مجلة الرسالة/العدد 780/زعيمان
→ طرائف من العصر المملوكي: | مجلة الرسالة - العدد 780 زعيمان [[مؤلف:|]] |
مزامير: ← |
بتاريخ: 14 - 06 - 1948 |
للأستاذ محمود الخفيف
هما أحمد عرابي وإبراهام لنكولن، يجمع بينهما في مجال الزعامة أن كليهما كانت الحرية متصلة بطبعه، وأن كليهما اضطلع بقضية كبرى في قومه خلد بها اسمه، ويجمع بينهما في هذا المقال وفي مقال في العدد السالف من الرسالة (الرسالة) بنفس العنوان ما تفضل به من حديث عنهما، أو بالأحرى عن كتابيَّ فيهما، الناقد الكبير الأستاذ العقاد.
ولقد أثار ما كتب الأستاذ الجليل أعظم اهتمامي، فإني لأنزله من نفسي منزلة الأستاذ، تلك المنزله التي ينزله إياها بالحق جمهور القارئين في العالم العربي، وأحرص على الإفادة من كل ما يكتب في الأدب، فكيف إذا كان ما يكتب متصلا بكتابين أخرجتهما؟
على أن اهتمامي بما قال عن الزعيمين كان أعظم مما ذكره متفضلا عن الكتابين، وللأستاذ الكبير عظيم شكري على ما تفضل به عليَّ من ثناء أرجو أن أظل له عاملا.
وإن الحديث عن هذين الرجلين لفرصة يجب ألا تفوت، فقد أردت بكتابي عن أولهما الدفاع عنه لاعتقادي أنه ظلم، وأن ظلمه مما يشين هذا الجيل الذي أصاب حظاً غير قليل من الثقافة؛ وأردت بكتابي عن ثانيهما أن أجعل منه، وهو الشخصية العالمية المحبوبة، قدوة لشبابنا، ومثلا لسادتنا وكبرائنا. . . وإن الشباب والكهول في كل أمة متمدنة ليقرأون عشرات الكتب في سيرته ويجدون فيه للعصامية المثل الأعلى!
أما عن عرابي، فحسبي مما بلغت بدفاعي عنه أن أقول في غير زهو أو فخر: أنه ما من قارئ لكتابي حدثني عنه إلا آمن لي، ورأى في عرابي ما كان من قبل ينكره أو يأخذه في كثير من الشك والتردد، وهو أنه زعيم قومي مخلص لعقيدته فذ في وطنيته؛ وحسب عرابي أن يشهد له بالإخلاص والوطنية من زعماء الكتاب في جيلنا هذا أستاذنا الجليل صاحب (الرسالة)، الذي شرفني فجعل عملي في الدفاع عن عرابي عمل إميل زولا في الدفاع عن دريفوس، ثم أستاذنا الكبير العقاد الذي نفى عن عرابي في كلمته الأخيرة ما اتهمه به المفترون طلماً والجاهلون، والذي تفضل فقال عن كتابي: (إنه يعد في بابه قليل النظير).
ومما أطيب به نفساً أن أجد رأي الناس عن عرابي قد أخذ يتغير، فالصحف والمجلات تتحدث عنه اليوم على أنه زعيمنا الأول، ويشيع فيما تكتب عنه كثير من التحمس له، والمثقفون في ندواتهم يذكرونه بالخير ويأسفون على ما لحقه فيما سلف من ظلم؛ فإذا كان مرد هذا أو بعضه إلى ذلك الدفاع الذي دافعت به عنه، فأي اغتباط ذلك الذي تشعر به نفسي، ومعاذ الله أن أقصد بهذا إلى شيء من الفخر، وإنما هو شعور الراحة في نفس من يوقن أنه أنصف رجلا قضى نحبه مظلوماً وقد أحسن إلى بلاده، وأنه أول من تصدى إلى هذا الإنصاف. وليغفر لي القارئ ما قد يجده في كلامي هذا مما يشبه الزهو.
وأما عن لنكولن، فقد أخذ الكتاب الكبير على كتابي مآخذ قرأتها في كثير من الترحيب والاطمئنان، فالعقاد من يصدر في النقد عن أستاذية توجب هذا الاطمئنان، وتوجب معه الاهتمام والحرص على الانتفاع من جانب كل مؤلف وإن علا كعبه في التأليف؛ مقام المبتدئ؛ غير أني أحسن في بعض ما ذكر الناقد الفاضل ما لا ترتاح إليه نفسي، وأؤكد للأستاذ الكبير أن أذكر ذلك عن إخلاص وصدق رغبة في الفهم والتعلم، وهي على أية حال فرصة طيبة لأسمعه رأيي لعله يتفضل بإرشادي إلى موضع الخطأ فيما أقول، وفرصة طيبة للحديث عن لنكولن لعل في الحديث عنه ما فيه للقارئ بعض الفائدة. . .
