مجلة الرسالة/العدد 785/مصطفى البكري الصديقي
→ من أهداف الصهيونية | مجلة الرسالة - العدد 785 مصطفى البكري الصديقي [[مؤلف:|]] |
من وحي الصوم: ← |
بتاريخ: 19 - 07 - 1948 |
الدمشقي المقدسي الحنفي الرحالة
(1099هـ - 1162هـ1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
هذه شخصية من رجال القرن الثاني عشر الهجري، نشأت في دمشق، وترعرعت في بيت المقدس وانتهى بها المطاف إلى مصر، وقد تركت لنا عدداً من الرحلات في الديار القدسية، وسوريا، والأناضول ومصر والحجاز. ومع أن هذه الرحلات ليست شيقة، ومع أن أسلوبها يمثل أسلوب القرن الثاني عشر الركيك، وبالرغم من انصراف صاحبها إلى الوعظ والإرشاد عن طريق التصوف، شأن حملة العلم من رجال ذلك القرن، إلا إنها تلقي نوراً على كثير من الحوادث، وتصف لنا حالة البلاد التي زارها في ذلك العهد المظلم. ونرجو أن نتمكن من تلخيص بعض هذه الرحلات للقراء الكرام , وقد سبق أن نشرنا رحلتين قام بها صاحب الترجمة من دمشق إلى القدس وبالعكس في كتاب رحلات إلى ديار الشام، وذلك في سنة 1122هـ. وقد كتب ونظم الشيء الكثير. ويقول السيد حسن بن عبد اللطيف الحسيني المقدسي في كتابه (أعيان القدس في القرن الثاني عشر) أن مؤلفاته زادت على المئة. ويروي لنا المرادي في درره أن كلمته ظهرت في أرض الكنانة، وأن تلامذته ومريديه لما بلغوا مئة ألف أمر بعدم كتابة أسمائهم، وقال هذا شيء لا يدخل تحت عدد!.
وهو ابن كمال الدين بن علي بن كمال الدين عبد القادر محي الدين الدمشقي البكري الأستاذ الكبير والعارف الرباني ترجمة المرادي وأفرد له عشر صفحات ونعته (بأحد أفراد الزمان وصناديد الإجلاء من العلماء الأعلام والأولياء العظام العالم العلامة الأوحد أبر المعارف قطب الدين صاحب العوارف والمعارف والتآليف والتحريرات والآثار التي اشتهرت شرقاً وغرباً، وبعد صيتها في الناس محجماً وعرباً). كما ترجم له السيد حسن بن عبد اللطيف الحسيني في كتابه (أعيان القدس في القرن الثاني عشر).
ولد بدمشق سنة 1099هـ وتوفي والده وكان عمره ستة أشهر، فنشأ يتيماً في حجر ابن عمه، واشتغل بطلب العلم على شيوخ الشام وأجاز له محمد بن محمد البديري الدمياطي ولاز الشيخ عبد الغني النابلسي وأخذ الطريقة الخلوتية ثم سكن بعد ذلك إيوان المدرسة الباذرائية وأخذ يدرس فيها فكثر طلابه ومريدوه.
وقام في سنة (1122هـ1710م) برحلته الأولى من دمشق إلى القدس وهي تشبه كثيراً رحلة أستاذه الشيخ عبد الغني النابلسي التي قام بها (1101 هـ1689م) وقد وصف فيها لنا الطريق، وما مر عليه من القرى والدساكر، وحالة الأمن ومرافقته الركب والغفرية، وخان عيون التجار الذي بناه سنان باشا، وهو خراب الآن يقع بالقرب منقرية شخبرة، ثم مدينة جنين لا حنين المحصنة، ثم تعرض اللصوص للركب، ثم طواحين وادي نابلس وكانت تسير على المياه وهي خراب الآن، ثم القدس، والحرم القدسي، وباقي المزارات، واجتمع وهو يدور مقام الإمام علي بن عليل العمري على ساحل البحر شمالي مدينة يافا بالشيخ نجم الدين بن خير الدين الرملي وكان نجم الدين مفتي مدينة الرملة حينذاك فدرس عليه الموطأ للإمام مالك. وقد جيء للشيخ بزنبق بري طيب الرائحة فقال إن والدي أي خير الدين قال فيه:
وزنبقة قد أشبهت كأس فضة ... برأس قضيب من زمردة عجب
سداسي شكل كل زاوية له ... على رأسها الأعلى هلال من الذهب
وعاد بعد ذلك إلى دمشق، ومنها إلى حلب ثم بغداد وانتقل سائحاً في البلاد الشامية، ثم دخل القدس ثانية سنة 1126. وكتاب رحلته الثانية، كما ألف كتابه ورد السحر المعروف (بالفتح القدسي والكشف الإنسي) وعمر بالقدس الخلوة التحتانية وكانت تقام بها الأذكار، ولها تعيين من خبز وأكل على تكية السلطان لمن أقام بها. وتزوج في القدس؛ وأرخ بعض رفاقه زواجه بقوله (زفت الزهراء للقمر).
