الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 787/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 787/رسالة النقد

بتاريخ: 02 - 08 - 1948


من حديث الشعر والنثر

حملتني الظروف الراهنة على أن أقف من هذا الكتاب موقف الدارس الناقد، وقد وقفت منه فيما مضى موقف القارئ المستوعب وكان اختلاف الاتجاه في الحالين لاختلاف البواعث التي حدت بي إلى قراءة الكتاب.

قرأته فيما مضى لأستفيد من معارفه إثر ظهوره، وهأنذا أقرأه مع طلابي بمدارس السودان، لأبصرهم بما اشتمل عليه من آراء قيمة وبحوث طريفة لمست منها الدليل الناصع والنهج القويم. غير أني وقفت - واستوقفني طلابي - عند بعض الآراء فلم أجد لها دليل من معقول أو منقول يشفى الغلة ويحمل على التصديق وسأعرض لبعض منها بالدارسة على فيها شيئا من الهداية للطلبة الدارسين.

1 - قتل ابن المقفع:

يعتقد المؤلف بأن إيمان المقفع لم يكن صحيحا فهو يقول (ولكن إيمانه لم يكن فيما ظهر صحيحاً ولا خالصاً لله فقد كتب في الزندقة كتبا كثيرة اضطر بعض المسلمين أن يرد عليها في أيام المأمون. . .)

يعتقد هذا الاعتقاد ثم ينفي أن تكون الزندقة هي التي قتلته دون أن يلتمس لذلك دليلا فلم يزد على أن قال: (أم أنا فأرجح جداً أن الذي قتل ابن المقفع ليست الزندقة. . . .) ونحن لا نجهل أن كثيراً من الباحثين قد دافعوا عن إيمان ابن المقفع إكبارا للرجل وضنا بمثله أن يعود إلى الزندقة وقد من الله عليه بالإسلام وحق لهم وقد حاولوا إبطال هذه التهمة بالدلائل أن يبطلوا ما ترتب عليه من قول القائلين: إن الزندقة هي التي قتلته.

أما الدكتور فيثبت الزندقة ثم ينفي أن يكون القتل بسببها كأنها الأمر الهين الذي لا يستوجب قتلا ولا يستدعي حسابا مع أننا نعلم أن الزندقة في العصر العباسي قد امتحن بها طائفة من المفكرين والأدباء ولم يعنهم حين نزل بهم بلاء الحاكم أقدارهم ولا علمهم وربما قتل بعضهم زورا وعدوانا للشبهة الباطلة التي زيفها الحساد الناقمون.

والمؤلف ينفي كذلك أن يكون العهد الذي كتبه لبعد الله بن علي على أبي جعفر المنصور هو الذي قتله فيقول: (ولم يقتله تشدده في الأمان الذي كتبه لبعد الله بن علي لأنه يوشك أ يكون أسطورة ليس لدينا منها نص).

وأعتقد أن نعت العهد بالبطلان - لأنه لم يصل إلينا - حجة لا تنهض على أساس فكم من عهود أضاعها الزمن، وكم من كتب عفى عليها القدم وبقيت لنا أخبارها فيما بقى من أخبار السابقين، وإذا كان هناك أثر جدير بالضياع فهذا الأثر الذي يعارض مشيئة الحاكم ويقيده بقيود قاسية لا يرتضيها لنفسه ومنها طلاق النساء وتحرير العبيد إذا ما نقض العهد:

على أننا إذا التمسنا سبب القتل فيما كتب الدكتور وجدناه سببا لم يشر إليه نص من التاريخ ولم يقل به من كان في عهد ابن المقفع أو بعده بقليل وهو إلى جانب هذا تلمس لأشياء لم تجد لها قوة السببين السابقين: فهو يقول: إن رسالة الصحابة هي التي قتلته ويسرد منها ما يراه مثيرا لحفيظة الخليفة ومشجعا له على قتل الرجل.

لست أفهم أن تزلف الكاتب إلى الخليفة بنصيحة من النصائح بعد أن يمهد لها بالثناء المستطاب مما يدعو إلى الانتقام والقتل.

ولست أفهم أن إشارته عليه بأن يكرم جند خراسان والعراق وأن يأخذ الحيطة من جند الشام مما يريب الخليفة في أمره إلى الحد الذي يدفعه إلى الفتك به.

ولست أعتقد كذلك أن اقتراحا يتقدم به كاتب فيبسط فيه اختلاف القضاة في الأمر الواحد ثم يرجو أن يكون البت في مثل هذا لولى الأمر مما يكون له كبير أثر في نفوس الحاكمين.

وما جريمة ابن المقفع حين يتوسل إلى الخليفة طالبا (أ، يعينفي الأمصار جماعة من الخاصة يكون أمرهم تأديب العامة ومراقبة أعمالهم فإن العامة لا تصلح بنفسها إلا إذا وجدت مؤدين من الخاصة والخاصة لا تستطيع أن تعيش إلا إذا كان لها من الإمام مؤدب)؟

وأي ثورة أرادها - كما يقول الدكتور - وهو في هذه الرسالة ناصح متودد يرجو أن يبسط الخليفة سلطانه في كل أمر وتنفذ مشيئته في كل عمل؟!

والحق الذي لا شك فيه أن هذه الآراء وأشباهها ليس لها من جلال الخطر ما يرفعها فوق الزندقة أو يحلها فوق مكانة العهد الذي قيد فيه الخليفة بقيود قاسية ما كان أغناه عنها.

