الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 787/الاتجاهات الحديثة في دراسة التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 787/الاتجاهات الحديثة في دراسة التاريخ

بتاريخ: 02 - 08 - 1948


للدكتور جواد علي سكرتير المجمع العلمي العراقي

تحتل نظرية التطور مكانا بارزا بين النظريات التاريخية، وقد تقوى مركز هذه النظرية بعد تطور مفهومالتاريخ، وظهور ما يسمى بفلسفة التاريخ. وقد ابتدع هذه الاصطلاح الفيلسوف الفرنسي الشهير (فولتير) الذي كبت بحثاً طريفا في عام 1765، وتناول فيه عادات ونفسيات الشعوب، والحضارة البشرية بصورة عامة، وفلسفة التاريخ الإنساني العام، وجعل عنوان هذا البحث أو (فلسفة التاريخ) ومنذ هذا شاع هذا الاصطلاح حتى أصبح عنوانا لموضوع دراسة قائمة بحد ذاتها، ومذهبا من مذاهب التاريخ.

وخلاصة نظرية فولتير أن التاريخ البشري عبارة عن كفاحمستمر نحو عالم أرقى وبشرية أسمى، وتطور دائمي نحو عالم أكمل، أي أنه سار مع أصحاب نظرية التطور، وساير المتفائلين على الرغم من روح التشاؤم التي عرف بها هذا الفيلسوف. وقد استخدم الفيلسوف الألماني (هيردر) هذا الاصطلاح الذي أوجده فولتير في كتابه القيم الذي سماه (آراء في فلسفةالتاريخ الإنساني) وشاع منذ هذه الحين بين الألمان، ثم انتقل إلى سائر اللغات الأوربية الأخرى.

وشاعت (فلسفة التاريخ) في أوربا وحاول أصحاب هذه الدراسة وضع قواعد وأسس كالتي نراها في العلوم الطبيعية لتحويل التاريخ إلى علم مثل سائر العلوم؛ حتى طغت على الطريقة المألوفة في كتابة التاريخ العام، وظهر منهم من رأى وجوب إخضاع (التاريخ العام) لقواعد فلسفة التاريخ، وتحويل (التاريخ) إلى فرع من فروع الفلسفة أو طريقة من طرق (علم النفس) بحيث نتمكن من الإطلاع على النفس البشرية وروحية الإنسانية منذ عرفت إلى ما شاء الله. وقد وجدت هذه النظرية أنصارا ًوأتباعاً في النهاية القرن التاسع عشر وكونت لها مدرسة كبرى كان من أساطينها الفيلسوف (ريكرت و (سيمل) و (ترولش) و (ديلتاي) و (هايدكر) وعلى رأس هؤلاء جميعا الفيلسوف الكبير (ويندلبند) صاحب المؤلفات المعروفة في الفلسفة وفي فلسفة التاريخ.

والتاريخ في الواقع أهم العلوم التي تتأثر بالعواطف والميول الفردية والجماعية والسياسية العامة للدولة والشعوب، ويمكن أن نقول إنه مرحلة تمهيدية للسياسة العملية، ولذلك تحرص الحكومات بجميع أنواعها على الهيمنة عليه وعلى الطرق التي بدون بها هذا العلم، ومن أهم الطرق المعروفة والتي دونت بها كتب التاريخ الطرق الآتية:

1 - الطريقة الثنائية الثيوقراطية في التاريخ، وهي من أقدم الطرق الشائعة حتى اليوم في تدوين التاريخ. وهي الطريقة الرسمية للكنيسة الكانوليكية، ولآباء الكنيسة منذ عهد القديس أوغسطين (354 - 430م) منظم هذه النظرية وواضعها، وقد سيطرت على عقول المؤرخين المسيحيين طيلة القرون الوسطى. ولا زالت تسيطر على عقول كتاب الكنيسة حتى اليوم.

والسبب في تسميتها (ثنائية) أنها تصورت وجود مملكتين (مملكة الله) ومقرها السماء، و (مملكة الشيطان) ومقرها العالم السفلي أو الأرضي، ورئيسها (الشيطان) وهي دولة معادية للخالق وفي حرب مستمرة مع أنصار الله. وقد تأسست هذه الدولة بسقوط لوسفر السماء إلى الأرض، وكان (قابيل) قاتل أخيه (هابيل) أول مواطن في هذه المملكة؛ لأنه استجاب داعي (إبليس) فقتل أخاه، وهو بهذا أول قاتل على وجه الأرض. وأما (هابيل) المقتول فإنه من مواطني مملكة اله. إذ غفر الله له الخطيئة التي ارتكبها آدم وشمله بعفوه ورحمته وأودعه مملكته في المساء.

