مجلة الرسالة/العدد 784/هل اندفع ملوك العرب إلى الحضارة بتأثير الفرس؟
→ ترجمة وتحليل: | مجلة الرسالة - العدد 784 هل اندفع ملوك العرب إلى الحضارة بتأثير الفرس؟ [[مؤلف:|]] |
طريق تحقيق الذات عند طاغور ← |
بتاريخ: 12 - 07 - 1948 |
للأستاذ ضياء الدخيلي
يحاول سعادة الدكتور قاسم غني سفير إيران بمصر في بحثه عن تاريخ الطب الإسلامي في مجلة الرسالة الغراء - أن يثبت تصريحاً وتلويحاً أن الحضارة العربية شيدها الفرس وهي وليدة عبقرياتهم في الأغلب، وأن إدخال العلوم إلى بلاد العرب في العهد العباسي كان بتأثير النفوذ الفارسي، فهو يقول (إن النهضة العلمية الحقيقية بدأت في العصر العباسي، وكان للإيرانيين حينذاك نفوذ كبير وشأن في الدولة عظيم) ويقول (وإن أكثر المترجمين كانوا من أمم غير عربية وأحيانا من غير المسلمين كالسريان والعبريين، وفي الإيرانيين المسلمين منهم والنصارى واليهود والمجوس) ويقول (ففي هذا العصر ترجمت كتب علمية على درجة كبيرة من الأهمية، ولا سيما في زمن خلافة المأمون، وكانت أمه وزوجته إيرانيتين، وكان نفوذ الإيرانيين قد بلغ في عهده غايته) ثم قال في العدد الأخير (781): (في هذا العهد ظهر كثير من الأطباء الكبار من أصحاب التآليف المهمة في المسلمين كانت آثارهم ومؤلفاتهم تدرس في المدارس، وكتب العلماء مئات من الشروح والحواشي عليها، وترجمت مؤلفاتهم إلى اللاتينية، ودرست في مدارس أوربا الطبية، وكانت مدار الطب عندهم، وكان كثير منهم من إيران، وقد بلغت شهرة خمسة منهم حداً عظيماً، وخلدت أسماؤهم في تاريخ الطب وهم. .) ثم أورد خمسة من الفرس ليستمر في دراسة حياتهم. . . وإني أريد أن أناقشه اليوم على أولى دعاويه: فهل العباسيون كانوا مدفوعين من قبَل وزرائهم الفرس على أن يبنوا ببغداد مدنية عربية أحجارها من تراث مختلف الأمم السابقة إلى الحضارة والعلم قبلهم مع التسليم بتأثير ما للسنن الاجتماعية، ولكن حتى في استعراضه لهذه العامل يقول حفظه الله: (أصبحت اللغة العربية بالتدريج لغة العلم والعلماء بين المسلمين، وكان العلماء والمسلمون من كل قوم ولغة يؤلفون مؤلفاتهم بها ليستفيد منها جميع المسلمين، وبتوالي الزمن أصبحت كالنقد الرائج يتلقاها الجميع بأحسن قبول) وإذن فإن التأليف والمؤلفات العربية لا فضل للعرب فيها لأن الأقوام الأخرى اضطرها الزمن لأن تكتب بهذه اللغة، وليس النتاج العلمي المدون بلغة الضاد نتاجاً لعبقرية عربية، وإنما ذلك الزمن الساخر العابث هو الذي جعل هذه اللغة أممية عالمةي، فانجر العباقرة الأج للتدوين بها الخ. فلنتساءل الآن: لماذا أدخل العرب مدنيات الأمم إلى لغتهم؟ يورد بعض القدماء رؤيا رأي المأمون فيها أرسطو فاستيقظ وقد تملكه حب لهذا الفيلسوف، فاندفع يبحث عن آثاره. ولا ريب أنك قانع معي بضعف هذا التعليل وركة اتخاذ هذه الأسطورة سبباً للعمل الجبار الذي عج به صدر الدولة العباسية. إن النصوص التاريخية التي سأدلي بها تحدثنا عن طموح ملوك العرب وتطلعهم إلى الرقي والنهوض بأممهم إلى المستوى اللائق بهم مما دفعهم إلى البحث عن منابع الثقافات المختلفة، وإن تفكيرهم العلمي ودقة آرائهم ونضوجهم أمور كانت تدفعهم ألا يرتضوا في الحالات المرضية بالتعاويذ والرقي، إنما كانوا يبحثون عن أرقى الأوساط الطبية وينقبون عنها ليطلبوا كبار أطبائهم، ولم يكونوا يكترثون بالاختلافات الدينية، فإنهم اتخذوا أطباءهم من مختلف النحل والملل، وهذا نفسه دليل على رقي عقولهم وسلامتها من الجهل والتعصب الذميم، وتحريرها من ربقات القيود والتقاليد الرجعية. يقول ابن أبي أصيبعة: إن المنصور في عام 148 للهجرة مرض وفسدت معدته وانقطعت شهوته، وكلما عالجه الأطباء ازداد مرضه، فتقدم إلى الربيع (من رجال البلاط) بأن يجمع الأطباء في سائر المدن - طبيباً ماهراً؟ فقالوا ليس في وقتنا هذا أحد يشبه جورجس رأس أطباء جنديسبور، فإنه ماهر في الطب وله مصنفات جليلة. فأنفذ المنصور في الوقت من يحضره الخ، وقد كانت هذه البعثة الطبية فاتحة اتصالات البلاط العباسي ببغداد بمدرسة حنديسابور الطبية وهي مدرسة أسسها الأكاسرة (كما يخبر القفطي) وظلت قائمة في ظل الحكم العربي لإيراني إلى القصر العباسي، وقد قال ابن أبي أصيبعة إن رسول المنصور لما وصل إلى عامل البلد أحضر جورجس وخاطبه بالخروج معه، فقال له عليَّ هنا أسباب ولابد أن تصبر عليَّ أياماً حتى أخرج معك فقال له إن أنت خرجت معي في غد طوعاً وإلا أخرجتك كرهاً، وامتنع عليه جورجس فأمر باعتقاله، ولما اعتقل اجتمع رؤساء المدينة مع المطران فأشاروا على جورجس بالخروج فخرج بعد أن أوصى ابنه بختيشوع بأمر البيمارستان (المستشفى) وأموره التي تتعلق به هناك، وأخذ معه إبراهيم تلميذه وسرجس تلميذه، فقال له ابن بختيشوع لا تدع ههنا عيسى بن شهلا فإنه يؤذي أهل البيمارستان، فترك سرجس وأخذ عيسى عوضاً عنه وخرج إلى مدينة السلام) وإذن فقد كان في عهد الحكم العربي لفارس - كيان قائم لمدرسة جنديستابور، وكان فيها أساتذة وتلاميذ ومستشفى تعليمي يتدربون فيه، فقد قال جورجس للخليفة، ههنا معي تلامذة قد ربيتهم وخرجتهم في الصناعة حتى إنهم مثلي، فأمر الخليفة بإحضارهم. وإن المنصور كان أول من فتح مجرى هذه الثقافة ليصب في مدينة السلام، وقد اتبعه خلفاؤه من بعد. قال في عيون الأنباء: لما مرض موسى الهادي أرسل إلى جنديسابور من يحضر له بختيشوع بن جورجس. وقال أيضاً ولما كان في سنة 171 مرض هرون الرشيد من صداع لحقه فقال ليحيى بن خالد: هؤلاء الأطباء ليس يحسنون شيئاً، فقال يحيى يا أمير المؤمنين أبو قريش طبيب والدك ووالدتك، فقال ليس هو بصيراً بالطب، وإنما كرامتي له لقديم حرمته فينبغي أن تطلب لي طبيباً ماهراً، فقال له يحيى بن خالد: إنه لما مرض أخوك موسى أرسل والدك إلى جنديسابور حتى أحضر رجلا يعرف ببختيشوع. فقال له أرسل بالبريد حتى يحملوه إن كان حياً. ولما كان بعد مديدة وافى بختيشوع الكبير ابن جورجس ووصل إلى هرون الرشيد. فها أنت ترى أن الرشيد يلح على وزيره الفارسي في طلب الأطباء وبارزيهم، أما عيسى الذي استهان به فهو ابن ماسة، وقد عده ابن أبي أصيبة في طبقات الأطباء السريانيين الذين كانوا في ابتداء ظهور الدولة العباسية. وفي ضحى الإسلام