بها.
وهناك فرق بين المناطق المعزولة والمناطق العازلة، فمثلا سهل المجر تحيط به جبال فهو منطقة منعزلة، وأما الجبال نفسها فهي مناطق عازلة. إذن فمنطقة العزلة إقليم وعوامل العزلة ظاهرات تضاريسية أو مناخية أو نباتية أو مائية، فبرودة المناخ في أقصى شمال أوربا جعلت قبائل اللابس في حالة قريبة من العزلة وتعزل الجبال الأجناس بعضها عن بعض حتى إن الجبل الواحد يعزل على كل من جانبيه جنساً خاصاً يتكلم لغة خاصة كما هي الحال في سويسرا أضف إلى هذا أن الجبال كذلك تعتبر ملاجئ للأجناس الهاربة إذ تجد فيها مأوى تلجأ إليه إذا استهدفت لأي خطر يهددها بعكس السهول فهي تساعد على الاندماج بين الأجناس إذا تعددت لانبساطها. أما الغابات الاستوائية في وسط أفريقية فهي ملجأ للأقزام بعد أن كانوا يشغلون كل أفريقية الاستوائية من المحيط الأطلسي إلى الساحل الشرقي المطل على المحيط الهندي بدليل وجود بقاياهم في المناطق الشرقية، ولكنهم لجئوا إلى هذه الغابات على أثر موجات الحاميين التي أخذت تفد على أفريقية عن طريق باب المندب دافعة أمامها العناصر الزنجية إلى مناطق العزلة حيث الغابات كما طردتها إلى الجنوب ومن هناك إلى صحراء كلهاري حيث نجد بعض عناصر من جماعات البوشمن السائرة في طريق الإبادة، وقد كانت جماعات الهوتنتون أول من طردهم، ثم تلتهم جماعات البانتو، حتى إذا ما جاء الأوربيون إلى تلك الجهات في القرن السابع عشر زادوا في إبادتهم وساعد على ذلك أن شعب البوشمن لم يستطع التكيف بالظروف الجديدة.
ونظراً لأن الهجرات البشرية في أفريقية قد اتخذت طريقها من الشرق إلى الغرب، لذلك كانت مناطق العزلة غرب القارة كما توجد أعقد المناطق الجنسية هناك، وهذا ما نلاحظه أيضاً في أوربا حيث أن تيار الهجرات قد اتخذ طريقه من الشرق إلى الغرب عن طريق السهل الأوربي الشمالي الذي يقع بين مرتفعات في الجنوب وأخرى في الشمال فلا تجد الهجرات أسهل من هذا الطريق عند انتشارها على هيئة موجات من الشرق إلى الغرب ولذا كان هذا السهل طريقاً للغزوات في مختلف عصور التاريخ ولا يزال إلى الآن مسرحاً للحروب والقتال، ومما ساعد على تكرار هذه الغزوات أنه لا توجد حدود طبيعية تفصل بين أجزاء هذا السهل، وأصبح من الصعب تحديد الحدود بين دوله المختلفة. وإذا كان مظهر تيار الهجرات في أفريقيا قد اختلف في شكله عما هو في أوربا، فذلك راجع إلى طبيعة المنطقة التي تصل شرقي القارة الأفريقية بغربيها، حيث الغابات بمسالكها الصعبة مما دفع الهجرات إلى الدوران حول هذه المنطقة إما عن طريق الجنوب أو عن طريق الشمال فخففت هذه الدورة من حدة الهجرات وجعلت بينها فترات منتظمة ساعدت على هضم بعضها فلم تكتسب ذلك المظهر الحربي الدموي الذي نطالعه في التاريخ الحبشي لقارة أوربا.
وعند دراستنا لأثر الحاميين الشماليين في زنوج السودان الغربي نجده أقل ما يكون في منطقة الغابات الساحلية، لأنها لا تشجع العناصر الحامية على سكناها وإذا كان الدين الإسلامي نتيجة لذلك قد أخذ ينتشر في الأجزاء الشمالية من السودان الغربي فإن البعثات التبشيرية الأوربية قد انتهزت هذه الفرصة، وأخذت تغزو هذا الإقليم من الجنوب حيث يزاحمها الإسلام هناك ويظهر كذلك في مدى انتشار الدين الإسلامي في المنطقة التي حول بحيرة تشاد إذ نجد هناك بعض قبائل وثنية استطاعت أن تحتفظ بشخصيتها في مناطق المستنقعات على الرغم من تأثير الإسلام في السودان الأوسط، وما ذلك إلا لأن هذه المستنقعات ما هي إلا مناطق عزلة قد لجأت إليها هذه القبائل. أما في منطقة السودان الشرقي فنجد جماعات النوبة تسكن في التلال الواقعة في كردفان والظاهر أنها كانت تسكن السهول أولا، ثم طردتها القبائل العربية الغازية إلى مكانها الحالي وبفضل منطقة السدود استطاعت قبائل النوبة في جنوب السودان المصري أن تقاوم الأثر الحامي الذي يظهر بوضوح في قبائل الشلوك الساكنة بين النيل الأبيض وبحر الجبل.