ودولة (إبليس) على سطح الأرض قائمة ولا زالت تحاول بسط نفوذها على ممالك الكرة الأرضية، وكانت أولى الدول التي استجابت نداءه دول آسية والقيصرية اليونانية - الرومانية. وقد تمكن إبليس بفضل أساليبه المغروفة في الإغراء والهيمنة على العقول من السيطرة على عقول حكام هذه الدول إلى أن ظهر (المسيح) الذي جاء لإنقاذ البشرية وإعادة مملكة الله على هذه الأرض ولرفع (الخطيئة) عن أعناق البشر. فأبى أعداء الله إلا إجابة دعوة إبليس، وقد انتقلت دعوة المسيح إلى الكنيسة فهي التي ترعاها وتدافع عنها وتسعى لتأسيس مملكة الله من جديد ونشر مبادئ الله بين المذنبين.

وقد قسمت هذه النظرية البشر أفراداً وجماعات إلى طائفتين: طائفة أبناء الله) وهي التي آمنت بالله وعملت وفق أحكامه وأوامره وسعت لنشر مبادئه بين الأمم الأخرى، وهي تحب الأمن والسلام وترجو العافية في كل مكان وتبتغي حياة الاستقرار ونشر المحبة، وطائفة (أبناء إبليس) أو (أبناء الشيطان) وهي التي استجابت لدعوة الشيطان وتحزبت له وتجندت في صفوفه، التي وهي قلقة مضطربة لا يستقر لها قرار، تريد الفوضى والتخريب والنزاع فيما بين البشر وسفك الدماء، شأنها في ذلك شأن سيدها الشيطان الذي يحاول بكل ما عنده من حيل ووسائل، العمل على تقويض (مملكة الله) ومساعدة أعمال (الدجال) وتحبيذ فعله ومحاربة (الكنيسة) وتشجيع (الخطيئة) غير أن نجاحه هذا وقتي وستزول مملكته في النهاية وينتصر جنود الله. وعندئذ يكمل التاريخ البشري وتسود المحبة كل الشعوب، وتنقي الخطيئة وتشمل رحمة الله عباده المؤمنين.

فالغاية من هذه التطور التاريخي وفق هذه النظرية مرور البشرية في هذه الأدوار الحرجة التي يكون فيها المؤمن كالقابض على جمرة النار فيمتحن الله فيها عباده، إلى أن تتداعى مملكة إبليس فيحصل (أبناء الله) على شرف (المواطنة في مملكة الأب) ولا يتحقق هذا الهدف إلا إذا دان الإنسان بمبادئالكنيسة، واعتبر كل ما هو موجود على سطح الأرض زائلا لا يدوم، وإن الدوام لله، وإن الأموال واسطة للقربى من مملكة الله، فيجب التصرف فيها وفقا لأوامره ولأحكام التي وضعتها الكنيسة، يشمل ذلك الأفراد والجماعات.

وتسري هذه الأحكام على الدول خاصة، وعلى الحكام أمناء الله على العباد، لأن وظائف الدولة هي وظائف عالية، وبيدها مقدرات ملايين الناس، وقد اختار الناس بمجرد حريتهم أمثال هذه المؤسسات الاجتماعية لخدمة مصالحهم وحقوق الله، فلا يجوز للحاكم أن يحيد عنها ويتعداها فتصبح الدولة دولة من الدول الممثلة لإرادة الشيطان ويكون الحاكم طاغية من الطغاة فيحرم من حق المواطنة في مملكة الله. وتصبح الدولة التي يديرها آلة من آلات الشيطان مسخرة لتنفيذ مبادئه يجب الأخذ بناصر الكنيسة ورجال الدين أولياء الله على الأرض.

ومن هذه النظرية استمد البابوات سلطانهم وحاولوا فرض إرادتهم في القرون الوسطى على الحكام الزمنيين. باعتبار انهم يمثلون السلطات الشرعية التي هي ارفع السلطات وانهم ينفذون أوامر الله بين الناس، وأن ذلك لا يعني العبودية ولا الخضوع لإرادة الكنيسة التي لا تعرف الرق بل تعني التسليم عن اختيار، والإيمان المحض مع الشعور بما يترتب على ذلك من مسئوليات. وقد كانت هذه النظرية مصدر نزاع بين الحكام الذين كانوا يرون في هذه العقيدة سبباً من أسباب التدخل في الأمور الدنيوية التي يجب أن يبتعد عنها رجال الدين، والتي تتنافى مع مبادئ الدين نفسه.

إن هذا التفسير للتطور التاريخي هو تفسير ديني، وهو تفسير يتقارب في الأفكار العامة مع تفاسير رجال الأديان وإن كان يتعارض مع التفاصيل ومن له مصدر هذه السلطات. ويتقارب (البروتستانت) في التفسير التاريخي مع هؤلاء على الرغم من اختلافهم عن الكاثوليك في سلطة (البابوات) ورجال الدين. وربما كانوا أقرب إلى نظرية (أوغسطين) من إخوانهم الكاثوليك.