أن الرشيد أمر جبريل بن بختيشوع أن يعمل ببغداد بيمارستاناً على نمط بيمارستان جنديسابور (نقل الأستاذ أحمد أمين ذلك عن القفطي ولم أجده في ترجمة جبريل بن بختيشوع طبيب الرشيد في طبعة مطبعة السعادة. وقج قال الأستاذ في ضحى الإسلام أن مدرسة جنديسابور الطبية أسسها كسرى أنوشروان. والذي في أخبار الحكماء للقفطي أن سابور بن أردشير عندما بنى المدينة لابنة قيصر التي تزوجها نقلت معها إليها أطباء أفاضل؛ ولما أقاموا بها بدءوا يعلمون أحداثاً من أهلها. ولم يزل أمرهم يقوى في العلم ويتزايدون فيه ويرتبون قوانين العلاج على مقتضى أمزجة بلدانهم حتى برزوا في الفضائل، وجماعة يفضلون علاجهم وطريقتهم على اليونانيين والهند لأنهم أخذوا فضائل كل فرقة فزادوا عليها بما استخرجوه هم أنفسهم، فرتبوا لهم دساتير وقوانين وكتباً جمعوا فيه كل حسنة الخ. وإذن فإن مدرسة جنديسابور تأسست في عهد سابور بن أردشير لا في عهد كسرى أنوشروان كما تفضل الأستاذ أحمد أمين، فهل يرشدنا الدكتور قاسم غني إلى وجه الصواب وأهل مكة أدرى بشعابها؟ ولنعد إلى حديثنا الأول فنقول إنك واجد مما تقدم أن الخلفاء العباسيين قد إنبعثوا إلى الاستفادة من أساتذة مدرسة جنديسابور بحثاً عن المراحل العليا لهذا العلم ولوعا بالاستزادة من أنواره، وأن تطلبهم الطب لمعالجة مرضاهم بأسلوب علمي خال من الشعوذة جرهم إلى الاستكثار من باقي العلوم الطبيعية؛ والحديث بعضه يأخذ برقاب بعض فقامت النهضة العلمية ببغداد وكانت لها جذور من قبل في دمشق.
وهناك مدرسة ثانية للثقافة اليونانية كانت في حران، وقد حدث القفطي أن ثابتاً بن قرة كان من أهل حران وانتقل إلى مدينة بغداد واستوطنها، وكان الغالب عليه الفلسفة، وكان في دولة المعتضد، وله كتب كثيرة في فنون من العلم كالمنطق والحساب والهندسة والتنجيم والهيئة، وأن محمد بن موسى بن شاكر وصله بالمعتضد، وأن ثابتاً هذا قد جر علماء حران إلى بغداد فثبتت أحوالهم وعلت مراتبهم، وقد بلغ ثابت من المعتضد أجل المراتب وأعلى المنازل. ثم يستمر القفطي في رعض مؤلفاته. ويقول ابن أبي أصيبعة أنه لم يكن في زمن ثابت من يماثله في صناعة الطب ولا غيره من جميع أجزاء الفلسفة. وله تصانيف مشهورة بالجودة. وكذلك جاء جماعة من ذريته ومن أهله يقاربونه فيما كان عليه من الفضل. وكان ثابت جيد النقل إلى العربية حسن العبارة، وكان قوي المعرفة باللغة السريانية وغيرها. وقال ابن خلكان إن لثابت تآليف كثيرة في فنون من العلم مقدار عشرين تأليفاً، وأخذ كتاب أقليدس الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي فهذبه ونقحه وأوضح ما كان مستعجماً فهي، وكان من أعيان عصره وأن محمداً بن موسى (الذي رباه المأمون وأنشأه في بيت الحكمة) وصله بالخليفة المعتضد العباسي فأدخله في جملة المنجمين. وبعد فإنك واجد الخليفة العباسي هو الذي شجع هذا الحراني على أن يقيم في بغداد ونشر لواء العلم حتى جذب إخوانه من سدنة الثقافية اليونانية في مدرسة حران. قال في ضحى الإسلام كان هؤلاء الحرانيون منبعاً كبيراً من منابع الثقافة اليونانية في