أخذ الأستاذ على كتابي (أنه ليس فيه تعريف كاف بأسلاف لنكولن من جانب أبيه وأمه)؛ وهذا الذي يأخذه على الأستاذ حق لا مرية فيه، ولكن كيف السبيل إلى معرفة هؤلاء الأسلاف؟ هذا هو موضع التسأول بيني وبين الأستاذ الجليل.
لقد عرف لنكولن أول ما عرف نجاراً ابن نجار أمي، وولد في كوخ وسط الأحراش والأدغال البرية بعيداً عن الدنيا الحضارة، ولم يحدثه أبوه عن أسلافه إلا قليلا، ومرد ذلك إلى بيئته وجهله، وكان حديث أمه أقل لما أحاط بسيرتها من ملابسات ذكرتها بموضعها في الكتاب، نقلا عن لنكولن، إذ أفضى بها ذات مرة إلى صديقه هرندن ولم يعد إليها أبداً، حتى لقد كانت إذاعتها على لسان صديقه مثار جدل وضجة في الولايات المتحدة كلها.
ولم يتحدث لنكولن نفسه عن أسلافه إلا قليلا، لأنه لم يكن يعرف عنهم إلا القليل؛ ولقد كان يقتضب الحديث عنهم اقتضاباً كأنه يكرهه، بينما يفيض إذا تحدث عن نشأته في بيئته الأولى.
لهذا حار كتاب حياته في معرفة أسلافه، وتحت يدي أكثر من عشر تراجم له ومن بينها كتاب إميل لدوج الذي عرف باستيعابه كل شيء، وأهم منه كتاب صديقه وزميله في المحاماة هرندن الذي كان أعلم الناس به، وهو الذي اعتمد عليه لدوج وغيره، وهؤلاء جميعاً لم يذكروا عن أسلافه إلا قليل وما لهم في ذلك حيلة. . .
افتتح هرندن الفصل الأول من كتابه بقوله: (لم يكن لدى مستر لنكولن عادة ما يقوله إذا تحدث عن نفسه وعن آبائه وتاريخ أسرته قبل مجيئهم إلى إنديانا أكثر من تلك الحقيقة، وهي أنه ولد في الثاني عشر من فبراير سنة 1809 في ناحية هاردن بكفطكي؛ وكان إذا تحدث عن هذا الموضوع، وقليلا ما تحدث، يفعل ذلك في كثير من التردد والتحفظ)؛ وأورد هرندن بعد ذلك بقليل قول لنكولن لأحد أصدقائه فيما بعد، وكان يسعى لكتابة تاريخ حياته: (لماذا تعني نفسك يا صاحبي سكربس؟ إنه لمن أكبر الحمق أن تحاول أن تجد شيئاً ذا بال في شخصي وفي حياتي الأولى. إنك لتستطيع أن تحصرها في جملة، وتجد هذه الجملة في مرثية جراي وهي (سيرة الفقراء القصيرة البسيطة)
وأنا أرجو من أستاذنا العقاد، وهو أطول مني باعاً وأكثر اطلاعاً، أن يرشدني إلى ما أقف منه على أسلاف لنكولن؛ وإني لشديد الحرص على إرشاده، ذلك أن الأستاذ الجليل قد عقب على ذلك الذي أخذه عليَّ مما يتصل بأولئك الأسلاف بقوله: (ولا تتم العبرة من تاريخ لنكولن إذا لم تكن نشأته وارتقاؤه إلى رئاسة الجمهورية، وحقائق مصرعه موضع اهتمام خاص يفوق كل اهتمام بغيرها من الموضوعات)؛ ولقد تشعر هذه العبارة من لم يقرأ كتابي بأني لم أهتم بنشأته وارتقائه إلى رياسة الجمهورية، والواقع أن نشأته وارتقاءه إلى رياسة الجمهورية استغرق من هذا الكتاب الذي يقع في خمسين وثلاثمائة صفحة كبيرة نحو ثلثيه، فقد تحدثت حديثاً طويلا عن حياته وهو صبي في الغابة، ثم وصفت أخلاقه شاباً يعمل في حانوت، وقد خرج من الغابة، ويعمل في البريد، وفي تخطيط الأرض، ثم انتقلت الى اشتغاله بالمحاماة، والى تدخله في السياسة، واختياره عضواً في الكونجرس، وما زلت أتتبع في تفصيل ارتقاءه في المحاماة والسياسة، واهتمامه بمسألة الرق، وردوده على خصومه، وما كان من الأحوال السياسية المحيطة به ليفهم سيرته حق الفهم من لا يلم بتاريخ الولايات المتحدة، حتى بلغت ترشيحه للرياسة، فبينت في إسهاب كيف رشح، ومن نافسه، وما قيمة منافسيه، ثم شرحت المعركة الانتخابية في استيعاب لا أذكر له نظيراً في كتاب واحد مما قرأت، وأخيراً بلغت بسيرته ارتقاءه للرياسة، وأعتقد أني وضحت ذلك جميعاً مع جهلي بتاريخ أسلافه، ذلك الجهل الذي لم تكن لي ولا لغيري فيه حيلة. . .
