الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 789/عالم الغيب

مجلة الرسالة/العدد 789/عالم الغيب

بتاريخ: 16 - 08 - 1948


الجن في منطق الأساطير

للشيخ محمد رجب البيومي

وقد كان أرباب الفصاحة كلما ... رأوا حسنا عدوه من صنعة الجن

(أبو العلاء)

يتطلع الإنسان للأسطورة في تلهف، ويطالعها مرات عديدة في تشوق، وهي على غرابتها وافتعالها تبعث في العقل نشاطا موفوراً، وتخلق في النفس متعة حبيبة. وقد رزقت الأسطورة في الغرب مكانة ممتازة، فوضعت لها الأسفار المتشعبة شارحة جامعة، وخدمتها الأقلام القوية محللة ممللة، فهذا باحث يستنبط منها المعنى الخفي، فإذا تعذر فهمه خلقه اختلافاً، وانتزعه انتزاعاً، وهذا روائي يلونها بأصباغ فاتنة، فيخلع عليها من خياله الرائع حلة زاهية، وهذا سمير يطرف بها أصحابه، فينفث في المجلس روحا مرحة تخلب الأفئدة، وتسرى عن النفوس، ولا كذلك الأسطورة العربية، فهي من قومها في هم ناصب، وشجو مبرح، فإذا تعرض لها من بني الضاد باحث أو قصصي أو سمير قوبل بكثير من الاستخفاف، وربما منى بمن يطعنه في ذوقه وعقله. لو دونت الأساطير العربية في سفر واف ورزقت من يتوفر على دراستها دراسة منتجة مركزة، لكان لنا منها - كما أعتقد - معين رائق، وكنز نادر ثمين.

ونصيب الجن من الأساطير عظيم موفور، فقد وضع المتقدمون عن القوم طرائف خالدة، يطالعها القارئ فيضطر اضطراراً إلى تكرارها وإعادتها، لأن الجن من العوالم الغيبة المجهولة، فكل نفس تتوق إلى استيضاح اسرارهم، والوقوف على أساليبهم في السعي والكدح وما من إنسان تنسم ريح الحياة إلا غذى في طفولته بعجائب مدهشة عن الجن، فردت على سمعه الغض أحاديثهم المتوهمة، ونوادرهم المتعددة، حتى إذا شب عن الطوق شبت معه هذه الطرائف، فتصور الجن أبطالا مغاوير يهابهم الإنس، ويذعنون لسلطانهم العتي، وأنت تسأل عن سبب هذا كله فلا تجد غير الأساطير القديمة، تلك التي نمت وترعرعت في نفوس العامة، حتى أصبحت بتوالي الزمن من حقائق ثابتة، يلقنها الصغير في المهد، فلا تبارح مخيلته حتى يغط في رقاده الأبوي العميق!!

ولا نجد بأيدينا من المصادر المعتمدة فيما يتصل بالجن غير ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فقدذكر الله عز وجل في كتابه بعض ما كان يعتقده الجن، حيث كانوا يعوذون برجال منهم إذا ضربوا في البيداء واشتمل عليهم الظلام حذروا مما يتأكدونه من بطشهم العارم، وقوتهم الخارقة، كما ذكر إيصال الجن بالسماء قبل البعثة النبوية، فيسترقون السمع، ويتنبئون بالغيب، وبين - جل ذكره - كيف حرم عليهم الاستراق. فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا. ولك أن تفهم من ذلك سلطان الجن على الإنس، وكيف شغلوا جانبا من تفكير الأعراب وتأملهم، فلا غرو أن وضعوا عنهم الأساطير وأكثروا من نوادرهم العجيبة، فيما سجلته عليهم كتب الأدب وصحائف التاريخ!!