العهد الإسلامي، وقد اتصلت مدرستهم بالخلفاء العباسيين بعد اتصال مدرسة جنديسابور وأول من اتصل منهم ثابت بن (221 - 288هـ) وصله بالمعتضد بنو موسى بن شاكر الدين رباهم المأمون والقفطي أوصله واحد من الاخوة الثلاثة هو محمد كما ذكر ذلك ابن خلكان وابن أبي أصيبعة ومن ذلك الحين قرب الحرانيون من الخفاء ثم من بني بويه، وإن مدرسة حران كان لها الأثر الأكبر في الرياضيات وخاصة الهيئة، وأبناء موسى بن شاكر هؤلاء رباهم المأمون وأنشأهم في بيت الحكمة ببغداد. قال القفطي كان والدهم موسى بن شاكر يصحب المأمون والمأمون يرعى حقه في أولاده هؤلاء فقد مات وخلف هؤلاء الأولاد الثلاثة صغاراً فوصى بهم المأمون إسحق ابن إبراهيم المصعبي وأثبتهم مع يحيى بن منصور في بيت الحكمة، وكانت كتبه ترد من بلاد الروم إلى إسحق بأن يراعيهم ويوصيه بهم ويسأل عن أخبارهم حتى قال جعلني المأمون داية لأولاد موسى بن شاكر. وقد خرج هؤلاء نهاية في علومهم، وقال وهم ممن تناهي في طلب العلوم القديمة وبذل فيها الرغائب، وقد أتعبوا نفوسهم فيها وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها إليهم فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبدل السني، فأظهروا عجائب الحكمة. وكان الغالب عليهم من العلوم: الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم، وإذا عرفت تاريخ حياتهم علمت أن الفضل فيما آتوه من خدمة المدنية العربية وتغذيتها بالثقافات الأجنبية يعود لمن رباهم وأنشأهم، فاقتدوا بسيرته ذلك هو المأمون واضع قواعد النهضة العلمية ببغداد. وبعد فأنا إن استعرضنا كيف أن الخلفاء العباسيين أنفسهم كانوا المشجعين لأن تستفيد الحركة العلمية ممن جاؤوا بهم من العلماء لتغذيتها من مدرسة جنديسابور وحران بقى علينا أن نصغي لابن أبي أصيبعة يحدثنا كيف اتجه الرشيد إلى مدرسة الإسكندرية، قال في عيون الأنباء عند تحدثه عن مشاهير الأطباء في مصر أن الرشيد أهديت له جارية مصرية وكانت حسنة جميلة وكان الرشيد يحبها حباً شديداً فاعتلت علة عظيمة فعالجها الأطباء فلم تنتفع بشيء فقالوا ابعث إلى عاملك بمصر ليوجه إليك واحداً من أطباء مصر ليعالج الجارية، فأرسل له بليطيان بطريرك الإسكندرية فعالجها وشفيت فوهب له الرشيد أموالا كثيرة. وقد تقدم بعد بليطيان جماعة لخدمة أمراء العرب مثل سعيد بن نوفيل طبيب أحمد بن طولون ونسطاس في دولة الأخشيد وبقى مصدر آخر للثقافة العربية في صدر الدولة العباسية هو الثقافة الهندية، وقد حدثنا القفطي في أخبار الحكماء أن المنصور هو الذي فتح مجراه ليصب في مدرسة بغداد إذ نقل أن ابن الآدمي ذكر في زيجه الكبير المعروف بنظم العقد أنه قدم على أبي جعفر المنصور رجل ماهر في معرفة حركات النجوم وحسابها وسائر أعمال الفلك، وكان معه كتاب في ذلك يحتوي عدة أبواب فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية ليعمل كتاب تتخذه العرب أصلا في حساب حركات الكواكب وما يتعلق به من الأعمال، فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الغزاري وعمل منه زيجاً اشتهر بين علماء