الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 783/مخطوط لم يعرف من قبل ابن سينا والبعث

مجلة الرسالة/العدد 783/مخطوط لم يعرف من قبل ابن سينا والبعث

مجلة الرسالة - العدد 783
مخطوط لم يعرف من قبل ابن سينا والبعث
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 05 - 07 - 1948


للأستاذ سليمان دنيا

عرض الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) لفكرة البعث عند الفارابي وابن سينا وروى عنهما انهما يقولان باستحالة البعث الجسماني، لأنه لا يمكن في نظرهما إلا على واحدة من صور ثلاث:

الأولى: (أن يقال: الإنسان عبارة عن البدن، والحياة - التي هي عرض - قائمة به). ثم ابطل هذه الصورة أساهم قائلاً: (وهذا ظاهر البطلان، لأنه مهما أنعدمت الحياة والبدن، فاستئناف خلقهما أيجاد لمثل ما كان، لا لعين ما كان).

الثانية: (أن يقال: النفس موجودة، وتبقى بعد البدن، ولكن يرد البدن الأول بجمع تلك الأجزاء بعينها). ثم ابطل هذه الصورة على أساهم قائلاً: (لا يخلو: أما أن تجمع الأجزاء التي مات عليها فقط، فينبغي أن يعاد ألا قطع ومجدوع الأنف والأذن وناقص الأعضاء كما كان، وهذا مستقبح، ولا سيما في أهل الجنة. وان جمع جميع أجزائه ألي كانت موجودة في جميع عمره فهو محال من وجهين:

أحدهما: أن الإنسان إذا تغذى بلحم إنسان وقد جرت العادة به في بعض البلاد، ويكثر وقوعه في أوقات القحط، فيتعذر حشرهما جميعاً لان مادة واحدة كانت بدناً للمأكول وصارت بالغذاء بدناً للأكل ولا يكمن رد نفسين إلى بدن واحد بل لا يحتاج في تقرير هذه الاستحالة إلى أكل الناس الناس، فانك إذا تأملت ظاهر التربة المعمورة أعلنت بعد طول الزمان أن ترابها جثث الموتى قد تربت وزرع فيها وغرس، وصارت حباً وفاكهة وتناولها الدواب فصارت لحماً، وتناولناها فصارت أبداناً لنا، فما من مادة يشار إليها إلا وقد كانت بدناً لا ناس كثير، فاستحالة وصارت تراباً، ثم نباتاً، ثم لحماً، ثم حيواناً.

والثاني: أنه يجب أن يعاد جزء واحد، كبداً وقلباً ويداً ورجلاً، فأنه ثبت بالصناعة الطبية أن الأجزاء العضوية يتغذى بعضها بفضلة غذاء البعض، فيتغذى الكبد بأجزاء القلب، وكذلك سائر الأعضاء.

الثالثة: (إن يقال: المعاد هو رد النفس إلى بدن أنساني، من أي مادة كانت، وأي تراب اتفق). ثم ابطل هذه الصورة على لسانهم قائلاً: (وهو محال من وجهين: أحدهما: أن المواد القابلة للكون والفساد محصورة في مقعر فلك القمر، لا يمكن عليها مزيد، وهي متناهية، والأنفس المفارقة للأبدان غير متناهية - أي بناء على نظرية قدم العالم عندهم - فلا نفي بها.

والثاني: أن التراب لا يقبل تدبير النفس، ما بقي تراباً، بل لا بد تمزج العناصر امتزاجاً يضاهي امتزاج النطفة. ومهما استعد البدن والمزاج لقبول النفس، استحق من المبادئ الواهبة للنفوس حدوث نفس، فيتوارد على البدن الواحد نفسان - أحدهما هي نفسه الأصلية، والأخرى هي التي استحقها حين صار من جديد بدناً ذا مزاج؛ فأن من شان العقل الفعال عندهم أن يفيض على المادة، حين تصبح ذات مزاج، نفساً مناسبة لذلك المزاج: نباتية، أو حيوانية، أو إنسانية - وبهذا بطل مذهب التناسخ. وهذا المذهب هو عين التناسخ، فأنه رجع إلى اشتغال النفس، بعد خلاصها من البدن بتدبير بدن آخر غير البدن الأول، فالمسلك الذي يدل على بطلان التناسخ، يدل على بطلان هذا المذهب).

