مجلة الرسالة/العدد 784/أدبنا وهذه الحرب
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 784 أدبنا وهذه الحرب [[مؤلف:|]] |
من سجايا اليهود، نقض العهود ← |
بتاريخ: 12 - 07 - 1948 |
كان أدباؤنا في الحرب العلمية الثانية إذا سئلوا: ما بالكم تظلون (محايدين) والعلم من جهاته الست قد أخذته جنة الحرب ونفضته حمىَّ الهلاك؟ أجابوا: ومالنا ولأمر لا جارَّة لنا فيه، ولا رادَّة علينا منه؟ ليست هذه الحرب لنا فتزهونا العزة، وليست علينا فتهزنا الحميَّة. إنما نحن منها كمن يشاهد من جانب الغاب معركة بين الوحوش، يصيبه من شظاياها الناب المخلوع أو المخلب المقطوع أو المفصل الطائر، فلا يعنيه إلا أن يسب الضارب والمضروب، ويلعن الغالب والمغلوب. وهذا ما نهض به فن المقالة في ميدان واسع، وتحرك له فن الشعر في مجال ضيق.
ذلك ما كانوا يقولونه بالأمس في حرب الألمان والطليان للإنجليز والأمريكان، فماذا عسى أن يقولوا اليوم في قتال العرب لليهود، وجهاد القرآن للتلمود، وكفاح الإسلامية للشيوعية، ونضالالحرية للرأسمالية؟ أيقولون إن هذا الشعب الكريم الذي يجود بنفسه وماله، في سبيل عزته واستقلاله، ليس شعب النيل؟ أم يقولون إن هذا الجيش الباسل الذي قهر العدو ببطولته وإقدامه، وبهر الصديق بخطته ونظامه، ليس جيش الفاروق؟ أم يقولون إن هذه الحكومة الحرة التي دافعت بشجاعة الحق في مجلس الأمن، وهاجمت ببراعة القوة في ميدان الحرب، ليست حكومة مصر؟ أليس فيما يرفع الجباه ويعطر الأفواه مما تسجله الصحف كل يوم لقوادنا وجنودنا وطيارينا، من مواقف البسالة والشهامة والتضحية والإيثار والنجدة والنبل، ما يوحي للشاعر الحماسي بالملحمة، وللكاتب القصصي بالقصة؟ أو ليس فيما يزكم الألوف ويكظم الصدور مما جنته على فلسطين وعلى المسلمين، وغادةُ اشترن، وخيانة أرجون، وفسولة الهاجنا، ونذالة يهود، ما يفتح للروائي الساخر باب الملهاة، وللفنان الشاعر باب المأساة؟ بلى، إن في الغار الذي يكلل رءوس العرب، وإن في العار الذي يجلل رءوس اليهود لمادةً ثرَّة للخيال المبدع، ومداداً فياضاً للقلم الخالق. ولقد أدت الصحافة حق الأدب والتاريخ، وحاولت الإذاعة أن تقضي حاجة العقل والروح، وأخذ الشعر يجيب داعي الغناء والموسيقى، فلم يبق إلا الشاعر الطويل النفس الذي يسجل المفاخر في القصيد، والكاتب البارع الذهن الذي يصور المآثر في الرواية. وعما قريب يجري في الفلك المصري كوكب عطارد فينبض اللسان الساكن ويجيشالقلب القَرور.
لقد كانت القبيلة تغزو القبيلة، فيُقتل بعض الرجال، وتنهب بعض الجمال، فتثور ثائرة الشعر، وتقوم قائمة الخطابة، ويسمع الدهر
العجلان فيقف مصغياً للبدوي الجلف ليروي للأجيال المقبلة مناقب
قومه، ويخلد على الأباد المتعاقبة حوادث يومه. فهل نقول إن حرب
فلسطين التي احتشدت لها دول العرب السبع أضعف تأثيراً في النفوس
من غزوة، أم هل نقول إن شعراء العروبة اليوم أقل تأثراً بالمجد من
السُّليك وعروة؟
إن حرب فلسطين ليست كما يقال مبدأ نهضة ومفتتح عصر؛ إنما هي أشبه بحروب الفتح في عصر الإسلام الأول: كانت نتيجة لتأليف الله بين قلوب العرب فتوحدت اللغة والكلمة والعقيدة والثقافة والخطة والغاية؛ وكان من وراء أولئك كله سلطان لم يطاوله سلطان، وعمران لم يماثله عمران، وأدب لم يعادله أدب.
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات