الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 786/الأزهر والإصلاح

مجلة الرسالة/العدد 786/الأزهر والإصلاح

بتاريخ: 26 - 07 - 1948


للأستاذ محمود الشرقاوي

سيقول كثير من إخواننا الأزهريين حين يقرؤون هذا الذي أكتب عن الأزهر والإصلاح: لماذا ولمه؟.

سيقول كثير من هؤلاء لماذا كتب هذا ومن يريد بكذا وماذا يقصد بكذا؟ لأنهم لابد - في اعتقادهم - أن يكون لكل شئ ظاهر وباطن، ولابد أن يكون وراء كل عمل أو قول أمر مستور يسأل عنه بماذا ولمه.

فهم يقولون في علومهم ودروسهم لماذا ولمه وماذا يراد بكذا وهذه محمدة، وهم يقولون عند ما يرون لأحد رأياً أو سعياً لماذا ولمه وماذا يراد بكذا، وهذه مذمة.

وأعلم أن كثيرين منهم سيقولون لماذا أو لمه، وهم يعلمون أن هذا الذي أكتب اليوم قد بدأته قبل أن أبدأ سن العشرين. وأني كتبته في السياسة والسياسة الأسبوعية منذ عشرين من السنين، وأن الأزهر وإصلاحه كانا شغلي وشاغلي منذ أجريت قلمي على قرطاس، وإني دأبت عليه وكان وكدي في (الرسالة) أول ما ظهرت الرسالة إلى هذا الوقت القريب وفي (البلاغ) ثماني سنين دأباً.

هؤلاء الكثيرون يعلمون ذلك وقد يعلمون غيره، ولكنهم سيقولون لماذا كتب هذا وماذا يريد وماذا يقصد؟.

ولكن هذا التساؤل وهذا التأويل وهذه الظنون حسنة أو سيئة، طيبة أم خبيثة، لن تحول بيني وبين أن أكتب ما أريد، ولن تمنعني أن أقول ما تجيش به نفسي عن الأزهر وإصلاحه.

والذي أريد أن أقوله إن الأزهر لم يصلح، وأن بينه وبين الإصلاح شأواً بعيداً وبوناً واسعاً ومرحلة طويلة جداً، ولست أدري هل إلى هذا الإصلاح سبيل؟

وأنا حين أزعم أن الأزهر لم يصلح لا أريد أن أتوجه بهذه التهمة إلى أحد ولا إلى عهد، فالواقع أن الأزهر قد التوت به وبأهله سبيل الإصلاح وبعدت بهم عن أهدافهم ومراميه؛ والواقع الذي هو أعجب من هذا كله أن الحديث عن الإصلاح في الأزهر حديث لا يصغي إليه أحد ولا يشتغل به أحد من قريب ولا من بعيد. وليس هذا شيئاً جديداً بل هو شيء يمتد إلى سنين مضت غير قليلة، وقد جرى بيني وبين المرحوم الشيخ المراغي حديث في هذا منذ سنين لعلي راجع إليه في (الرسالة) في يوم قريب أو بعيد، ويوم أعود إلى هذا الحديث سيعلم من لم يكن يعلم أن إصلاح الأزهر لم يشتغل به أحد ولم يفكر به أحد. اللهم إلا المتفائلين والمثاليين والخياليين الذين يعيشون يبن الأماني والأحلام، وقد عشنا بها زمناً رغداً، ثم ذهبت عن أعيننا الغشاوة.

مني أن تكن حقاً تكن أعذب المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا

كان المصلحون يرغبون أن يكون الأزهر قواماً على نهضة دينية أساسها الفهم والإدراك وسعة الأفق حتى يقوم بها ما ينتاش العالم كله من إباحية وإلحاد وتهجم على فكرة الدين وعلى مجرد الإيمان، وكانوا يرغبون أن توجد في الأزهر هذه البيئة الدينية المؤمنة المدركة لما يقع فيه العالم كله اليوم من أزمة روحية يحسها كل رجل مستنير ويدرك خطرها على القيم الروحية وعلى الأديان كافة، فإن توجد في الأزهر هذه البيئة الدينية المدركة فسينهض منها لا محالة من يحول بين هذه العواصف العاصفة بالإيمان وبالقيم الروحية أن تنزع من صدور الناس وأن تذهب هذه العواصف بما بقى في هذه الصدور من أيمان.

وكانوا يرغبون أن توجد في الأزهر بيئة علمية مدركة مستنيرة تخرج للناس هذا التراث العلمي الإسلامي الفريد، فتجلوه لعيونهم وإفهامهم، وتبرز هذا الركاز العظيم المطمور من علوم العرب والمسلمين في كل فن وعلم، هؤلاء يدرسون هذا التراث بعقولهم المدركة المستنيرة، فيظهرون الناس على ما فيهم من عمق ومن سعة ومن دقة ومن شمول، وهؤلاء يبرزون هذا الركاز المطمور بما ينشرون ويخرجون من كتب ومن مذاهب وآراء ومن شروح وفهارس ومن تبويب.

وكانوا يرغبون في أن يخرج الأزهر للناس طائفة من العلماء منيرة عقولهم شجاعة أفئدتهم (يدركون مسافة البعد بين روح الأزهر وحياة الناس، ويملكون - كما يقول الأستاذ الزيات - تزييف (الأباطيل المقدسة) التي اتسمت بسمة الحق وتسمت باسم الدين).

وكانوا يرغبون في أن يخرج الأزهر للناس طائفة من رجاله يكونون للناس مثلاً في كرم الخلق والحرص على أداء الواجب والزهد في زخرف الحياة وما يطمع الناس فيه من مجد ومن مال ومن صدارة.

طائفة من الناس شعارهم المحبة والتسامح والمودة وكرم النفس والترفع عن الصغيرة والشجاعة في الحق وعفة القلب واليد واللسان، ويجعلون خير الناس مقدماً على خير أنفسهم، والعمل للناس قبل العمل لذواتهم وأشخاصهم وأطماعهم.

طائفة من الناس تقوم حياتها على الإيثار والتضحية، والنصيحة بالعمل قبل القول وبالمثل والقدوة قبل الدعوة والتمثيل.

طائفة من الرجال يحسون ويدركون علة هذه الأمة الإسلامية وأسباب جمودها وتخلفها وجهالة العوام فيها وتواكلهم وضعف إيمانهم وانصرافهم عن المفيد النافع من شؤون الحياة، واستهتار الخواص وأنانيتهم وجحودهم، ويعملون على خلاص هذه الأمة الإسلامية مما هي فيه من جمود ومن جهالة ومن أنانية وجحود.

هذا هو الإصلاح للأزهر وهذه سبيله.

فهل أنا مخطئ إذا أقول أن الأزهر لم يصلح؟. .

وهل أنا متشائم إذ أقول متسائلاً إن بين الأزهر وبين الإصلاح شأواً بعيداً وبوناً واسعاً ومرحلة طويلة جداً، وأني لست أدري هل إلى هذا الإصلاح سبيل؟. .

أما الخطأ فأني لست مخطئاً، ولا أعتقد أن أحداً يرى غير ما أرى وهو منصف مدرك.

وأما التشاؤم والتفاؤل فليس عندي عليهما جواب، وقد تجيب عني الحوادث والأيام.

محمود الشرقاوي