2 - بين الكتابة والشعر:

ويرى الدكتور فيما يرى أن الكتابة تختلف عن الشعر والخطابة من حيث فهم الناس لهما فالناس عنده متساوون في فهم الكتابة وفي التأثر بها ولكنهم متفاوتون أما الشعر والخطابة فهو يقول: (ونحن عندنا نقرأ عبد الحميد أو ابن المقفع لا نجد عندهما اللذة الفنية إذا كنا في طبقة واحدة أو اشتركنا في ثقافة واحدة وإنما يقرؤها منا ذوو الثقافة العالية والساذجة والمتوسطة والبسيطة وكلنا يجد لذة ومتعة فنية. بينما تختلف لذتنا في قراءة الشعر باختلاف حظوظنا من الثقافة. فليس كل الناس يقرأ جريرا والفرزدق أو يتذوق زيادا والحجاج. . .)

وأعتقد أن الواقع يخالف هذه القاعدة وضعها الدكتور؛ فأكثر الشعر أوضح في معناه وأبين في فحواه من الكتابة وبخاصة في العهد الذي يتحدث عنه المؤلف؛ فكثير من الناس يفهمون كثيراً من شعر جرير ولكنهم لا يفهمون قليلا ولا كثيرا من المثال الذي ساقه الدكتور لعبد الحميد وقد جاء فيه في وصف الرماح: (معاقص عقدها منحوتة ووصم أودها مقوم، أجناسها مختلفة وكعوبها جعدة وعقدها حنكة شطبة الأسنان محكمة الجلاء. .)

أما الخطابة فالقاعدة المطردة فيها أن تكون أسهل من النوعين ليفهمها السامعون في يسر ويدركوا ما جاء بها في سرعة وإلا ضاعت قيمتها وذهب الغرض من إلقائها.

على أني اتهمت معرفتي أمام هذه الحقائق فعرضت على الطلاب طائفة من شعر جرير وتلوت شيئا من خطبة زياد البتراء فوجدتهم مقبلين متأثرين ثم أقبلنا على الكتاب نقرا ما جاء فيه من رسالة عبد الحميد فرأيتهم أقل تأثرا وفهما.

3 - في كتابة عبد الحميد

ساق المؤلف أدلة ثلاثة حاول فيها أن يثبت أن عبد الحميد الكاتب متأثر بثقافة اليونان وكتابتهم ولست أريد أن أبطل هذا الرأي أو أثبته ولكني أقول: إنني لم أجد في هذه الأدلة - أو على الأقل في اثنين منها - نصاعة أو قوة تحمل على الإقناع:

فأما أحد الدليلين فهو ما ذكره الدكتور حين قال: (وعندي في هذه الرسالة نص بسيط يدلني على أن عبد الحميد كان في هذه الرسالة متأثر إلا باليونانية وحدها بل بما كان مألوفا عند اليونان فهو يقول في نصحه لولى العهد، ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك وثقافتك ونصائحك وتقدم إليهم في ضبطهم) ونحن نعلم أن الوحدات التي كان يتكون منها الجيش البيزنطي كنت وحدتين اللجيو ويتكون من ستة آلاف رجل ثم السنتريو وعدده مائة رجل ورئيس المائة هو السنتريونس (فنظام الجيش هذا ما أشك في أنه متأثر فيه برسائل الحرب عند اليونان.) اهـ

لا أستطيع أن أفهم هذا الكلام إذا حدثني التاريخ أن جيوش العرب قبل عبد الحميد كانت تقاتل جملة ولم يكن لها إلا رئيس واحد وأن هذا الرئيس لم يكن يعتمد في تحريك جيشه على أعوان من الأبطال يتولون جماعات من الجيش يتقدمون بهم أو يحجمون وأنا أعتقد أن تقسيم الجيش سنة طبيعية هدت إليها ظروف القتال والسرعة في إنجاز الأعمال وقد حفظت لنا اللغة كثيراً من الأسماء التي تدل على أن العرب قد فهموا هذا وجربوه في حروبهم: ومن ذلك المقنب والتو والقنبل والمنسر والسرية والحضيرة والجريد وهكذا ومن بين الأسماء ما يدل على المائة وأعتقد أنها كلمات استخدمها العرب قبل عبد الحميد ولم يكن لليونان ولا لغيرهم آثار في وضعها.

أما الدليل الثاني فهو أقل من هذا في المنزلة وأضعف منه في الحجة إذ يتخذ المؤلف تقسيم عبد الحميد لرسالته الطويلة إلى أجزاء أساسا للقول بأنه تقل هذه الطريقة عن اليونان.

يقول الدكتور هذا وهو يعلم حق العلم أنها رسالة طويلة توشك أن تكون كتابا وأنهاتناولت نواحي مختلفة وضروبا عدة. ومن حق الكاتب في مثل هذه الرسائل الطويلة أن يستريح بين الفقرة والفقرة ومن حقه كذلك أن يفصل كل ناحية عن الناحية التي تليها لاختلاف الاتجاهين. وليس من الضروري أن يتعلم عبد الحيمد هذه الطريقة عن أمة بعينها فهي الطبيعة التي يوحي بها طول الرسائل

أقول هذا وأنا مقدر لزعيم الأدب فضله ومعترف بمجهوده الذي أفاد اللغة العربية ونهض بها في بلاد الشرق عامة.

وسأحاول فيما بعد أن شاء الله أن أناقش ما بقى من مسائل على في هذا النقاش بعض الفائدة للطلاب. والله الموفق.

أحمد أبو بكر إبراهيم

المدرس المنتدب بحنتوب الثانوية بواد مدني بالسودان