والجن في كل زمان ومكان لغز مبهم تبذل الجهود الدائبة في حله فلا تستطيع أن تفك غامضة. ومن التوافق العجيب أن الأساطير الدائرة حول هذا النوع من المخلوقات، تكاد تكون متحدة متشابهة، فكما تزعم الأساطير العربية قدرة الجن على التشكل والتنوع، وملازمتهم الأمكنة الخالية، وظهورهم مع الأشباح في حندس الليل، كذلك نجد الأساطير الأوربية تؤكد هذا الزعم، واقرأ إن شئت ما سطره شكسبير في روايتي: (العاصفة) (وأبيرون) تجد حديثا مسهبا عن الجن لا يكاد يخرج عما تطالعك به الخرافات البدوية، بل عما سمعته في طفولتك من العجائز الأميات!! اللهم إلا بعض اختلافات يسيرة تحتمها طبيعة المكان، وظروف المناخ. فالأخبار العربية (مثلا) تؤكد ظهور الجن بكثرة في الفيافي والقفار، والأساطير الأجنبية تعلن وجود هذا النوع في أعماق المحيطات، وشواطئ البحار. وقد يكون ما ذكرناه من التشابه راجعا إلى اتفاق المصادر السماوية في الحديث عن الجن، فكانت عنصراً هاما للتوليد والاستنتاج ويجب أن لا ننسى أن ثقافتنا الحديثة، قد وقفت حائلا منيعا أما أساطير البدو عن الجن وسائر الكائنات الغيبية، فلم تصادف من الذيوع ما صادفته الخرافات الأجنبية، لأن القريحة العربية الحديثة التي ارتوت بفيض زاخر من العلوم العقلية تزن كل حديث بميزان المنطق، فما رفضه الفكر السديد حاربتة وفندته، ولكن الغربيين قد احترموا الخيال كما احترموا الحقيقة على السواء فهم مع تسليهم بوهم هذه الأساطير قد اتخذوها مجالا للعبرة والعظمة، فاستنبطوا منها المغزى الخلقي، والمرمى الإنساني. وقد تكون الأسطورة تافهة لا تهدف إلى غرض، ولعل واضعها أبله غر نطق بها كما اتفق له، ولكنهم يكدحون أذهانهم في التحليل والاستنتاج حتى يظفروا بما يريدون، أما الذهن العربي الحديث فقد احتقر هذه الأساطير احتقارا تاما، ورمى قائلها وسامعها معا بالجنون والغفلة، وأنا لا أدري لماذا لا نجعلها من قبيل الأمثال الفرضية الذائعة في الأدب الجاهلي، فنسلم أولا بوضعها، ثم ندلف إلى استنتاج العبرة من حوادثها كما يفعل الأوربيون سواءبسواء؟. .

وعلى أن اكثر هذه الأساطير تهدف إلى الشجاعة والمروءة وما إليهما من الشمائل التي تشربها البدوي، وسرت في عروقه مع الدم في مجرى واحد، فكان علينا أن نجعل منها أداة صالحة للتهذيب والتعليم فتضم إلى غرابة المنحى وطرافة التفكير، روعة المغزى وجمال الهدف، وإليك هذا المثال مع الإيجاز.

خرج عبيد بن الأبرص إلى الصحراء في نفر من صحبه فسد عليهم الطريق شجاع أسود قد فتح فمه فتدلت مشافره كالبعير، وكان غريب الخلقة ترمى عيناه بالشرر حتى ما يطيق أحد ان ينظر إليه، وقد احترق جانباه من الرمضاء فاصطبغا بلون مرعب، فصاح القوم بعبيد: دونك هذا الجني فاقتله، ولكن الشاعر عمد إلى إداوة من ماء فصبها عليه، فانفتل إلى حجره شاكرا قانعا، ثم سار القوم فقضوا حوائجهم وقفلوا راجعين، غير أن عبيدا قد أضل بعيره، فسدت السبل في وجهه وداهمه الليل بكلكله الثقيل، فوقف متحيرالا يدري ما يصنع في ظلام البيداء إذا بهاتف من عدوة الوادي يصيح

يا صاحب البكر المضل مركبه ... دونك هذا البكر منا فاركبه

فالتفت الرجل فإذا بكره بجانبه، ومعه بكر آخر يرشده إلى الطريق، فركب والخواطر تملأ فؤاده ورأسه، إذ يفكر في صاحب هذه اليد البيضاء، من هو؟ وكيف اختصه بالرعاية؟ ولكن الهاتف لا يتركه يمعن في شعاب أوهامه بل يصيح:

أنا الشجاع الذي ألفيته رمضاء ... في رمله ذات دكداك وأعقاد

فالخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أقبح ما أوعيت من زاد

فعلم الشاعر أن الجميل قد رد إليه وأوفاه، فأخذ السير إلى مقصده في فرح وابتهاج!!

