مجلة الرسالة/العدد 782/رقص السماح
→ من ذكرياتي في بلاد النوبة: | مجلة الرسالة - العدد 782 رقص السماح [[مؤلف:|]] |
الألغاز عند العرب. . . . ← |
بتاريخ: 28 - 06 - 1948 |
للأستاذ حسني كنعان
هو نوع خاص من أنواع الرقص العربي القديم المجهول في أقطار البلدان العربية، اختصت به مدينة حلب وحدها دون سواها من عقيل المنبجي المدفون في ذروة جبل في قضاء منبج يسمى باسمه جبل الشيخ عقيل، ومنبج هذه مدينة تبعد عن حلب 60 كيلا يرجع تاريخ وفاته إلى 400 سنة على الجملة، وكان رحمه الله شيخ طريقة الأحمدية الموهوبين المرموقين ذوي الكرامات والخوارق، اخترع هذه الطريقة من الأذكار التي يلجأ إليها أصحاب الطرق الصوفية في خلواتهم عندما يتحلقون حلقات حلقات في الزوايا يذكرون الله في طرائق شتى، وفي أنغام متنوعة وموقعة على الضروب والأوزان، يرمز إليها بالأرجل، أو بالأيدي، أو بتقديم الصدر أو بتأخيره، وما هي إلا أن تبدأ حلقات الأذكار بإنشاد الموشحات حتى ترى أصحابها يتنقلون على حسب التواقيع ولأوزان، ويروحون ويجيئون في القاعات ويضربون الضرب بالأيدي والأرجل. وبتقديم الصدر وتأخيره في انسجام وترتيب خفة أو تباطؤ في التنقل يبهج الناظر، فما يكاد ينتهي الجمع من إنشاد موشح حتى يبدأ غيره من نغمة أخرى، فترى نفسك أمام هذي الموشحات الأندلسية التاريخية الموروثة كأنك في قاعة من قاعات ابن سراج في الأندلس أو ابن سريح، فتذهل عن الدنيا لشدة ما يداخل فؤادك من أنواع الطرب والشجن والتلهي، فتخالك في عالم غير عالمنا وفي دنيا غير دنيانا. وفي حلب الشهباء مشيخة في هذا الفن اختصاصيون ذاع صيتهم لدينا وغدوا مضرب الأمثال في البراعة، عرفنا من المتوفين منهم الشيخ صالح الجدية، وكان يحفظ عشرة آلاف موشح مع ضروبها وتواقيعها واوزانها، وعبده بن عبده، وأحمد أبو خليل القباني الدمشقي المعروف، وغيرهم من الذين لم تحضرني الآن سماؤهم. . .
وعرفنا من الموجودين على قيد الحياة منهم الشيخ عمر البطش، والشيخ على الدرويش، ومحمد طيقور. وإني أسجل هنا للتاريخ والحقيقة أن حلب قد انتهى إليها هذا الفن في بلادنا، ولأبنائها ميل خاص فيه طغى على جميع الميول، يصلون الليل بالنهار، والنهار بالليل دؤوبا عليه. وبين هذي الرقصات نوع خاص يسمى في عرفهم (إسق العطاش)، وهي سلسلة موشحات من نغمة الحجاز يستغرق معهم إنشادها من المساء حتى مطلع الفجر. ولأمر ما جاء في الأمثال القديمة لدينا إن الدور أو الأغنية تنبع من مصر وتنتشر في دمشق وتخلد في حلب. فأهلها من أكبر المحافظين على القديم، ومن أكبر المتلذذين والمتكسبين من هذه الصناعة إتقانا، وحسبك أن تعلم أن الشيخ علي الدرويش كان من كبار الأساتذة الذين احتاجت إليهم مصر في تعليم هذا الفن في معاهدها الفنية الكبيرة، واحتاجت إليه تونس وغيرها من الأقطار العربية، وأن تعلم أن كبار العازفين على الكمان، كالأستاذ توفيق الصباح، وكريم عزة، ويوسف عزة، وجميل عويس، وسامي الشوا، وفاضل الشوا، جميعهم من الحلبيين. . .
رأت الحكومة السورية في عهدها الوطني الميمون الطلعة أن تنهض بهذا الفن كما نهضت بغيره من بقية الفنون، وأن تحيي مواته قبل أن تفنى البقية الباقية من أربابه وأساطينه، فأسست في دمشق تحت إشراف النائب السيد فخري البارودي الذي يحدب على هذا الفن وأربابه لميله الخاص إليه مدرسة أطلقت عليها المعهد الموسيقي الفني للإذاعة السورية الموقتة، تسلم فرع الموشحات ورقص السماح فيه الشيخ عمر البطش، ويعاونه في ذلك سعيد فرحات وصالح المحبك الذي كان من أعضاء المؤتمر الموسيقي هو والصباغ المنعقد في القاهرة تحت إشراف ساكن الجنان الملك فؤاد. واستقدمت له من تركيا الأستاذ رفيق فرسان لفرع النوتة والسماعيات والبشارف يرافقه زوجته وشوقي بك ذلك الموسيقى الذي كتب عنه صديقنا الطنطاوي منذ أمد قصة الموسيقى العاشق في الرسالة الغراء.
ويعاون هؤلاء في أعمالهم أساتذة بعضهم من مصر وبعضهم من دمشق وحلب. ثم تألقت في المعهد فرقة خاصة جمعت الأساتذة وبعض النوابغ من التلاميذ يعرضون بضاعتهم ومنتوجاتهم على الملأ في الحفلات والعامة، ويعرضونها في محطة الإذاعة الدمشقية، فيسمع الناس فيها السحر الحلال. ويشهدون روعة الفن القديم، ولقد شهدت هذه الحفلات أكثر من مرة، وكنت كلما شهدتها أزداد بها إعجابا وفتنة ورغبة في سماعها، وقد ينتهي العمر وإعجابي لا ينتهي برقص السماح. وكم كنت أتمنى عندما أشاهد الفنية بعد الفنية أن لو يتاح لإحدى الشركات السينمائية المصرية أو غيرها أن تأخذ شريطا عنه فتعرضه على الناس ليشهدوا روعته وإتقانه، وهو فن خالد قد أذهب الأقدمون في إيجاده نور البصائر، عسى بمشاهدته يلقى من التشجيع في الأقطار الشقيقة ما يحفز الهمم على تعميمه وإحيائه بدلا من هذه الرقصات الخليعة الماجنة المخنثة التي سرت إلينا عن طريق الغرب سريان السلأو السرطان وفيها المخاصرة والمعانقة والمعايب. . . .
تصور معي سيدي القارئ كوكبة من التلاميذ الأحداث توحدت ملابسهم وهيآتهم، وانسجمت أصواتهم، واتسقت نغماتهم وحركاتهم، ينشدون كالعنادل الموشحات المقعة في الرقصات والآلات الوترية، وقد تخرجوا على أيدي الصناع الفنيين وحذقوا ومهروا في فهم، تعرض صورهم أمامك على الشاشة، وتصور ما تحدثه هذي المشاهد وهذه الأصوات في نفسك من أثر ورغبة في إحياء موات هذا الفن. ألا ترى معي وجوب تعميمه والدعاية له؟ وإني لأضمن لهذا الفن الرائع الانتشار عن هذه الطرق، فهو يرى كأنه جديد لدى أبناء هذا الجيل، وكل جديد لا بد له من دهشة وروعة وفتنة. وإني لا أزال أذكر ما أحدثته أول حفلة من حفلات هذا المعهد من أثر بالغ في نفوس الشاهدين في صالة سينما دمشق، أخص بالذكر منهم المتشبعين للموسيقى الحديثة الدخلية التي أفسدت عينا قديمنا، وذهبت بأذواقنا، تلك الموسيقى التي محتها الأرض والسماء وهي بعيدة عنا، لا تمت إليها ولا تمت إلينا بصلة أو نسب!
إنها لمأثرة تذكر لمعالي وزير المعارف الشاب الدكتور منير العجلاني بك أن يتم هذا الأمر في عهده وفي ظل صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السورية المعظم الزعيم شكري القوتلي بك الذي له في كل عمل مأثرة، وف يكل نهضة مغخرة، فالنهضة السورية في كافة نواحيها مدينة إليه وإلى رئيس وزارته السيد جميل مردمبك سدد الله خطوات الجميع لما فيه الخير والفلاح لخدمة هذا الوطن المفدى الذي أخذ بهذه الوثبة يشق طريقه في الحياة.
(دمشق)
حسني كنعان