وثمة مسألة أخرى أخاصم ناقدي الكبير فيها خصاماً شديداً، وهي أنه ذكر عن كتابي أنه (ليس فيه إلمام كاف بسلسلة المصادفات المتوالية التي ساقته إلى رياسة الجمهورية)؛ وليسمح لي الأستاذ الكبير أن أقول له - وهو العليم الذي لا يُعلَّم - أن المصادفات إذا كان لها شأن في حياة بعض العظماء، فإن لنكولن أحد من تخلو حياتهم من المصادفات خلواً تاماً. ولعله أوضح مثل في هذا الصدد، وإلا فأي عصامية أقوى من عصاميته؟ وما عمل المصادفات في حياة نجار ابن نجار شق طريقه في الحياة كما كان يشق طريقه بين أحراش الغابة، فقيراً لا جاه له ولا نسب يعتمد عليه، ومازال يتكئ على نفسه حتى أصبح رئيس الولايات المتحدة؟ كلا، ليس للمصادفات دخل في حياة لنكولن، بل لقد كان تعترض له أشد الصعاب، وقد كان يخفق مرات فيما يسعى إليه، ولقد نافسه في حزبه خصوم شداد، وكاد يتغلب عليه سيوارد أقوى خصومه، فيظفر بأغلبية المؤتمرين من الحزب الجمهوري الذين أرادوا ترشيح رجل من الحزب للرياسة؛ ولقد كان هو ينتظر الفشل ويتحدث به إلى هرندن؛ وإذا كانت المسألة مسألة اختيار يقوم على الموازنة والخصومة، فأي دخل في ذلك للمصادفة التي تقوم على الحظ؟ ذلك - كما أسلفت - ما أخاصم فيه ناقدي الفاضل، وكنت أحب أن يضرب مثلا لأثر المصادفة في حياة لنكولن. والحق اني حرت في قوله (وقد كان من الجائز جداً ألا يصل إلى رئاسة الجمهورية، لأنه لم ينجح قط في انتخاب أو ترشيح إلا كان للمصادفة في اللحظة الأخيرة أكبر الأثر في هذا النجاح). ولكم يسرني ويسر قراء الأستاذ الكبير أن يصرب لنا بعض الأمثلة لما يذكر.
وذكر الأستاذ الفاضل عن الكتاب قوله: (وليس فيه تعليق على مقتله، ولا عن المتآمرين عليه (؛ والحق أنها جريمة غير محددة الدوافع أشبه بجريمة أبي لؤلؤة في ضيق نطاقها المعلوم. وأما بطل الجريمة فلم يذكر شيئاً، ولم يصل القصاص فيها إلا إلى ثلاثة أشخاص من شركائه؛ وخير ما يقال عن ذلك القاتل ما ذكره الأستاذ العقاد نفسه حين يقول: (وجملة ما يقال عنه أنه ممثل فاشل أراد أن يعوض فشله في أدواره المسرحية بهذا الدور من أدوار المغامرات المعهودة في تاريخ البلاد الأمريكية، ولولا عوارض شخصية في طبيعة هذا المفتون لما وقع الحادث على الإطلاق). . . وأظن أنه لا محل بعد هذا لأن يؤخذ على الكتاب أن (ليس فيه تعليق على مقتله ولا عن المتآمرين عليه) فضلا عما أوجبه الأستاذ من اهتمام خاص بحقائق مصرعه فيما أوجب من أمور ذكر أن العبرة من تاريخه لا تتم إلا بها.
بقيت مسألة واحدة، وهي أن الأستاذ الجليل يرى أني - كما يبدو لأول وهلة من كتابي - موفق في تحقيق معلوماتي ووزن أبطالي، إلا أني حين أحتاج إلى الميزان المشترك بين أبطال متعددين أضطرب في الميزان بعض الاضطراب، وقد يكون هذا صحيحاً، ولكني لا أستطيع الجزم بصحته كما لا أستطيع الجزم بنفيه؛ وذلك لأني لست أذكر أني عنيت بالميزان المشترك، فقد كنت أصف كل شخص وحده، ولم أصدر حكما على لنكولن بعد الموازنة بينه وبين غيره، ولهذا لم تتضح في ذهني عبارة الأستاذ الناقد: (ومن أمثلة ذلك في تاريخ لنكولن أن كلامه عن بطله صحيح، وأن كلامه عن دوجلاس مزاحمه صحيح، ولكنه إذا عرض الرجلين على الميزان المشترك لم يبلغ من الدقة ما يبلغه من وزن كل منهما على انفراد).
وبعد، فإني أعود فأقدم للأستاذ الجليل عظيم شكري على فضله، وأعبر له عن بالغ سروري واهتمامي بنقده، وشديد حرصي على الإفادة من إرشاده ونصحه، فذلك دأبي معه في كل ما أقرأ له منذ نشأتي. . .
الخفيف