وقدم من جهة دمشق وإلى مصر لزيارة القدس وهو الوزير رجب باشا، فزار صاحب الترجمة وصار له فيه اعتقاد، واصطحبه معه إلى مصر، فدخل مصر وأقام بها مدة، وأخذ عنه العلم والطريقة خلق كثير من أجلهم النجم محمد بن سالم الحفني. ثم زار السيد البدوي، ومن هناك إلى دمياط وأقام في جامع البحر وأخذ عن علامتها محمد البديري وأجازه إجازة عامة. ثم رجع إلى بلدة بيت المقدس عن طريق البحر وأقام فيها إلى سنة 1135 هـ. ونوجه إلى طرابلس الشام عن طريق البر ومنها إلى حمص وحماه، ونزل في بيت يسن القادري الكيلاني شيخ السجادة القادرية وأخذ عنه الطريقة القادرية ومنها إلى حلب وكان واليها الوزير رجب باشا المتقدم ذكره. وأخذ عنه جماعة منهم الشيخ أحمد خطيب الخسروية الشهير بالبني. ثم توجه إلى دار السلطنة العلية فيها، وكان يتنقل بين مدارس، ويعكف على التأليف والإرشاد، وكلما سكن في جهة وشاع خبره يقصده الناس فيرتحل إلى غيرها. وفي سنة 1139هـ رجع عن طريق البر إلى حلب ونزل في الخسروية ثم توجه إلى بغداد ونزل في القادرية. وجاءه كتاب من شيخه عبد الغني النابلسي يحثه على العودة إلى الشام لأجل والدته فعزم وتوجه إلى الموصل فحلب فدمشق وحن إلى الأرض المقدسة فرحل متوجهاً إلى القاع العزيز وبلاد صفد سنة 1140 هـ وفي تلك السنة ولد له ولد هو الشيخ محمد كمال الدين.
وأقام في القدس يرشد ويصنف إلى سنة 1145هـ حين عزم على الحج مع رفقائه ومنهم (حسن بن مقلد الجيوشي) (الجيوشي الآن) شيخ ناحية بن صعب (قضاة طولكرم وأصلها طور كرم وهو الأصح) فتوجه إلى المزيريب ومنها إلى المدينة فمكة وعاد مع الركب الشامي إلى القدس.
وفي سنة 1148هـ سار للبلاد الرومية (تركيا الآن) فمر على بلاد صفد ودمشق، ثم دار السلطنة، وتوجه منها بحراً إلى الإسكندرية فوصلها في ثمانية أيام، ومنها إلى مصر. وعزم بعد ذلك على الرجوع للشام فدخل القدس، وكانت له بنت رآها مريضة وقد توفيت بعد ذلك فحزن عليها كثيراً. وفي سنة 1149هـ وجه إلى أرض الكنانة وصحبه جمع كثير، وظهرت كلمته، ولما جاوزا المائة ألف لم يعد يحصيهم. وحج وعاد إلى دمشق، وكان واليها إذ ذاك سليمان باشا العظمى (العظم) فنزل قرب الخانقاه السمساطية وتحول بعد ذلك إلى نابلس فمكث فيها مدة. وفي سنة 1152هـ توجه إلى القدس وبقى بها إلى سنة 1160هـ. ثم سار إلى مصر والساحل الشامي، فوصل مصر ونزل قريب الأزهر. ولما وصل قرية الزوابل تلقاه الأستاذ الحفني مع خلائق كثيرين من علماء مصر، وأقام يرشدهم ويزدحمون على بابه وقل من يتخلف عن تقبيل يديه. وفي سنة 1161 عزم على الحج. وأذ الطريقة النقشبندية عن مراد الأزبكي النجاري النقشبندي، وكان ينفق عن سعة، مثل أرباب لثروة وأهل الدنيا، ولم تكن له جهة يعرف منها كيف يفي بأدنى مصرف من نفقاته. وتوفي سنة 1162هـ بعد عودته من الحج مبكياً عليه، ورثاء الشعراء وحزنت عليه مصر والشام وألوف من مريديه وأتباعه. ودفن بالقرافة في تربة المجاورين وقبره مشهور يزار ويتبرك به.
هذا هو الأستاذ الصديقي، الدمشقي، المقدسي، دفين مصر الذي ترك لنا في رحلاته الكثيرة تراثاً دفيناً نرجو أن نكشف لقراء العربية بعض آثاره تنويراً للأذهان عن قرن لا نعلم عنه إلا القليل أو ما هو أقل من القليل. . .
أحمد سامي الخالدي