العرب حتى إنهم لم يعملوا إلا به أيام المأمون حيث ابتدأ مذهب بطيموس في الحساب والجداول الفلكية. وهذا يدلك أن العرب وملوكهم اندفعوا إلى الحضارات من أنفسهم لا بتأثبر الفرس أو غيرهم لأنهم من شعب يتعشق المعالي ويجد في نيلها، وقد أصبحوا بعد فتحهم المعمور وتدويخهم الأقطار حكام الأرض وقادة الشعوب، فكيف يرضون لأنفسهم بالجهل والانحطاط، لذلك رأيت ملوكهم بدافع من غرائزهم وجبلاتهم - كلما سمعوا بعلم أمروا بنقله إلى لغتهم وأكرموا العلماء وأعطوهم الحرية الكاملة وجاروهم في عاداتهم وعقائدهم تطميناً لهم ليسخوا في تعليم العرب، فهذا المنصور يأمر الربيع أن يوفوا الخمر لجورجس ويستثنيه من الحظر الإسلامي فيذهب الربيع إلى قطر بل ويحمل منها إليه غاية ما أمكنه من الشراب الجيد. وقال أبو إسحق الصابئ الكاتب إن ثابتاً بن قرة كان يمشي مع المعتضد في الفردوس وهو بستان في دار الخليفة للرياضة، وكان المعتضد قد اتكأ على يد ثابت بشدة، ففزع ثابت، فإن المعتضد كان مهيباً جداً. فلما نثر يده من يد ثابت قال (يا أبا الحسن سهوت ووضعت يدي على يدك واستندت عليها، وليس هكذا يجب أن يكون؛ فإن العلماء يَملون ولا يُعلون) وكان الخلفاء العباسيون والأمراء يعادلون الكتب التي يترجمها حنين بن إسحق العبادي بالذهب، وقد قيل إنه كان يكتب ما يترجم على ورق ثخين وبحرف كبير ليكثر وزنه ويزيد ما يتناول من المال. وقد كان إقبال ملوك العرب وأمرائهم على العلوم قبل أن يتنفذ الفرس في دولتهم. هذا عمر بن العزيز في الدولة الأموية بدمشق يأمر بنقل كتاب أهرن بن أعين في الطب إلى اللغة العربية، وقد سبق خالد بن يزيد بن معاوية إلى ترجمة كتب الفلاسفة والنجوم والكيمياء والطب والحروب والآلات والصناعات من اللسان اليوناني والقبطي والسرياني، وخالد بن يزيد هذا أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة في الإسلام (كما ذكر في كتاب الإسلام والحضارة العربية)
أما عن إقبال ملوك الأندلس على العلم فقد نقولا أنه في عام 1948 أهدى إمبراطور القسطنيطينة إلى الخليفة الناصر في الأندلس كتاب ديوسقوريدس باليونانية مزيناً بالرسوم وهذا كتاب في النبات والأقراباذين كان قد ترجمه اصطفن بن باسيل في أيام الخليفة المتوكل وقد ترك بعض الألفاظ التي لم يعرف لها مقابلا في العربية على أصلها اليوناني أملا أن يأتي بعده من يعرف مرادفاتها في العربية. ولما كان لا يوجد في الأندلس حينئذ من يعرف اليونانية، فقد طلب الناصر من الإمبراطور أن يرسل له شخصاً يعرف اليونانية واللاتينية، فأرسل الراهب نقولا الذي وصل إلى قرطبة عام 951 وقد كتب الطبيب الأندلسي ابن جلجل في مطلع القرن الحادي عشر - كتاباً عن الأشياء التي أغفلها ديوسقوريدس. فجاء الكتابان مؤلفاً كاملا، وطبعاً أن ذلك ثمرة جهود الخليفة الناصر المتقدمة وقال ابن أبي أصيبعة أن أبا مروان بن زهر كان جيد الاستقصاء في الأدوية المفردة والمركبة حسن المعالجة قد شاع ذكره في الأندلس وفي غيرها من البلاد، واشتغل الأطباء بمصنفاته، ولم يكن في زمانه من يماثله في مزاولة أعمال صناعة الطب، وكان