هذا ما يريده الغزالي عن الفارابي وابن سينا، ولكنا إذا رجعنا (الشفاء) لابن سينا وجدناه يقول فيه: الفن الثالث عشر، إلهيات ص634 ط الهند: (يجب أن يعلم أن المعاد منه ما هو مقبول من الشرع - ولا طريق إلى إثباته إلا من طريق الشريعة، وتصديق خبر النبي، وهو الذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن تعلم، وقد بسطت الشريعة ألحقه التي آتانا بها نبياً نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله، حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن.

ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدقته النبوة، وهو السعادة والشقاوة الثابتان بالقياس اللتان للأنفس، وان كانت الأوهام منا تقصر عن تصورها ألان لما نوضح من العلل

والحكماء الإلهيون رغبتهم في إصابة هذه السعادة اعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية، بل كأنهم لا يلتفون إلى تلك.

فلنعرف حال هذه السعادة، والشقاوة المضادة لها؛ فأن البدنية مفروع منها في الشرع. . .).

وورد كذلك في النجاة ص477 ط الكردي هذا النص بلفظه وحروفه.

ومن كل هذه النصوص يظهر لنا تناقض واضح بين ما يقوله ابن سينا عن نفسه في (الشفاء) و (النجاة) وما يقوله الغزالي عنه في كتابه (التهافت)، فهو يقول عن نفسه: أن البعث الجسماني ممكن وواقع؛ والغزالي يقول عنه: أن البعث الجسماني مستحيل.

وهنا يطرأ على بال الباحث المتفحص سؤال لا بد منه، هو:

هل الغزالي متقول على الفلاسفة غير أمين في نقله عنهم؟! أم أن لهذه المالية عند ابن سينا سراً خفياً يتطلب الصبر والأناة حتى يوقف على غوره ودخيلته؟ أعني: هل المسالة عنده ظاهر وباطن، ظاهر يكشفه للعامة، وباطن يحتفظ به لنفسه، ولمن يؤهلهم استعدادهم لفهمه، وعن هذا الظاهر تحدث الشفاء والنجاة، وعن هذا الباطن نقل الغزالي؟!

كلا الأمرين جد خطير، لا ينبغي أن يصار أليه عن طريق الظنون والتخمينات، افن الضنون والتخمينات لا توصل إلى العلم الصحيح وإنما ينبغي أن يصار أليه عن طريق التثبت واليقين.

قد يحتال لإزالة هذا التعارض فيقال: أن ابن سينا نفسه نزع الوثوق من كتاب (الشفاء)، ولم ير فيه معبراً عن أفكاره ومعتقداته، لب يراه معبراً عن أفكار المشائين نزعاتهم. ومتى صح ذلك لم يجدر بنا اعتبار ما ورد فيه مصوراً لأفكار ابن سينا وذلك حيث يقول في مقدمة (منطق المشرقيين):

(. . وبعد، فقد نزعت الهمة بنا إلى أن نجمع كلاماً فيما اختلف أهل البحث فيه، لا نلتفت فيه لفت عصبية أو هوى، أو عاد أو إلف، ولا نبالي من مفارقة تظهر منا لما ألفه متعلمو كتب اليونانيين إلفاً عن غفلة وقلة فهم، ولما سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من المتفلسفة بالمشائين، الضانيين أن الله لم يهد إلا إياهم، ولم ينل رحمته سواهم!

ولما كان المشتغلون بعلم شديدي الأعتزاء إلى المشائين من اليونانيين كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور، فانحزنا إليهم وتعصبنا للمشائيين، إذ كانوا أولى فرقهم بالتعصب لهم، وأكملنا ما أرادوه وقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم منه، أغضينا عما تخبطوا فيه، وجعلنا له وجهاً ومخرجاً ونحن بدخلته شاعرون، فأن جاهرنا بمخالفتهم، ففي الشيء الذي لم يمكن الصبر عليه، أما الكثير فقد غطيناه بأغطية التغافل.

فمن جملة ذلك ما كرهنا أن يقف الجهال على مخالفة ما هو عندهم من شهرة بحيث لا يشكون فيه ويشكون في النهار الواضح؛ وبعضه قد كان من الدقة بحيث نغمش عنه عقول هؤلاء الذين في العصر.

وما جمعنا هذا الكتاب - يعني فلسفة الإشراقيين - لنظهره إلا لأنفسنا، اعني الذين يقومون منا مقام أنفسنا، وأما العامة من مزاولة هذا الشان، فقد أعطيناهم في كتاب الشفاء ما هو كثير لهم وفوق حاجتهم)

وكتاب النجاة صورة مصغرة لكتاب الشفاء وتلخيص له اثبت ذلك البحث والتمحيص، قالوا وثق به من نوع الوثوق بكتاب الشفاء وفي درجته.

وأكثر من ذلك أن ابن سينا في نفس الشفاء ص647، والانجاة ص501، صرح بان نصوص الشرع في مسالة المعاد يجب أن تتلقى بحيطة وحذر، إذ أنها تنزلت عند مستوى عقول العامة، فصورت لهم أمر المعاد بالصورة التي يستطيعون فهمها، لا بالصورة التي هو عليها في نفس الامر، استمع أليه يقول: (وكذلك يجب أن يقرر عندهم - أي يجب أن يقرر النبي عند العامة - أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته وتسكن أليه نفوسهم ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً مما يفهمونه ويتصورنه

وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمر مجملاً، وهو إن ذلك شيء لا عين رأته ولا آذن سمعته، وان هناك من اللذة ما هو ملك عظيم، ومن الألم ما هو عذاب عظيم).

والنص بنفس هذه الحروف وارد في الكتابين.

أضف إلى ذلك أن ابن سينا صرح في الإشارات بما يفيد أن المعاد بالروح وحده دون الجسم، قال في ص195 ط ليدن: (والعارفون والمتنزهون إذا وضع عنهم دون مقارنة البدن وانفكوا عن الشواغل، خلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانتعشوا بالكمال الاعلى، وحصلت لهم اللذة العليا).

وفي ص196: (وأما أليه فانهم إذا تنزهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم، ولعلهم لا يستغنون فيها عن جسم يكون موضعاً لتخيلات لهم، ولا يمنع أن يكون ذلك جسماً سمائياً أو ما يشبه، ولعل ذلك يقضى بهم آخر الأمر إلى الاستعداد للاتصال المسعد الذي للعارفين).

وفي ص191: (فلا ينبغي لنا أن نستمع إلى من يقول: أنا لو حصلنا على حالة لا نأكل فيها ولا نشرب ولا ننكح، فأية سعادة تكون لنا؟! والذي يقول هذا، فيجب أن يبصر ويقال له: يا مسكين! لعل الحالة التي للملائكة وما فوقها الذي وأبهج وانعم من حالة الانعام، بل كيف يمكن أن تكون لإحداهما نسبة إلى الأخرى نسبة يعتد بها؟)

بل انه صرح في (الشفاء) و (النجاة) مثل ما جاء في الإشارات. قال في النجاة ص485: (فإذا فارقت - يعني فارقت النفس البدن - ولم يحصل معها ما تحصل به بعد الانفصال إلى التمام، وقعت في هذا النوع الشقاء الأبدي، لان أوائل الملكة العلمية إنما كانت تكتسب بالبدن لا غير، وقد فات).

وقال في ص488: (وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنية الردية، وليس عندها هيئة غير ذلك، ولا معنى بضاده وينافيه، فتكون لا محالة ممنوة بشوقها إلى مقتضاها، فتعذب عذاباً شديداً بفقد البدن ومقتضيات البدن من غير أن يحصل المشتاق أليه، لان آلة ذلك قد بطلت، وخلق التعلق بالبدن قد بقى).

ونفس هذا النص قد ورد في الشفاء.

من كل هذا يخلص لنا:

أولاً: إمكان اعتبار ابن سينا قائلاً بالبعث فقط، وفي هذه الدائرة يصدق نقل الغزالي عنه.

ثانياً: أن ابن سينا غير متناقض في حديثه عن البعث، ولكن له فيه ظاهر وباطن، ومن لن يفطن لهذين الجانبين فيه ظنه متناقضاً، وليس الأمر من التناقض في شيء.

ولكن ليس هذا كل ما يهم الباحث المتفحص في هذا المقام، فليست إزالة التناقض في نصوص ابن سينا المختلفة وإزالة التناقض بين حديث الغزالي عن ابن سينا وحديث ابن يسنا عن نفسه - وإن أدخلت على تاريخ الفلسفة تكميلاً كان يتطلبه - هي كل شيء في هذا المقام.

ذلك أن الغزالي لم يدع في كتابه (التهافت) أن ابن سينا منكر للبعث الجسماني وكفى، إذ لو كان الأمر كذلك لكان في إزالة التناقض على الوجه السابق - وهو نتيجة بحثنا الخاص - غناء وأي غناء، ولكن الغزالي أتضاف إلى ابن سينا مع هذه الدعوة أدلة شققها تشقيقاً وفرعها تفريعاً، فكان لا بد لتاريخ الفلسفة أن يعرف أمرين على جانب كبير من الأهمية:

أحدهما يتصل بابن سينا نفسه ليعرف التاريخ هل هذه الأدلة المعزوة إلى ابن سينا في كتاب (تهافت الفلاسفة) صحيحة النسبة أليه؟ فإنه أن صحت نسبتها أليه، جاز للتاريخ أن يقول على وجه القطع - استعداداً من هذه الأدلة وحدها - أن ابن سينا قائل استحالة البعث الجسماني.

وثانيهما يتصل بالغزالي، إذ قد عرض لكثير من الفق المختلفة وناقشها وساق أدلة ودعاوى غزاها إليها، وقد لا يتيسر ألان الرجوع إلى المصادر الأصلية لهذه الفرق. فهل الغزالي ثقة فيما ينقل ويروي؟ أم تتسرب إلى نقله الريب وتحوم حوله الشكوك؟ وهذا جانب هام يعنى تاريخ الفلسفة أن يقف على وجه الحق فيه.

هذه ثغرة لم أجد - فيما قرأت - من حاول صدها في تاريخ ابن سينا وتاريخ الغزالي على السواء.

ابن سينا: هل قال ما نسب أليه الغزالي من أدلة إنكار البعث الجسماني؟!

والغزالي: من أبن استقى هذه المعلومات؟!

ومما يزيد الأمر خطورة أن المسالة أم تقف عند ابن سينا والغزالي، بل جاوزتهما إلى من اخذ عن الغزالي من علماء الكلام والى من دافع عن ابن سينا، كابن رشد. فكان على علماء الكلام أن يعرفوا - قبل أن يرددوا - من أي المصادر استقى الغزالي هذه الأدلة التي يعزوها إلى ابن سينا، فهل عرفوا؟!. وكان على ابن رشد أن يعرف - قبل أن يناضل ويدافع - هل ما نسب إلى ابن سينا صحيح النسبة اليه، فهل عرف؟!.

ثغرة أدركتها أول الأمر ضيقة، ثم ما زالت تتسع أمامي حتى وصلت إلى ما رأيت. ولشعوري القوي بحاجة تاريخ الفكر الإسلامي إلى سدها، حاولت أن أسدها على أي وضع كان، فقلت معلقاً على هذه الأدلة التي يعزوها الغزالي إلى ابن سينا، وان اخرج كتاب (تهافت الفلاسفة) (هذا المثال - اعني قوله: أن الإنسان إذا تغذى بلحم إنسان. . . الخ - وغيره، نجده موجوداً في كتب الكلام لم يرجعوا إلى كتب الفلاسفة نفسها - نظراً لأني لم أجد فيما لدى من كتب الفلاسفة وقتذاك شيئاً من هذا الكلام - وإنما عولوا على هذا التصوير الذي اضطلع به الغزالي. على أني أطارد اجزم بان الغزالي في تصوير وجهة نظر الفلاسفة ما كان يقف عند الحد المنصوص عليه في كتبهم، وإنما كان يفترض افتراضات ويذكر احتمالات ويناقشها ليخلص له: إنما كل ما يمكن أن يقال على لسانهم فهو مدفوع مردود).

وظل الأمر واقفاً عند هذا الحد: ثغرة تتطلب سداً محكماً من الفولاذ، وضعت فيها لفافة من الخيش إلى أن تكفل هذا المخطوط بهذا السد الفولاذي.

وإلى اللقاء في مقال تالٍ - أن شاء الله - نحلله فيه ولتعرف محتوياته.

سليمان دنيا

مدرس الفلسفة وعلم العقيدة بكلية أصول الدين