أما الواحات فيمكن اعتبارها مناطق عزلة لحدودها المنيعة التي يصعب على كل أحد أن يصل إليها، لذا فهي تمثل عناصر نقية إلى حد كبير، وهذا سبب ما نراه في بعض الواحات من عادات ولغات خاصة كما هي الحال في واحة (سيوة) بمصر وواحتي (زلة) و (جالو) في لوبيا. ولكن يجب ألا ننسى أن هذه الواحات كثيراً ما تستخدم محطات لطرق القوافل بين الساحل الأفريقي الشمالي والسودان جنوباً فساعد ذلك على وصول بعض عناصر جديدة إلى هذه الواحات تركت بلا شك أثرها في السكان الأصليين فضلا عن أن أهل البادية كثيراً ما يغزون هذه الواحات ويشاركون أهلها في معيشتهم عند جدب أراضيهم فيختلطون بأهلها ويؤثرون فيهم.
وإذا بحثنا عن مناطق العزلة في أوربا وجدناها قليلة بالنسبة إلى ما هي عليه في أفريقية، وكثيراً ما تكون مناطق العزلة في أوربا نتيجة للسلاسل الجبلية التي تعوق اندماج العناصر. ومن الأمثلة على ذلك جماعة الباسك التي تسكن على جانبي جبال البرانس في أسبانيا وفرنسا حول خليج بسكاي، وهم يكونون شعباً خاصاً لا تؤثر فيه الأقسام السياسية ولا الطبيعية، ولذلك يعلل بعض العلماء وجودهم بأنهم بقايا لأجناس كانت تسكن شبه جزيرة إيبيريا وفرنسا، ثم طردتها عناصر شمالية وأخرى جنوبية إلى هذه المنطقة التي تحتلها الآن. وتتكلم جماعات الباسك لغة خاصة بها ليست متصلة باللغات الآرية، ولا تزال تحتفظ بعاداتها الخاصة أيضاً. غير أنه يلاحظ أن جماعات الباسك في أسبانيا تسير في طريق الانقراض نظراً لاختلاط الأسبان بهم، وربما كان هذا لازدحام المناطق بالسكان الذين اندفعوا إلى جهات الباسك لاستغلالها بعكس ما عليه الحال في فرنسا.
وتبدو آثار العزلة واضحة في أهالي الجزر البريطانية لتطرف موقعها، ولذلك وصلتها موجات الهجرة متأخرة، وليس معنى هذا أن الموجات المختلفة قد صعب عليها الوصول إلى الجزر البريطانية، فالبحر الذي يفصلها عن بقية القارة ليس عميقاً أو متسعاً، بل كان في الواقع عامل ربط أكثر منه عامل فصل. ولكن رغم كل هذا فموقعها المتطرف خصوصاً الأجزاء الغربية منها وجزيرة أيرلندا قد أعطاها ما يلائم حالة العزلة كما أن طبيعة البلاد وما نلاحظه من وجود السهول في الشرق والمرتفعات في الشمال والغرب قد جعل اتصال العناصر بعضها ببعض صعب، ولذا تعسر الموجات التي أتت من الشرق أن تؤثر كثيراً في الجهات الغربية، وكان في معظم الأحوال الوصول إلى الغرب يتم عن طريق الدوران حول الجزر البريطانية.
وقد أثرت هذه الحالة في تاريخ إنجلترا السياسي فهي لا تشترك في المسائل الخارجية إلا بقدر ما يمس مصالحها. وأصبحت سياستها الحربية تدور حول محور موقعها فحيث أنها جزيرة يجب أن تكون أقوى دولة بحرية في العالم، وإلا تسمح لأية دولة أخرى بالتفوق عليها في هذه الناحية. وهناك أثراً آخر لهذه العزلة في تطور النظم النيابية فيها حيث انتشرت الروح الديمقراطية بين سكانها لأن البلاد ليست في حاجة إلى قوة عسكرية دائمة بفضل موقعها الجغرافي، لذلك كانت السلطة الحاكمة تخشى محاولة الاستبداد بالحكم حتى لا تقوم الثورات في وجهها فتعجز عن قمعها وتعرض سلطتها للزوال. لهذا احتفظت إنجلترا بسياسة التطوع في سلك الجندية ولم تحاول اتباع نظام العسكرة الإجباري إلا في الحرب الكبرى الأولى حين أجبرتها الضرورة على ذلك وبعد إلحاح فرنسا عليها حتى إذا ما انتهت الحرب عادت إلى نظامها القديم، ولكنها في الحرب الأخيرة أيضاً عادت إلى طريقة الإجبار في تكوين جيشها.
ونظراً لما وصلت إليه البلاد من تقدم وديمقراطية فإن جماعة الويلش التي تسكن مقاطعة ويلز ما زالت محتفظة بكيانها الخاص وعاداتها ولغاتها الخاصة بعكس ما تراه في البلاد المتأخرة حيث تضطهد الأغلبية الأقلية، وتعمل على إبادتها.
(مسراته - لوبيا)
مصطفى بعيو الطرابلسي