قد خدم الملثمين ونال من جهتهم من النعم والأموال شيئاً كثيراً. وإن أبا محمد بن الحفيد ابن زهر كان كثير الاعتناء بصناعة الطب والنظر فيها والتحقيق لمعانيها، واشتغل على والده ووقفه على كثير من أسرار هذه الصناعة علمها وعملها، وقرأ كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري على أبيه وأتقن معرفته، وكان الخليفة أبو عبد الله محمد الناصر يرى له كثيراً ويحترمه ويعرف مقدار علمه، وأنه لما توجه إلى الحضرة خرج منه فيما اشتراه لسفره ونفقته في الطريق نحو عشرة آلاف دينار ولما اجتمع بالخليفة الناصر بالمهدية لما فتحها خدمه على ما جرت به العادة، وقال إنني بحمد الله بكل خير من أنعامكم وإحسانكم عليّ وعلى آبائي. وقد وصل إلى ما كان بيد أبي من إحسانكم ما يغنيني مدة حياتي وأكثر، وإنما أتيت لأكون في الخدمة كما كان أبي وأن أجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه أبي بين يدي أمير المؤمنين، فأكرمه الناصر إكراماً كثيراً وأطلق له من الأموال والنعم ما يفوق الوصف، وكان مجلسه إذا حضر قريباً منه في الموضع الذي كان يجلس فيه والده الحفيد ابن زهر. فهل كان هذا الإقبال من ملوك العرب في الأندلس على العلم وأهله بتأثير من الفرس أو غيرهم، أم ذلك لما جبل عليه العرب من حب العلم وتعشق الكمال والفضيلة.
أما ما نقلوا عن احترام ملوك مصر للعلماء وتشجيعهم لهم فقد ذكر ابن أبي أصيبعة أن ابن الهيثم كان متفننا في العلوم لم يماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقرب منه، وكان دائم الاشتغال كثير التصنيف، وقد لخص كثيراً من كتب أرسطو طاليس وشرحها وكذلك لخص كثيراً من كتب جالينوس في الطب، وكان خبيراً بأصول صناعة الطب وقوانينها وأمورها الكلية إلا أنه لم يباشر أعمالها، ولم تكن له دربة بالمداواة وتصانيفه كثيرة الإفادة قال: وكان ابن الهثيم في أول أمره بالبصرة ونواحيها وبلغ الحاكم صاحب مصر من العلويين - وكان يميل إلى الحكمة - خير ما هو عليه من الإتقان لهذا الشأن فتاقت نفسه إلى رؤيته ثم نقل له عنه أنه قال: لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص. فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال هو في طرف الإقليم المصري فازداد الحاكم إليه شوقاً وسير إليه سراً جملة من المال وأرغبه في الحضور فسافر نحو مصر ولما وصلها خرج الحاكم للقائه والتقيا بقرية على باب القاهرة المعزية تعرف بالخندق (ويقول صاحب فلاسفة الإسلام وهو مصري أن موضعها الآن الضاحية المعروفة باسم (كوبري القبة) وأمر الحاكم بإنزال ابن الهيثم واحترامه إلى آخر الخبر ويقول الأستاذ محمد لطفي جمعه لم يكن ابن الهيثم يقصد سوى صنع خزان في موضع خزان أسوان فكر بذلك قبل أن يفكر فيه المهندسون المصريون والغربيون لاسيما الإنجليز منهم - بعشرة قرون، وقد حال دون تنفيذ فكرته ما رآه من صعوبة مباشرة وكثرة نفقات المشروع وعدد ما ينبغي له من الأيدي العاملة والآلات المعدنية الضرورية للحفر والبناء في مجرى النهر وما يقتضيه ذلك من تحطيم الصخر في الموضع المعروف بالجنادل.
