مجلة الرسالة/العدد 79/الله أكبر!
→ الرسالة في عالمها الثالث | مجلة الرسالة - العدد 79 الله أكبر! [[مؤلف:|]] |
مصر وماء النيل وحوادث الحبشة ← |
بتاريخ: 07 - 01 - 1935 |
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جلسْتُ وقد مضى هَزيعٌ من الليل، أهيء في نفسي بناءَ قصةٍ أُدِيرها على فتى كما أَحَبَّ. . . خبيثٍ داعر، وفتاةٍ كما أَحبَّتْ. . . غذراءَ ومتمجنة؛ كلاهما قد دَرَسَ وتخرج في ثلاثة معاهد: المدرسةِ، والروايات الغرامية، والسيما. وهو مصريٌ مسلم، وهي مصرية مسيحية. وللفتى هَناتٌ وسيئاتٌ لايتنزه ولايتورع؛ وهو مِن شبابه كالماء يغلي، ومِن أناقتِه بحيث لم يبقَ إالا أن تلحقه ناءُ التأنيث. . . وفد تشعبت به فنون هذه المدينة، فرفع اللهُ يده عن قلبه لا يبالي في اي أوْدِ يتها هلك. وهو طلبُ نساء، دابه التجوال في طرقهن، يتبعهن ويتعرض لهن، وقد الفته الطرق حتى لو تكلمت لقالت: هذا ضرب عجيبٌ من عربات الكَنْس. . .!
وللفتلة تبرُّجٌ وتهتك، يَعْبَثُ بها العبث نفسه، وقد اخرجتها فنون هذا التأنثِ الاوربي القائم على فلسفة الغريوة، وما يسمونه (الادب المكشوف) كما يثوره اولئ الكتابُ الذين نقلوا إلى الانسانية فلسفة الشهوات الحرة، عن البهائم الحرة. . .! فهي تبرزُ حين تخرج من بيتها، لا إلى الطريق، ولكن إلى نظرات الرجال؛ وتظهر حين تظهر، مُسوَّرةً لا بتلون نفسها مما يجوز وما لايجوز، ولكن بتلون مِراتها مما يُعجب وما لا يُعجب
وَكِلا ثْنيهما ل يُقيم وزناً للدين، والمسلم والمسيحيُّ منهما هو الاسم وحده؛ إذ كان من وَضع الوالدين رحمهما اللهّ والدين حرية القيد لا حرية الحرية؛ لإنتَ بعد ان تُقيد رذائلك وضراوتك وشر وحيوانيتك - أنت من بعد هذا حرٌّ ماوسعتك الارضُ والسماء والفكر؛ لأنك من بعد هذا مُكملٌ للانسانية مستقيمٌ على طريقتها. ولكن هَبْ حِماراً تفلسفَ واراد أن يكون حراً بعقله الحماري؛ أي تقرير المذهب الفلنسفي الحماري في الادب. . . فهذا إنما ينبغي إطلاق حريته، اي تسليط حماريته الكاملة على ما يتصل به من الوجود
وتضى قصتي في أساليب مختلفة تمتحن بها فنونُ هذه الفتلة شهوات هذا الفتى، فلا يزال يمشي من حيث لا يصل، ولاتزال تمنعه من حيث لاترده؛ وما ذلك من فضيلةٍ ولا امتناع، ولكنها غزيرةُ الانوثة في الاستمتاع بسلطانها، واثباتها للرجل ان المرأة هي قوة الانتظار وقوة الصبر، وأن هذه التي تحمل جنينها تسعة أشهر في جوفها، تُمسك رغبتها في نفس مدة حَملٍ فكريٍ إذا هي أرادت الحياة لرغبتها، ليون لوقوعها وتحققها مثلُ الميلاد
ولكن الميلاد في قصتي لايكون لرذيلة هذه الفتاة، بل لفضيلتها. فان المرأة في رأيي - ولوكانت حياتها محدودةً من جهاتها الاربع بكبائر الاثم والفاحشة - لايزال فيها من وراء هذه الحدود كلها قلبٌ طبيعته الامومة، أي الاتصالُ بمصدر الخلق، أيْ فضائل العقيدة والدين؛ وما هو الا أن يتنبه هذا القلبُ بحادثٍ يتصل به فيبلغُ منه، حتى تتحول المرأة تحول الارض من فصلها المقشعر المجدب، الى فصلها النضر الاخضر
ففي قصتي تُذْعنُ الفتاةُ لصاحبها في يومٍ قد اعترتها فيه مخافةٌ ونزل بها همٌ وكادتها الحياةُ من كيدها؛ فكانت ضعيفة النفس بما طرأ عليها من هذه الحالة. وتخلو بالفتى وفكرها منصرفٌ إلى مصدر الغيب، مؤملٌ في رحمة القدر. ويخلبها الشابُ خَلاَبةَ رُعُونته وحبه ولسانهِ، فيعطيعا الألفاظ كلها فارغة من المعاني، ويقر بالزواج وهو منطوٍ على الطلاق بعد ساعة. فاذا اوشكت الفتاة ان تصرع تلك الصرعة دوي في الجو صوتُ المؤذك: (الله أكبر!)
