الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 788/عصر سلاطين المماليك

مجلة الرسالة/العدد 788/عصر سلاطين المماليك

مجلة الرسالة - العدد 788
عصر سلاطين المماليك
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 09 - 08 - 1948


تأليف الأستاذ محمود رزق سليم

أستاذ الآداب العربي بكلية اللغة العربية

بقلم الشيخ محمد رجب البيومي

عرفت صديقي الأستاذ الجليل محمود رزق سليم - أول ما عرفته - شاعرا مطبوعا، ينظم القصائد العامرة في شتى لا الأغراض الوطنية والاجتماعية والعاطفية، ولقد قرأت له منذ أمد بعيد ديوانه (رحى الربيع) فأعجبت بديباجته المشرقة وتفكيره المستقيم، وعاطفته الدافقة الجياشة.

وعرفته - ثانيا - أديبا منصفاً يسوق آراءه الناضجة، معتزة بأدلتها المقنعة، وبراهينها الدامغة، وذلك حين قرأت له منذ سنوات، مصنفة، القيم عن الأدب الفاطمي وما يليه، فراقني منه إيجازه البليغ، وتحليله الدقيق، ونماذجه الجيدة، المختارة من حر القول، وماثور البيان مما يدل على ذوق محمود، وطبع سليم.

وهاأنذا أعرفه - للمرة الثالثة - مؤرخا دقيقا يكتب عن حقبة مظلمة من التاريخ المصري، فيكشف القناع في براعة، ويميط اللئام في اقناع، فلقد قرأت كتابه الأخير (عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي) فخرجت منه بذخيرة ثمينة من الحقائق التاريخية، كانت مخبوءة عن الناس، مستورة في غواش حالكة من الإبهام، حتى جاء المؤلف فاستنطق المخطوطات العتيقة وقرا المطبوعات العديدة، وتنقل بين المكاتب العربية باحثا فاحصا، وقد حالفه التوفيق فأصدر موضوعة حافلة عن هذا العصر الغامض، تقع في أربعة أجزاء ضخمة. بلغ القسم الأول منها - وهو الذي تقدمه الآن - سبعمائة صحيفة دافقة بالمعلومات الغزيرة، في تركيب سلس وترتيب دقيق.

ولقد وفق الأستاذ محمود في اختيار هذا العصر بذاته، فقد مر به الكاتبون عابسين كالحين، ومن ألم به منهم إلمامه يسيرة، قسا عليه قسوة عاتية في حكمه، فجرده من المحاسن، ووصمه بما هو برئ منه وذلك ما دفع المؤلف إلى كتابة موسوعته الحافلة فأسهب واستطرد، وناقش وجادل، وعلل وحلل، ثم أصدر حكمه النهائي تنطق أدلته بالحق، وتعترف أسانيده بالصدق.

يقول المؤلف في مقدمة كتابه عن هذا العصر المغبون (ولقد راعني ما أصابه من جفاء، وهالني ما ناله من صد، وما رمى به حينا من أنه عصر ظلمة وتأخر، وانحطاط وتقليد مع أنه جليل الخطر، عظيم الأثر ولم تقدم لنا منه الكتب الحديثة إلا صبابة لا تنقع غلة، وثمالة لا تروى طالب نشوة، لذلك أحببت أن أدرسه، وأطيل الوقوف بمعالمه حتى أصل إلى قرار الحق فيه، وعولت على الرجوع إلى ما كتبه بنوه الذين عاشوا فيه، آتياالبيوت من أبوابها، فهم أصدق حديثا، وأقرب مرجعا، وأجمل نجوى، وأغراني البحث والقراءة حتى وجدتني غارقا محيط من مؤلفات لا عدد لها، فيها الغنية لكل أديب، والمنهج لكل ناهج، وهي كالبحر لا ينضب معينه، وكالسيل لا تفيض عيونه، حينئذ انبهرت عيني، وما جت الآمال في نفسي موجا ووددت لو استطعت أن أضع موسوعة جامعة في أدب هذا العصر تكون منه للقارئ بمثابة المائدة الشهية التي تضم ألف طعام وطعام. . . .)

ولقد قصر المؤلف هذا الجزء على التاريخ السياسي للعصر المملوكي ممهدا له بكلمة موجزة عن التاريخ المصري من العهد الفرعوني إلى عهد المماليك، ولجأ إلى الإسهاب حين تكلم عن أضل السلاطين، وكيف انتقل إليهم الحكم من الأيوبيين، ولم يترك من رجال الدولتين (البحرية والبرجية) مملوكا دون أن يخصه بترجمة وافية مذيلة بالمراجع التي ورد إليها الكاتب، وقد اهتم كثيرا برجال السلطنة البارزين كالظاهر بيرس قلاوون والغوري وطومان باي، ثم عرج على نواب السلطنة فأفرد لهم أكثر من مائتي صحيفة تنطق بأعمالهم البارزة، وتسجل على المحسن إحسانه، وعلى المسيء إساءته في دقة وشمول.