وبعد فها أنك ترى كيف كان يحترم الحاكم رجال العلم، وقد ذكر في عيون الأنباء جملة من الأطباء في مصر نالوا حظوة كبرى عند ملوكها فمنهم البالسيّ الذي ألف كتاب التكميل في الأدوية المفردة - لكافور الأخشيدي ومنهم موسى بن العازار الإسرائيلي، وكان مشهوراً بالحذق والتقدم وكان في خدمة المعز لدين الله، وألف له الكتاب المعزى في الطبيخ وله كتاب الأقراباذين ومقالة في السعال ومنهم سعيد بن البطريق كان مشهوراً متقدماً في الطب، وقد صيره القاهر بالله في أول خلافته بطريقاً على الإسكندرية، وله كتاب في الطب علم وعمل، ومنهم محمد التميمي، كان ذا خبرة فاضلة في تركيب المعاجين والأدوية المفردة، واستقصى معرفة أدوية الترياق وركب منه شيئاً كثيراً على أتم ما يكون من حسن الصنعة، وقد كان مختصاً بالحسن بن عبيد الله المستولي على مدينة الرملة وما انضاف إليها من البلاد الساحلية وكان مغرماً به وما يعالجه من المفردات والمركبات وعمل له عدة معاجين ولخالخ طيبة ودخناً دافعة للأوباء، وسطر ذلك في أثناء مصنفاته، ثم أدرك الدولة العلوية عند دخولها إلى الديار المصرية وصحب وزير المعز والعزيز وصنف له كتاباً كبيراً في عدة مجلدات سماه (مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء والتحرر من ضرر الأوباء) ولقي الأطباء بمصر وحاضرهم وناظرهم، واختلط بأطباء الخاص القادمين من أهل المغرب في صحبة المغز عند قدومه والمقيمين بمصر من أهلها، وقد ألف عمار بن علي الموصلي للحاكم كتاب المنتخب في علم العين وعللها ومداواتها بالأدوية والحديد، وكان عمار كحالا مشهوراً ومعالجاً مذكوراً له خبرة بمداواة أمراض العين ودربة بأعمال الحديد، وقد وصف الموصلي في كتاب هذا طريقة عملية الكتركت الساد) بواسطة مصها بإبرة مجوفة، وربما كانت هذه الطريقة قديمة استعملها غيره قبله منذ زمن بعيد فقد قال صلاح الدين في كتابه (نور العيون) أن ثابتاً بن قرة كان معارضاً لهذه الطريقة لأن الإبرة قد تمص أغشية أخرى ولكن الموصلي يقول أنه مارس هذه العملية بنجاح تام.
ونظن القارئ الكريم بعد كل ما تقدم يخرج معنا بأن دول العرب على اختلاف أصقاعها كانت تشجع الحركات الفكرية وتمد العلماء ببالغ عنايتها، وإنه لم تكن النهضة العلمية ببغداد ثمرة التدخل الفارسي وبإيعاز من نفوذ الفرس مباشرة أو بصورة مباشرة، وقد إنهدمت صروح الفكرة التي تغلبت على قلم الأستاذ الفاضل صاحب السعادة الدكتور قاسم غني هذا، وإني أسجل إعجابي بمقالاته القيمة، راجياً أن يواصل بحوثه الفنية بالفوائد، وإن كانت لي بعض ملاحظات عسى أن أبينها قريباً، والله ولي التوفيق
(العراق - بغداد)
ضياء الدخيلي
الطيب المتمرن في المستشفى التعليمي سابقاً