وتُلْسَعُ الفتاة في قلبها، وتتصل بهذا القلب روحانيةُ الكلمة، فتقع الحياة السماوية في الحياة الارضية، وتنبه العذراءُ إلى ان الله يَشهدُ عارَها، ويَفْجَؤُها انها مُقدمةٌ على ان تُفيد من نفسها ما لا يصلحه المستحيل فضلاً عن الممكن، وترنو بعين الفتلة الطاهرة من نفسها إلى جسم بفيٍ ليستْ هي تلك التي هي؛ وتنظر بعين الزوجة من صاحبها إلى فاسقٍ ليس هو ذا الذي هو؛ ويَحْكي لها المكان في قلبها المفطور على الامومة - حكايةً تثور منها وتشمئو؛ ويصؤخ الطفلُ المِسكينُ صَرْخته في أذنها قبل ان يُولد ويُلقى في الشارع. . .!
الله أكبر! صوتٌ رهيبٌ ليس من لغة صاحبها ولا من صوته ولا من خِسته، كأنما تفرغ السماءُ فيه مِلء سحابةٍ على رِجْسِ قلبها فتنفيه حتى ليس به ذرةٌ من دَنَسِهِ الذي رَكِبَهُ الساعة. كان لصاحبها في حِس أعصابها ذل الصوتُ الأسودُ المنطفيء المبهم، المتلجلج مما فيه قوة شهواته؛ وكان للمؤذن صوتٌ آخر في روحها؛ صوتٌ أحمر مستعلُ كمْعَعَةِ الحريق، مجلجلٌ كالرعد، واضحٌ كالحقيقة، فيه قوة اللهّ!
سمعتْ صوتَ السلسلة وقَعْقَعَتها تُلوَى وتُشد عليها، ثم سمعتْ صوتَ السلسلة بعينها يُكسر حديدُها ويتحطم كانت طهارتُها تختنق فنفذتْ إليها النسمات؛ وطارت الحمامةُ حين دعاها صوتُ الجو، بعد أن كانت أَسَفتْ حين دعاها صوتُ الأرض. طارت الحمامة، لأن الطبيعة التفتتْ فيها لفتةً أخرى.
ويكرر المؤذن في ختام أذانه: (الله أكبرُ الله أكبر!) فاذا. . .
- * *
وتَبلدَ خاطري فوقفتُ في بناء القصة عند هذا الحد، ولم أدرِ كيف يكون جوابُ (إذا. . . .) فتركتُ فكري يعمل عمله كما تُلْهِمه الواعيةُ الباطنة، ونِمْت. . . .
ورأيتُ في نومي أني أدخل المسجد لصلاة العيد وهو يعجُّ بتكبير المصلين: (الله اكبرُ الله أبر!) ولهم هديرٌ هدير البحر في تلاطمه. وأرى المسجد قد عص بالناس فاتصلوا وتلاحموا؛ تجد الصف منهم على استوائه كما تجد السطؤَ في الكتاب، ممدوداً محتبكاً ينتظمهُ وضْعٌ واحد، وأراهم تابعوا صفاً وراء صف، ونسقاً على نسق، فالمسجد بهم السنبُلة مُلئتْ حباً ما بين أولها وآخرها؛ كلُّ حبة هي في لفٍ من اهلها وشملها، فليس فيهن على الكثرة حَبةٌ واحدة تُميزُها السنبلة فَضل يمييز، لا في الأعلى ولا في الأسفل
وأقف متحيراً مُتلدداً ألتفتُ ههنا وههنا، لا أدري كيف أخلُصُ إلى موضع أجلس فيه؛ ثم أمضي أتخطى الرقاب أطمع في فُرْجةٍ اقتحمها وما تنفرج، حتى انتهىَ إلى الصف؛ وانظرُ إلى جانب المحراب شيخاً بادناً يملأ موضع رَجلين وقد نفح منه ريحُ المسك، وهو في ثيابٍ من سُندُسِ خُضر. فلما حاذْيته جَمع نفسه وانكمش. فكأنما هو يُطوي طياً، ورأيت مكاناً وسعني غحططتُ فيه إلى جانبه وأنا اعجبً للرجل كيف ضاق ولم اضيق عليه، وأين ذهب نصفه الضخم وقد كان بعضه على بعضه زيماً على زيمٍ وامتلاءً على امتلاء.
وجعلتُ أْحدُسُ عليه طني، فوقع في نفسي انه ملك من ملائة الله قد تمثل في الصورة الآدمية فاكتتم لأمرٍ من الأمر
وضج الناسُ: (الله أكبرُ الله أكبر!) في صوت تقشعر منه جلودُ الذين يخشون ربهم، غير أن الناس مما ألفوا الكلمة ومما جهلوا من معناها - لا يسمعونها إلا كما يسمعون الكلام، اما الذي إلى جانبي فكان ينتفض لها انتفاضةً رحبتني منع رجا، إذ كنت ملتصقاً به مناكباً له؛ وكأن المسجد في نفضه إيانا كان قطاراً يجري بنا في سرعة السحاب، فكل ما فيه يرتج ويهتز. ورأيت صاحبي يّذْهل عن نفسه، ويتلألأ على وجهه نورٌ لكل تكبيرة، كأن هناك مصباحاً لايزال ينطفيء ويشتعل؛ فقطعتُ الرأي انه من الملائكة
ثم اقيمت الصلاةُ وكبر الامام وكبر اهلُ المسجد، وكنت قرأتُ أن بعضهم صلى خلف رجلٍ من عظماء النفوس الذين يعرفون الله حق معرفته؛ قال: فلما كبر قال: (الله) ثم بُهت وبقي كأنه جسدٌ ليس به رُوح من إجلاله لله تعالى؛ ثم قال: (أكْبَرْ) يَعْزِم بها عزماً، فظننتُ أن قلبي قد انقطع من هيبة تكبيره. قلتُ أنا: أما الذي الى جانبي فلما كبر مد صوته مداً ينبثق من روحه ويستطير، فلو كان الصوتُ نورً لملأ ما بين الفجر والصُّحى
- * *
وعرفتُ واله من معنى المسجد ما لم أعرف، حتى كأني لم ادخله من قبل، فكان هذا الجالسُ الى جانبي كضوء المصباح في المصباح، فانكشفَ لي المسجدُ في نوره الروحي عن معانٍ ادختني من الدنيا في دُنيا على حِدَة. فما المسجدُ بناءً ولا مكاناً كغيره من البناء والمكان، بل هو تصحيحٌ للعالم الذي يموج من حًوْله ويضطرب؛ فان في الحياة أسبابَ الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها، وهذه كلها يمحوها المسجد إذ يجمع الناس مراراً في كل يوم على سلامة الصدر، وبراءة القلب، وروحانية النفس؛ ولا تدخله إنسانية الانسان إلا طاهرة منزهةُ مسبغةً على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعارَ الهرِ الذي يُسمى الوضوء، كأنما يغسل الانسان آثار الدنيا عن أعضائه قبل دخوله المسجد.
ثم يستوي الجميعُ في هذا المسجد استوا واحداً، ويقفون موقفاً واحداً، ويخشعون خشوعاً واحداً، ويكونون جميعاً في نفسية واحدة؛ وليس هذا وحده، بل يَخرون الى الأرض جميعاً ساجدين لله، فليس لرأسٍ على رأس ارتفاع، ولا لوجه على وجه تمييز؛ ومن ثم فليس لذات على ذات سلطان. وهل تحقق الانسانية وحدتها في الناس بأبدعَ من هذا؟ ولعمري أين يجد العالمُ صوابه إلا ههنا؟
فالمسجد هو في حقيقته موضعُ الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يَزيغُ به الاجتماع. هو فِكْرٌ واحدٌ لكل الرؤس؛ ومن ثم فهو حلٌ واحد لكل المشاكل، وكما يُشق النهر فتقف الارضُ عند شاطئيه لاتتقدم، يُقام المسجد فتقف الارض بمعانيها التُرابية خلف جدرانه لا تَدْخله * * *
وما حَرَكةٌ في الصلاة إلا أولها (الله أكبر) وآخرها (الله أكبر)؛ ففي ركعتين من كل صلاة - إحدى عشرة تكبيرة يجهر المصلون بها بلسان واحد؛ وكأني لم أفطن لهذا من قبل، فأيُّ زِمامٍ سياسي للجماهير وروحانيتها أشدُّ وأوثقُ من زمام هذه الكلمة؟
- * *
ولما قُضيت الصلاةُ على المَل وسلم علي، ورأيته مقبلاً محتفياً، ورأيتني أثيراً في نفسه، وجالت في رأسي الخواطر فتذكرتُ القصة التي أريد أن اكتبها؛ وأن المذن يكرر في خاتمة أذانه: (الله أكبرُ الله أكبر) فاذا. . . .