وممن دافع عن هذه النظرية المؤرخ (بوسويه) (1627 - 1704م) في كتبه التي ألقاها في التاريخ؛ فعنده أيضا ان نهاية التاريخ هي تحرير الإنسانية من (الخطيئة) إقامة حكومة الله. وقد اعترف في كتبه سلطتين في العالم سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، وسلطة الكنيسة بالطبع هي العليا لأنها تمثل مبادئ الله على هذه الأرض. وعالم آخر إيطالي هو (ويشو) (1668 - 1744م) وهو صاحب أبحاث قيمة في التاريخ؛ وعنده أن تطور كل أمة يخطو خطوات ثلاثا (ثيوقراطية) و (مرحلة القوة والبطولة) و (المرحلة الإنسانية). حيث تسود فيها قوانين الله وشريعة العقل، ويسير الله في كل هذه المرحلة وعند جميع الأمم هذه الأدوار بحكمته وإرادته ويربط فيما بنيها؛ ولذلك يسير التاريخ على الرغم مما نراه من استقلال ظاهري متضامنا يؤثر بعضه في بعض، والكنيسة هي أعلى مؤسسة ثقافية ظهرت في التاريخ البشري، وسيكون النصر لها. وهنالك مؤسسات ثقافية أخرى ظهرت عند البشر هي الثقافة العبرانية واليونانية والرومانية وقد أزالتها الحضارة المسيحية سيدة الحضارات.

وقد صيغت هذه النظرية المسيحية للتاريخ في أسلوب واضح حديث عند بعض المؤرخين مثلدمستر (1754 - 1821م) وهو إداري وفيلسوف فرنسي، وكان بمثل الكاثوليكية المحافظة في نظريته عن الدولة وأثناء ممارسته للسياسة. وكان يرى أن سلطة البابوية فوق سلطات الملوك والحكومات يجب أن تكون كذلك لأنها تمثل إرادة الله التي هي فوق كل إرادة والفيلسوف فو جورس (1776 - 1848م)، وهو الكاتب السياسي الذي أيقظ الروح الكاثوليكية وصبغها بالصبغة (الرومانتيكية) ودعا وهو بلاط الملك (ليدويك) ملك (بافاريا) إلى إرجاع السلطة المقدسة العليا إلى مكانتها السابقة وإلى الاعتراف بها على أنها أهم مرجع يجب الركون أليه حل المشكلات.

وقد اصطبغت هذه النظرية الدينية بصبغة (رومانتيكة) صبغها بها الكتاب الذين تأثروا بالمذهب (الرومانطيقي) أمثال (فريدريك شليكل) (1722 - 1829م) في كتابه (فلسفة التاريخ). وهو من كبار أصحاب المذهب (الرومانطيقي في ألمانيا) وبالمس (1810 - 1848م) والفيلسوف البروتستانتي روشول و (كروب)

وكان من نتائج تقدم العلوم الطبيعية وشيوع الآراء العقلية التي تطرد كل ما لا يقبل التصديق عن العقل ولا تؤمن إلا بالتجربة وشيوع المذاهب المادية ومحاولة العلماء تطبيق القوانين والنتائج التجريبية حتى على العلوم العقلية البحتة. وقد قوت الثورة الفرنسية هذه الحركة وساندتها نظرية داروين المعروفة وما أعقبها من آراء طبقت في التاريخ وفي علم الاجتماع وعلم النفس.

وكانت الطرق التاريخية المعروفة تعتمد إلى درجة كبيرة في سرد الحوادث على ذكر (الأفراد) الموهوبين الذي كانوا يصنعون التاريخ على حد قول أكثر المؤرخين. وقد خالف القائلون بالمذهب المادي في التاريخ هذا الرأي، وأشادوا على العكس بفعل الجماهير وأثرها العظيم في تكوين الأفراد. وقد تولد من هذه النزعة المادية التي دخلت التاريخ ما يعرف بالمذهب المادي في التاريخ.

والفكرة المادية قديمة جداً في الواقع؛ فهنالك أناس نادوا بها في عالم اليونان مثل وكان من المعاصرين للفيلسوف (500 قبل الميلاد) والذين كان من تلاميذه (ديمقريط) ومثل (أبيقور) الذي أرجع أصل كل شئ إلى المادة. وكان هنالك جماعة آخرون.

غير أن المسيحية وقفت هذه الحركة المادية، وعرقلت انتشارها طيلة القرون الوسطى وما تلاها ذلك إلى أن كتبت لها العودة ثانية في القرن الثامن عشر الميلاد، فأخذت توجد لها أنصاراً وأعواناً إلى أن شملت جماعة من أصحاب العلوم العقلية، كالفلسفة والتاريخ، وقد ظهرت في التاريخ على شكلين: شكل يقال له (المادية البيولوجية) وشكل يقال له (المادية الاقتصادية) أو (المادية الاجتماعية وأحيانا (الديالكتيكية المادية).

(البقية في العدد القادم)

جواد علي