على أني أخالف الأستاذ في ناحية هامة تشيع في مؤلفه، فقد حرص كل الحرص على أن يترجم لكل من ولى السلطنة أو ناب عنها وكذلك من تحدث عنهم فيها بعده من القضاة والخلفاء وفي هؤلاء جميعا من لا يستحق أن يكتب عنه سطر واحد، حيث كان فردا عاديا، لم يخلف أثرا، ولم تحدث في عهده من المفاجآتالسياسية ما يدعو إلى الحديث عن زمن ولادته، أو مدة حياته، أو آونة وفاته!! وإنما ولى وعزل وكأنه لم يولد، فلم إذن نتعب أنفسنا في تراجم أصنام آدمية، فذف بها الزمن في قرار سحيق!!

ومن المؤرخين من يسهب في الحديث عن الحكام والرؤساء دون أن يتعرض للحياة الاجتماعية في العصر الذي يؤرخه، وكأنه يؤمن بأن تاريخ الشعب يتمثل في تاريخ ملوكه، ولكن الأستاذ محمود رزق يفطن إلى خطأ هذا الوهم، فيخص القسم الثاني من الكتاب بالكلام عن الناحية الشعبية، فيتعرض للتقاليد والعادات التي شاعت في المجتمع المصري، إذ يصف حفلات الزواج والمآتم والختان، ويتحدث عن ليالي السمر وأيام الأعياد والمواسم، وخروج المحمل وعودته، كما يعتني اعتناء تاما بأخبار النيل والفيضان فيتحدث عن الجسور والتروع والمقاييس ويميل إلى وصف الاحتفال بوفاته السنوي، وإن كان المؤلف لا يجيد - أيضا - عن استقصائه الشامل فهو يملأ أكثر من عشرين صحيفة بأرقام الصعود والهبوط وتواريخ الزيادة والنقص، وهذه مغالاة لا تفيد القارئ في شئ وما دامت هذه الصحائف العديدة تسير على وتيرة واحدة فيكفى أن يسطر الكاتب نموذجا مختصرا منها على سبيل المثال!

ولا أكتم إعجابي بالفصل القيم الذي كتبه المؤلف الفاضل عن القضاة فقد استسقاه من أصفى المراجع، وأبدع في عرضه إبداعا عجيبا، فوصف جلوس السلطان للقضاء، ونظره في المظالم والخصومات، ودلف إلى حقه الشرعي في مصادرة الأملاك، وتدخله الرسمي في أحكام القضاة، مبينا بعض ما حدث من مشادة عاتية بين الحاكم والمحكوم، ثم انتقل إلى القضاء الشرعي، وكيف اختص به الشافعية بادئ الأمر؟ ثم اشترك فيه علماء المذاهب الأربعة على السواء، وما شعور الشافعية إزاء ذلك؟ ومن هو صاحب الحق في العزل والتعين؟ وكيف كان يحدث ذلك؟ وبعد جولة ممتعة في هذا المضمار، ختم فصله الجيد بطائفة من التراجم الموجزة لأعلام الفقة والتشريع، كل ذلك في سلامة ووضوح.

ولقد كان الأستاذ منصفا كل الإنصاف حين تعرض إلى محاسن هذا العصر ومساوئه فذكر من الأولى صد الهجمات المعادية من التتار والإفرنج، ورصد الأوقاف وبذل الأموال، والثانية احتقار السلاطين للشعب وإهمال حقوقه السياسية وفداحة الضرائب وانتشار الجهل والأوبئة والزلازل، وذلك جميل من باحث متحمس كتب كتابة ليمجد العصر المملوكي فدفعته الحقيقة إلى الاعتراف بالواقع المرير.

وبعد فلقد قرأت هذا الكتاب من ألفه إلى يائه، فرأيت من الواجب أن ألفت الأنظار إلى مادته الغزيرة ومعلوماته الضافية راجيا أن يعمل مؤلفه الفاضل على إنجاز ما لم يطبع من أجزائه فنحن إليها في ظمأ شديد. جزاه الله عن صبره الدائب. ومجهوده الشاق أطيب جزاء وأوفاه.

(الكفر الجديد)

محمد رجب البيومي