وقلت لَلأْسألنه، وما أعظم أن يكون في مقالتي أسطرٌ يُلهمها ملك من الملائكة! ولم أكدْ أرفع وجهي اليه حتى قال: (فاذ لطمتان على وجه الشيطان؛ فَولَى مُدبراً ولم يُعقب؛ ووضعت الكلمةُ الآليةُ معناها في موضعه من قلب الفتاة، فلأياً بلأيٍ ما نجت
إن الدين في نفس المرأة شعورٌ رقيق، ولنه هو الفولاذُ السيكُ الصلبُ الذي تُصفح به أخلاقها المدافعة
الله أكبر! أتدري ماذا تقول الملائكة إذا سمعت التكبير؟
إنها تنشد هذا النشيد:
- * *
بَينَ الوقتِ والوقتِ من اليوم تَدقُ ساعةُ الاسلام بهذا الرنين: الله أكبرُ الله أكبر، كما تدق الساعةُ في موضعٍ ليتكلمً الوقتُ برنينها
- * *
الله أكبر. بَيْن ساعاتٍ وساعاتٍ من اليوم ترْسِل الحياةُ في هذه الكلمة نداءها تهتفُ: أيها المؤمن، إن كنتَ أَصبْتَ في الساعات التي مضتْ، فاحتهدْ للساعات التي تتلو؛ وإن كنتَ أخطأتَ، فكفر، وامحُ ساعةً بساعة؛ الزمنُ يمحو الزمن، والعملُ يغير العمل، ودقيقةٌ باقيةٌ في العمر هي أملٌ كبير في رحمة الله
- * *
بين ساعات وساعات، يتناول المؤمنُ ميوانً نفسه حين يسمع: الله أكبر. . ليعرف الصحة والمرضَ من نيته؛ كما يضَعُ الطبيب لمريضه بينَ ساعاتٍ وساعاتٍ ميزان الحرارة
- * *
اليومُ الواحد في طبيعة هذه الارضُ عمْرٌ طويل للشر، تكاد كلُّ دقيقةٍ بشرها تكون يوماً مختوماً بِلَيْلٍ أسود؛ فيجب أن تقسمَ الأنسانيةُ يومها بعدد قارات الدنيا الخمسْ، لأن يومَ الأرض صورةٌ من الأرض. وعند كل قسم: من الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعِشاء، - تصيح الأنسانيةُ المؤمنةُ مُنَبهةً نفسها: الله أكبر، الله أكبر
- * *
بين ساعات وساعات من اليوم يَعْرِص كل مؤمن حسابَه، فيقوم بين يَدَي الله ويرفعه إليه. وكيف يكون من لا يزال ينتظر طولَ عُمره بين ساعاتٍ وساعات - الله أكبر.
- * *
بين الوقت والوقت من النهار والليل تدوي كلمةُ الروح: الله أكبر. ويُحييها الناسُك الله أكبر. لعتادَ الجماهير كيف يُقلدون الى الخير بسهول، وكيف يحققون في الأنسانية معنى اجتماع أهل البيت الواحد؛ فتكون الأستجابةُ إلى كل نداء اجتماعي مغروسةً في طبيعتهم بغير أستِكْراه
- * *
النفس أسمى من المادةِ الدنيئة، وأقوى من الزمن المخرِب، ولا دِينَ لمن لا تشمئزُّ نفسُه من الدناءة بأنَفَة طبيعية، وتحمل همومَ الحياة بقوةٍ ثابتة
لا تضطربوا؛ هذا هو النظام، لاتنحرفوا؛ هذا هو النهجْ. لاتتراجعوا؛ هذا هو النداء. لن يَكْبرَ عليكم شيءٌ ما دامت كلمتُكم: الله أكبر.
طنطنا
مصطفى صادق الرافعي