فماذا تقول عن هذه الأسطورة؟ إننا نتعب أنفسنا في إنكار وقوعها، كأنه - وهو الواضح البديهي - مجال فسيح للنقاش والجدال، أما أن نستخرج منها المغزى الرائع، فنبين لقارئها كيف ينفع المعروف صاحبه فهذا ما لا تفكر فيه على الإطلاق، فلا عجب أن ضاعت لدينا قيمة هذه الأساطير!!

وقد يدهش القارئ لازدحام الأسفار الأدبية بأقاصيص الجن، بل ربما تعجب ممن عكفوا على اختلافها عكوفا دائبا، والحق أن هناك عوامل قوية فرضت هذا العكوف فرضا لازماً، حيث كان الواضع يجد في عمله مغنما وافرا يدفعه إلى الاستزادة والتوليد، فكثير من الناس - كما أسلفنا - يحرص على الإلمام بما في العوالم المجهولة من أسرار، وكأنه غضب أن يقف علمه عند ما يقع تحت سمعه وبصره، فعمد إلى استنطاق الأساطير وجمع الخرافات، وخاصة إذا كان فيما يحصله من الغرابة والطرافة ما يدعو إلى استيعابه، فهو يلجأإلى من يتوسم فيه المعرفة، فيمتعه بنادرة معقولة تدخل في هذا الباب، وما تلبث أن تسير بها الركبان من مكان إلى مكان، وهي في كل دقيقة تتزايد وتعظم، ويجري فيها الخيال الخرافي مطلق العنان حتى تخرج من دائرة المعقولات إلى حيز المحالات، وأنت تقرأ الأسطورة الجنية في كتاب متقدم فلا ستغربها، ثم تجدها انتقلت إلى كتاب آخر وقد اكتسبت كثيرا من المبالغة والتهويل فتفق عندها كالمستغرب، فإذا انتقلت إلى سفر ثالث بدت صورة مجرفة مضخمة، تتناكر مع الصورة الأولى تمام التناكر، فإذا كان التأليف المفيد لا يسلم من الافتعال الملموس، فما بالك بالسمر الذي لا يعرف القيود والحدود بل ينطلق من الأفواه كما شاء الخياليون. ومهما يكن من شيء فإن الأسباب الدافعة إلى الاختلاق لا تخرج عن عوامل ثلاثة: دينية، مادية، خلقية. وماذا نصنع وقد تكون لنا ثالوث مرح ساذج يمتع الأفئدة ويرفه عن النفوس!!

ونحن بادئون بالحديث عن العامل الديني، فنذكر أن مفسري القرآن ورواة الحديث، وأصحاب السير، قد ساهموا بنشاط وافر في هذا الميدان، فقد عولوا جميعا على استهواه العامة بما يقصون من أنباء، كما وقع في نفوسهم أن الغابة تبرر الوسيلة، فلا عليهم إذا وضعوا التفاسير الكاذبة، ولفقوا الأحاديث الموضوعة، ما دامت تجذب إليها القلوب وتدفع سامعها إلى الإيمان والتصديق، فإذا أراد أحد هؤلاء يحض على الصدقة - مثلا - لجأ إلى الخرافات المزعومة فأسهب فيها كما أراد، ثم لا ينسى أن يخص الجن بنبذ كريمة من وعظة، فينتقل عن الحاكم بإسناده ما ملخصه أن أبى بن كعب رأى شبحا يأكل من تمرة، فقال له من أنت؟ وأمسك بيده فإذا هي كف كلب، فصاح به أجني أم إنسي؟ فقال بل جني! قال وما حمل على ذلك؟ فقال له: لقد علمت أنك تحب الصدقة فأحببت أن أصيب من طعامك لتثاب من الله، ثم أخبر الرسول بذلك فقال: صدقك الخبيث.

وإذا أراد أحدهم أن يدفع الناس إلى الاستغفار، وذكر الله لا ينسى أن يلم بحديث الجن فيذكر جانبا من استغفارهم وأدعيتهم، ويزيد فيحكى من الأخبار الملفقة مال نجد داعيا لنشره على القراء. وقد يبالغ بعضهم فيخص آيات من القرآن بفوائد نافعة هي إبعادها الجن عن كل مكان تقرأ فيه، وفي حياة الحيوان الكبرى للدميري صفحات مملوءة بهذه الأعاجيب!! وقد نسب أكثرها زورا وبهتانا إلىرسول الله، وليت شعري ما نقول لهؤلاء الذي أسدلوا على عقلوهم حجبا كثيفة حين اتعبوا أنفسهم في تسطير هذا الهراء.

على أن وضاع الحديث لم يبلغوا شأو رواة السير في هذا المضمار، فقد تفنن الأقدمون من المؤرخين في اختراع الأوهام الباطلة، أو على الأقل في تسجيلها بكتبهم المتداولة دون مناقشة أو تعليل، فما من كاتب متقدم بذكر بعثة محمد ﷺ إلا تعرض لما قالته الجن في ذلك الشعر!! وما أوحته إلى الكواهن من غريب الأنباء. وقد يستغل كثير منهم ما ورد في القرآن عن الجن فيفسره كما يمليه هواه، وما ظنك بتفسير مشوه، لا يعمد إلى إيضاح المعنى وتركيزه بل يحيطه سياج مديد من الأساطير، كأن كتاب الله وصحف السيرة لا تفهم بغير هذه المحالات؛ وقد زعم بعضهم أنه ركب بحر الخزر فضللت ريح الشمالمركبه حتى بلغ جزيرة قاحلة ليس بها أنيس، فشاهد شجرة ضخمة قد استند إليها شيخ هائل، فتقدم إليه، فسأله الشيخ من انت؟ فقال من العرب؟ فجعل يسأله عن الجرهمي وعن فلان وفلان، حتى انتهى إلى عبد المطلب فسأله عن ابنه محمد الهادي، فقال له: قد مات منذ زمن، فشهق شهقة عظيمة، وانتفض كالفرخ، ثم أخذ ينوح ويبكي، وقال أنا السفاح بن الرقراق الجني، أعرق التوراة والإنجيل، وقد اختبأت في هذه الجزيرة يوم أن أطلقت الطوالق المقيدة، من وقت سليمان وكنت اطمع أن أرى محمداً، فإذا رجعت إلى المدينة، فأقرأ السلام على قبره وبلغه أطيب التحيات)!!

فهذه أسطورة مقتضية من مئات تدور حول التبشير بنبوة الرسول، ولا أدري كيف كانت تقابل من السامعين بالارتياح، وكيف أبقى عليها الزمن فخلدت في بطون الأسفار؟ وليس بعيدا أن نرى في العصر الحاضر من يتعصب كمعجزة خارقة؟ وكم في الناس من أغبياء!

ويجب أن يفهم أننا لا ننكر البشائر النبوية التي آذنت ببعثة الرسول العظيم، بل نؤيد جميع ما ذكرته الكتب الصحيحة، مما يخضع للناموس الطبيعي، ولا يصطدم مع التفكير المستقيم، ومن ذلك - فيما يتعلق بهذا النوع - ما روى عنإسلام سواد بن قارب رضى الله عنه، فقد كان في جاهليته كاهنا تهبط الجن عليه بما تسترق من السمع، فأخبر فيما أخبر به ببعثة الرسول، ووقع الإيمان في قلبه فوفد على الرسول بمكة وأنشد

أناني رئي بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد عهدت بكاذب

ثلاث ليالي قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب

فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب

فهذا خبر لا يعدم الدليل على صدقه، لأن استراق السمع ثابت بنص القرآن، وسواد رحمه الله قد أسلم لربه، وقد اعتز بإيمانه اعتزازا لا يحتمل تخرص وادعاء، حتى أن عمر بن الخطاب قد ذكر مرة بكهانته في الجاهلية فغضب فضبا فعرف في وجهه، فاعتذر إليه أمير المؤمنين وقال له يا سواد، والله ما كنا عليه من عبادة الأصنام شر من كهانتك. فليس بمعقول أن يتحدث عن سبب إسلامه بما لم يقع، فهو إذن صادق مصدق، وإنما الكاذب من يروى الأساطير التي تنتهي إلى عهد سليمان بن داود ثم يكدر بها حياض السيرة المطهرة، وأولى بها أن تأخذ مكانها في (ألف ليلة وليلة) فتتلاقى الأكاذيب وتمتزج الغرائب بالأعاجيب.

(البقية في العدد القادم)

محمد رجب البيومي